مقدِّمة: العلاقة بين لبنان ومريم في التقاليد والرواية الدينيّة:
تعود علاقة الإنسان اللبنانيِّ عامَّة، والمسيحيِّ خاصَّة ، بمريم العذراء، إلى عهود المسيحيَّة الأولى، وامتزجت شخصيَّة مريم بحياة اللبنانيِّ في بيته، وعمله، وحقله، وفي حلِّه وترحاله، فهي الأمُّ القدِّيسة، والشفيعة الحارسة، والمعينة على الشدائد، والحامية من الأخطار.
وتروي التقاليد اللبنانيَّة أنَّ مريم العذراء كانت تزور جنوب لبنان، فقد كانت مع ابنها يسوع في قانا الجليل، عندما حدثت معجزته الأولى بتحويل الماء إلى خمر، وهي التي طلبت منه أن يجترح تلك الأعجوبة، وكانت ساعته لم تأتِ بعد: “وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. وَدُعِيَ أَيْضاً يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْس. وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: “لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ”. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: “مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ”. قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: “مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ.”(1)
وليست تلك المرَّة الوحيدة التي وطئت فيها قدما العذراء أرض لبنان، فقد كانت تتردَّد إلى تلك المنطقة، وترافق السيِّد المسيح في بشارته. وقد ورد في إنجيل لوقا أنَّ يسوع كان يأتي إلى جنوب لبنان، ويشفي أناساً كثيرين من ساحل صور وصيدا: “ثم نزل بهم فوقف في مكان منبسط، وهناك جماعة كبيرة من تلاميذه، وحشد كبير من الشعب من جميع اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيدا، فقد جاءوا ليسمعوه ويبرأوا من أمراضهم.”(2). ويذكر الباحث رونكاليا أنَّ يسوع زار قانا الجليل مرَّتين على الأقلِّ، ومن هناك لجأ مرّات إلى منطقة صور وصيدون في فينيقيا(3).
ويؤكد رونكاليا على أنَّ المسيح زار أماكن أخرى في لبنان، كجبل حرمون، والصرفند أو ساريبتا(4).
وما يعنينا من هذا الكلام، هو أنَّ مريم العذراء التي اشتهر عنها بأنَّها كانت ترافق ابنها في تنقُّلاته بين المدن والقرى، قد تكون جاءت معه عدَّة مرّات إلى لبنان. ويَعتقد أهالي الجنوب، وبلدة مغدوشة خصوصاً، أنَّ مغارة المنطرة القريبة من بلدتهم، هي المكان الذي كانت تنتظر فيه العذراء مع يوحنَّا الحبيب ابنها يسوع فيما كان يبشِّر في الجنوب اللبنانيِّ. يقول رياض حنين: “إنَّ مقام سيِّدة المنطرة يقع داخل مغارة على ربوة في بلدة مغدوشه (قضاء صيدا). واسم سيِّدة المنطرة جاء من تقليد يقول إنَّ السيِّدة العذراء مريم أوت إلى هذه المغارة تنتظر، أي “تنطُر” بالعامِّيَّة، عودة المسيح من زيارة مدينة صيدا.”(5)
وقد اكتشف الأهالي مغارة المنطرة بالصدفة، فبينما كان أحد الرعاة يرعى قطيعه في المنطقة، سقط له جدي في فوهة سقف المغارة، ولمَّا حاول إنقاذه، شاهد بصيص نور، فاقترب ليرى ما في الكهف، فإذا هو أمام صورة لمريم العذراء مرصَّعة بالذهب، موضوعة على مذبح داخل المغارة، فأذاع الراعي الخبر بين الناس، وتحوَّل المكان إلى كنيسة متجدِّدة(6).
ويُرجَّح أنَّ المغارة كانت كنيسة في القرن السابع أو الثامن الميلاديّين، وقد يكون الناس في المنطقة تعبَّدوا لمريم العذراء في ذلك الزمان، وجعلوا كنيستهم في مكان لا يعرفه أحد سواهم.
وتذهب بعض التقاليد اللبنانيَّة، وبعض الباحثين أيضاً إلى القول إنَّ مريم العذراء ولدت في لبنان، وانتقلت بعد ذلك إلى الناصرة، حيث نزلت عليها البشارة. ويؤكِّد الشيوخ في قانا والمنطقة المحيطة بها أنَّ مريم العذراء ولدت في منطقتهم، ونشأت في ربوعها، ثمَّ انتقلت فيما بعد إلى بلاد الجليل(7).
