“المطران رولان” النائب البطريركي الصلب وديبلوماسي الكنيسة

“دعوا الفقراء يأتون إلي”

و”خلـّينا  نقطّع المرحلة سوا”

roland abou jaoude

feather_pen 111 الصحافي حبيب شلوق

بعبارة من أربع كلمات استطاع تخطي سؤال “ملغوم” وُجّه إليه في محاولة لإحراجه وإخراجه، وبالتالي توريط البطريركية المارونية والطائفة في مزيد من العنف والإقتتال والتشرذم.

في المقار الرسمية ـــ في العالم الثالث طبعاً ــ غالباً ما تلفتك أسئلة “غير بريئة” وموجّهة لمصلحة “الوالي”، تماماً مثل السؤال الذي تم توجيهه إلى المطران رولان أبو جودة الذي كان ينشط كرسول سلام ووفاق ومحبة، متنقلاً بين القذائف لوقف “حرب الأخوة” أو ما أطلق عليها “حرب الإلغاء” عام 1990. في عزّ ذلك التشنج سئل المطران أبو جوده عن تفسيره لموقف البطريرك صفير المغاير لموقف رئيس الحكومة العسكرية العماد ميشال عون، فرد بديبلوماسية مميزة مشهودة له وبعبارة مسبوكة سبكاً:” البطريرك بطريرك والجنرال جنرال”.

كان المطران رولان أبو جودة إلى حد بعيد وبالمعنى الإيجابي والذكي، تاليران الكنيسة وريشيليو المارونية السياسية.

كان ذلك الأسقف “إكتشافاً” موفــّقاً من المثلث الرحمة البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش ومجمع الأساقفة الماروني عندما سامه البطريرك مع بداية ولايته في 7 أيلول 1975، مع المطرانين ابرهيم الحلو وأنطون جبير أساقفة، واختاره معاوناً ونائباً بطريركياً عاماً. وهو نائب بطريركي تجدّد تعيينه مع ولاية البطريرك مار نصرالله بطرس صفير. وإذا بــه كما صديقه البطــريرك صفير نائب بطريركي لبطريركين “مشاكسين”( المعوشي وخريش، ثم خريش وصفير).

والمطران أبوجوده لمع أينما حل، إذ حقق نجاحاً باهراً عندما انتخبه مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك عام 1977 رئيساً للجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، كذلك نجح عندما انتخب رئيساً للهيئة التنفيذية لمجلس البطاركة والأساقفة 1986، وتميّز لما عُيّن مشرفاً على المدرسة الإكليريكة المارونية في غزير 1977 ، كذلك كان مميّزاً لما انتخب رئيساً للمؤسسة الإجتماعية المارونية عام 1987، فمشرفاً على المحاكم المارونية (1992).

ونظراً إلى نجاحاته في مجال الإعلام الكاثوليكي ، عيّنه البابا القديس يوحنا بولس الثاني عام 1999 عضواً في المجلس البابوي لوسائل الإعلام، قبل أن يُعيّن عام 2004 قاضياً في محكمة سينودس الأساقفة المارونية، وبين هذه المهمة وتيك وتلك عيّن زائراً بطريركياً على موارنة القاهرة والإسكندرية وزائراً رسولياً على موارنة أوستراليا.

والمطران رولان أبو جوده الذي غاب أمس عن عمر ناهز التاسعة والثمانين بعد غيبوبة استمرت أشهراً، فخسرته الكنيسة وأصدقاؤه ولبنان ، درس في جامعة القديس يوسف وفي كلية الآداب العليا ثم في جامعة بوسطن في الولايات المتحدة الأميركية حيث نال إجازة في التربية بعد إجازات في الحقوق اللبنانية والفرنسية واللاهوت والآداب والتربية، ومارس المحاماة قبل أن يلتزم الكهنوت ويصبح خادماً لرعية مار يوسف ـــ قرنة شهوان، ثم نائباً عاماً لأبرشية قبرس في ولاية المثلث الرحمة المطران الياس فرح، ثم قاضياً في المحكمة الروحية.

