اللبنانيون والصحافيّون منهم في الطليعة
حبّروا بدمهم وثيقة الحرّية
قال السيد المسيح: “تعرفون الحقّ والحقّ يحرركم”
وقال عمر: “متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”
وقال الامام علي “لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً”
وقال مار توما الاكويني ” إن الله الذي خلقك من دونك، لا يستطيع أن يخلصكّ من دونك”.
هذا التلازم بين الحريّة، والحقّ والارادة، هو جوهر الحياة الانسانية، فلا تضاد بين هذه الاقانيم، بل تكامل يطلّ على أسرار الوجود.
فالديانات السماوية، والفلسفات الوجودية تلتقي على تقديس الحرية، لانها حقّ لكلّ إنسان، وليست منحة أو هبة من أحد.
واللبنانيون، والصحافيّون منهم في الطليعة، حبّروا بدمهم، وثيقة الحرّية، حتى إذا عفّ لونها، أعادوا صباغها من جديد. وهم أدوّا جزيتها، عندما تقدمّت مواكبهم إلى أعواد المشانق في العام 1916، يجودون بأغلى ما ملكوا: أرواحهم، التي سمت فوق جبروت الموت، وظلوّا يغدقون بسخاء حتى يومنا هذا، دماً يستسقي دماً، من أجل أن تبقى رايتها مرفوعة تتحدّى الزمن، وبطش الطغاة، تحكي حكاية الآباء، وشمخة الجبين.
وأن من يمسس الحرّية في لبنان، هو كمن يهوي بفأس على جذع أرزة، ومطرقة على واحد من أعمدة بعلبك.
إن الحرية محور الحياة الدنيا، حدودها الضمير والقانون والشعور بالمسؤولية، وإلاّ يكون التحوّل عن غائيتها، معادل لالغائها.
المشكلة اليوم لا تنحصر بثنائية الحرية والمادة. انها مشكلة قائمة ومزمنة. فالأساس يكمن في الدور والرسالة، كونهما ضمانة القيم الاخلاقية والاجتماعية التي يتعين على كل اعلامي التحصن بها. وفي هذا المجال علينا الالتفات الى الوضع الجديد الذي اوجده التطور الرقمي، وما أحدثه من إرتدادات، ما يتطلب التفكير بمقاربات مختلفة لدى البحث في واقع الاعلام ومرتجاه.
هنا المعادلة الخطيرة، التي لا بد لها من بوصلة تهدي، وتفتح الطريق أمام السير بين الخطوط المتعرجّة، والصحافي هو حامي الحريّة، ورأس حربتها، ولأنه كذلك، فمن حقّه على دولته أن تكون إلى جانبه، وأن تقف على معاناته، وتحصنّه بالرعاية التي تقيه شرّ العوز، في هذه الأيام العجاف، ليتمكّن من أداء رسالته بتجرد، والإضاءة على مكامن الخطأ – وما أكثرها- في مجتمعه، ليجتنب الوقوع في الخطيئة.
في اليوم العالمي لحرية الصحافة، نشهد للحّق والحقيقة، داعين الزملاء إلى الانقياد لمثلها، ليقودوا الناس إليها. وهذا لا يكون إلاّ بانقاذ الصحافة والصحافيين، لانهم شكلوا الذاكرة الجمعية للوطن وابنائه، وكتبوا مسودة تاريخه، وسجلوا وقوعاته، وكانوا علامة إزدهاره.
حريّة الصحافة في لبنان جعلته ملاذاً لكل من نبت به أرضه، وعبست في وجهه الاقدار، وأصبح بفضلها مطبعة الشرق، ومكتبته، ومسرحه، وجامعته،ورافداً رئيساً لاقتصاده الوطني. واعطته هويته “الكوزموبوليتيه”، ولم تكن يوماً عالة عليه. ويوم كانت صحافة لبنان بخير، كان لبنان بألف خير.
والدولة اللبنانية مؤتمنة على هذا التاريخ الثّر، وغير معفاة من واجبها تجاه هذا القطاع الذي يحتضر، لأن إحتضاره يعني إنطواء صفحة مشرقة، لا بل الصفحة الأكثر إشراقاً من كيان الوطن. قلنا الكثير عن الازمة التي عصفت بالصحافيين ومؤسساتهم، وطاولت لقمة عيشهم، وموارد رزقهم. وإن القليل الذي يحتاجونه لا يوازي معشار ما هدر، وما يمكن أن يهدر، فلتبادر الدولة الى رعايتهم وفاء لدورهم التاريخي المشرف، ونحن متيقّنون من تكاتف الجميع لننهض معاً إلى ورشة تعيد إلى المهنة تألقها. فالافكار كثيرة، والفعلة ليسوا قليلين، وهم جاهزون لمواجهة التحدّي، والتصدّي للمعوقات، ويجب ألاّ يقوم بيننا أيّ تصادم. فأن ننهد إلى التكامل، يعني أن ننتصر للحريّة، ونقّر بحق رجال الاعلام في الحياة الكريمة اللائقة التي تجعل منهم طاقة ايجابية في خدمة الوطن والمجتمع.
في اليوم العالمي لحرية الصحافة، ننحني أمام شهدائها الذين اعطوا من دون حساب، كما أمام شهدائها الأحياء الذين أفنوا زهرة العمر، وسابقوا عقارب الساعة في بذل مضن لم يحصدوا منه سوى الجحود.
في هذا اليوم المبارك، نتوجه إلى الطغاة اينما كانوا، ومهما سمت بهم الرتب، ممن اعتادوا البطش بالصحافيين، والفتك بهم، والقاءهم في غياهب السجون، يسومونهم أمّر العذابات واقساها، مذكرينهم بقول شاعر القطرين خليل المطران:
كسّروا الاقلام هل تكسيرها يمنع الأيدي أن تنقش صخراً؟
قطّعوا الايدي هل تقطيعها يمنع الاعين أن تنظر شذراً؟
اطفئوا الاعين هل اطفاؤها يمنع الانفاس أن تصعد زفراً
اخمدوا الانفاس هذا جهدكم وبه منجاتنا منكم فشكراً.
***
(*)كلمة ألقيت في اللقاء الذي نظمته نقابة المحررين لمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة الجمعة 3 مايو 2019، في قاعة المحاضرات في مبنى بلدية الحازمية.