نسعى بالرِّجل نحو معظم الأهداف… بينما تبقى العين موطِن الحلم، وتُسكِنه المخيّلةَ إن طال به المقام… إلى أن تصحو الإمكانات، فيُضحي بالإمكان تجسيد ما يصبو إليه المرء بعد طول مخاض، في آتون انتظار الأماني.
يشرع المرء حينها، يرمي جسوم الأحلام المحقّقة مِمَّا توفّر من قشيب اللّبوس في خزائن مُناه، لترفل بالحُلل الزّاهية، التي أعدّها لحلول لحظة خروجها إلى النّاس، إنجازاتٍ ومشاريعَ وإبداعاتٍ…
لقد وهِب المعلم مقدرةً بسانحاتٍ عدّةٍ، على مراقبة عيون طلاّبه الّذين يلتقيهم لفتراتٍ طويلةٍ نسبيّاً، وهو يعلّمهم وينشِّئهم. وفي الحالين، أَمعلّمًا كان أَمْ مُراقبًا أضحى في فترات الإمتحانات، التي تتخلّل العام الدّراسي، أو تلك الّتي يتحدّد على إثرها مصير العام الدّراسي، بعد إجراء الإمتحانات الرّسميّة… فكلّ معلّمٍ يتسنى له أن يقرأ حَوَرًا في عيونهم نحو البحر، وعشقًا له على شدّة ملوحته وولعه بابتلاع القدرات الفتيّة، ناهيك إلى حَوَلٍ بهما عميقٍ، ما بين كتابٍ وخلف بحارٍ: يبلبل بصر وبصيرة متعلّميه وطلاّبه، الّذين ينظرون إلى مغادرة الوطن، في سبيل تحقيق المستقبلات وبناء الذّوات، خارج النّطاق الجغرافي لوطننا لبنان؛ بالرّغم من أنّ هذا الوطن قد منحهم من قبل، كلّ سمات الكرامة، من هويّةٍ ونسبٍ وما يتّصل إليهما…
لِمَ؟ ببساطةٍ، لأنّ هذا الوطن، وبالرّغم من كلّ ما قّدّمه لهم، ها إنّهم يشهدون على تقويض مختلف دعائمه، على أيدي أسياد القرار فيه! بعد أن كان المواطنون قد أولوهم ثقتهم، في سبيل إعلاء بنيانه وتوفير كرامة العيش لأهله، وجعله عزيز الحضور بين أترابه من الدّول، كوطنٍ مستقلٍّ سيّد نفسه… فلم يتحقّق لهم حفظ ذلك على أيدي هؤلاء… حين خاب ظنهم وخبا فألُهم في أيٍّ من الأماني، الّتي كنزوها للأيّام الـمُقبلات… فباتوا ينتظرون اللّحظة المناسبة، ليهرِّبوا أحلامهم ومُناهم في حقائب السَّفر، مع ما يعدّون ويوفِّرون من عتاد ومَتاع السّفر!!!
يلملم شبابنا حطامات أمانيهم والطّموحات، من بين أنقاض الوطن، ملهوفين إلى حلول مواعيد فراقٍ قسريٍّ، حتّمه عليهم قصور منابت الأحلام وبستانييها، عن تقديم الخيور والمواسم الّتي تجعلهم به يتعلّقون؛ وفي مصرف ازدهاره وتحقيق ّذواتهم، أعمارَهم يصرفون وقدراتِهم الفكريّة والجسديّة أرضَه التي تحتاجهم، لتبقى عزَّتها موفورةً، يودعون!!
أمّا وقد آلت الأوضاع في بلادنا إلى هذا الدَّرك من التّخلّف، في تأمين فرص العمل والقدرة على العيش الكريم، فبتنا ملزمين نحن الآباء والمربّين- العضّ على جراح الفرقة، مخلّفةً نُدبًا لن يمحوها زمنٌ، بين جيلٍ يغرب يومًا بعد يوم، وجيلٍ ناشئ لا يتوانى البتّة عن اقتناص أيَّةٍ من فرص الرّحيل كلّ يوم، آملين أن ينقظوا غدهم من براثن يومهم وأسياده، الّذين خذلوهم بتصرّفاتهم، يوم أساؤوا الأمانة، فأهدروا صوالح البلاد وتركوا مواطنيها، يتسوّلون تحقيق الأحلام في غير ديارهم…غير واثقين من العودة الميمونة، بعد كدّهم والكفاح؛ حيث غدا من بينهم كثرٌ، يوم يقرّرون العودة إلى الوطن، متأبطين جنى غربة السّنين: يُغتالون بألف سببٍ وسبب، تبديها السّفارات والمسؤولون فيها لذويهم، وقلّما تقنع الأهل التّلفيقات…
لا عجب أن يحدث لوطن الأرز وأهله، ما يحصل معهما وما ينوبهما من النّائبات، تنـزل بقدراتهما والكرامات، حيث بتنا نحيا في غربةٍ عن ذواتنا، هاجرين مُهجّرين عن مكامن الأحلام فينا… وصرنا نتأسّف على كلّ ما كان لنا ونُزِعَ منّا، فغدونا شعبًا مشرد الحلم منزوع الحقيقة، مُلتاعًا على فقد أمجادٍ، كان قد حفظها لنا الأجدادُ، وها نحن نشهد اليوم على هدرها لأنانيّاتٍ متحكِّمةٍ بنا، وترهّلٍ قد استفحل فينا!