والعصر الذهبي للمطران أبو جوده كان في عهد البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، إذ كان الإثنان “على موجة واحدة” وفي تفاهم تام، وكان البطريرك صفير حريصاً على أن يوليه النيابة العامة البطريركية كلما قام برحلة خارجية، وإذا كانت الرحلة حساسة ومهمة، ضمه في عداد الوفد المرافق مثل رحلات الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وفرنسا والبرازيل وأوستراليا وكندا وغيرها. وفي هذه الرحلات كان أبوجودة اليد اليمنى لصفير، وغالباً ما كان يستسلم الآخرون للراحة والنوم في الفضاء خلال الرحلات الطويلة بينما يبقى الرجلان ساهرين يكتبان ويحضّران للقاءات الرسمية، متسلـّحين بثقافة لافتة ونبرة خطابية متماسكة، وتعمّق في اللغات العربية والفرنسية والإنكليزية والإيطالية واللاتينية والألمانية والسريانية وغيرها.

والثقة الكاملة التي كان يحظى بها من البطريرك صفير، تجلّت خصوصاً في الطلب اليه البقاء في منصبه نائباً بطريركياً حتى بعد بلوغه السن القانونية ولنحو ست سنوات “إذ خلـّـينا نقطّع هالمرحلة سوا”.

والمطران أبو جودة هو أحد مطارنة وزّع كل ما كان يصل إليه من رسوم ومشاركات و”جزو” على الفقراء، وإذا بالأسقف سليل العائلة المعروفة والمرتاحة مادياً، يجزل العطاء، ويخصص يومين في الأسبوع الثلثاء في المركز الكاثوليكي للإعلام في جل الديب والخميس في جناحه في بكركي لاستقبال فقراء ومعوزين. ولا يخرج أي زائر منهم خائباً ، مطبقاً مقولة السيد المسيح ولو بتصرّف “دعوا الفقراء يأتون إلي ولا تمنعوهم”.

ومن أعمال أبوجودة المشهود له فيها تأسيسه المركز الكاثوليكي للإعلام، ثم نقل مقر المركز من شقة متواضعة في جل الديب إلى شقة أكبر في مبنى شيّده شقيقه المرحوم رياض في البلدة عينها، والإقامة فيها فترة من دون مقابل قبل أن يتمكّن مع الخيّرين ومنهم أنسباء له من شراء هذا المركز.

وأذكر جيداً أن”المطران رولان” كما كان يحلو لعارفيه ومحبيه مناداته، كان يرأس اجتماعاً شهرياً للجنة الأسقفية لوسائل الإعلام ـــ وكاتب هذه السطور عضو فيها منذ سنين ـــ وما أن ينتهي الإجتماع حتى يدعو أعضاء اللجنة إلى الغداء في دارة خاله المرحوم حفيظ أبو جودة.

والدعوة والغداء يتجددان كل أول ثلثاء من كل شهر.

وفي إطار التماسك العائلي والإلتفاف حول “المطران رولان”، يروى أن العائلة قدمت إلى المطران أبو جودة سيارة جديدة فخمة بعدما رفض تغيير سيارته “المرسيس” القديمة السوداء التي كان يتنقل فيها مع سائقه وشماسه سليم بوفاضل، ولكن السيارة الجديدة تحولت أنقاضاً عندما أصابتها قذيفة في باحة قصر بعبدا خلال “حرب التحرير” بينما كان في مهمة بطريركية.

وفي اليوم التالي كانت سيارة من الطراز نفسه واللون نفسه ورقم اللوحة نفسها هدية عائلية في باحة بكركي، ومفاتيحها في يد المطران أبوجودة.

رحم الله “المطران رولان” الذي أنهكته الشيخوخة وأدخلته مستشفى سيدة المعونات في جبيل، قبل أشهر، وتوفي صباح الخميس 2 أيار 2019 حاملاً في قلبه الكبير وزنات كثيرة لا تحصى ولا تعد من أعمال الخير والصلاح لمواجهة الآب السماوي، فيُدخله فرح السيد.

اترك رد