وقد اكتشفت في منطقة القلـَيـْلـَة القريبة، أضرحة تعود إلى آل عمران، أهل مريم العذراء، فـ”مقام عمران” (يواكيم) موجود في مكان قريب من قانا. وكانت هناك مزرعة تحيط بالمقام تدعى مزرعة عمران. وهذه المزرعة اندثرت في أوائل القرن الماضي، ولم يبق منها سوى معالم قليلة. جاء في الموسوعة اللبنانيّة: “تقع القليلة في قضاء صور…تُضمُّ إليها مزرعة عمران.”(8)
ويؤكِّد الأب يوسف يمِّين أنَّه “لو كانت مريم من الناصرة أو من فلسطين، لكان بقي ولو أثر بسيط من أضرحة والديها، أو أهلها، أو أحد أقربائها، وأنسبائها. كلُّ هذه الأضرحة موجودة في جوار قانا الجليل اللبنانيَّة.”(9)
ويتماشى ما يذهب إليه الأب يمِّين مع معتقدات شعبيَّة سائدة في المنطقة، بأنَّ العذراء من لبنان. كما يتماشى مع ما جاء في التوراة من أنَّ العروس (التي ستحبل من الروح القدس) هي من لبنان: “هلمِّي معي يا عروس من لبنان.”(10)
وسواء كانت العذراء من لبنان أم من فلسطين، فلا شكَّ في أنَّها كانت تتردَّد إلى الجنوب اللبنانيِّ، وقد نشأت بينها وبين اللبنانيِّين علاقة وطيدة، هي علاقة الوالدة بالأبناء، فلا تكاد تخلو قرية أو بلدة أو مدينة لبنانيَّة، خصوصاً المسيحيَّة منها، من كنيسة على اسم السيِّدة العذراء، فهي حارسة للبنانيِّين وأرضهم ومزروعاتهم وقطعانهم، من كلِّ أذى. وهم أيضاً يلجأون إليها في الحروب، ويدعونها في صلواتهم الليتورجيَّة بـ”أرزة لبنان”، وبـ”سيِّدة لبنان”، وقد بلغ عدد الكنائس والمذابح المكرَّسة على اسم السيّدة العذراء في لبنان 1500 كنيسة و3500 مذبح(11).
وعبرت “سيِّدة لبنان” البحار، لترتفع على اسمها الكنائس الفخمة في المغتربات، كما في أستراليا والأميركيَّتين. يقول الأب أميل إدِّه: “اسم “سيِّدة لبنان” اجتاز بلدان الشرق إلى ما وراء البحار، فحيث يحلُّ اللبنانيُّ، يذكر دائماً لبنان و”سيِّدة لبنان”. يذكرها في بيته وعمله، كما يناجيها في فرحه وحزنه. يناديها في عسره ويسره، كما يدعوها في حلِّه وترحاله، فأضحت العبادة المريميّة عنصراً من حياتنا اليوميّة وفصلاً من تاريخ شعبنا.”(12)
وفي ظلال هذه العلاقة الحميمة بين الشعب اللبنانيِّ ومريمه الحنون، يمكننا أن نسأل أنفسنا: كيف استطاعت مريم- بما لها من قوَّة ونفوذ في وجدان اللبنانيّ- أن تتغلغل في تراثه اليوميِّ، وعاداته المكرَّرة، لتصبح جزءاً لا يتجزّاً من شخصيَّته الاجتماعيّة؟ وكيف يتعامل اللبنانيُّ مع مريم العذراء خارج الإطار الليتورجيِّ، أي في حياته العامَّة، وبيته، وبيئته الأوسع؟ وما هي المعتقدات التي يعتقدها اللبنانيّون أو يروونها في إطار حبِّهم لمريم العذراء؟
العذراء في الحياة اليوميّة للبنانيّين:
يكرِّم اللبنانيُّون عموماً مريم العذراء، ويضع اللبنانيُّ صورتها في بيته، وعمله، وسيَّارته، وحافلة الركَّاب التي يستقلُّها، وفي البيوت القديمة، المبنيَّة من حجر، تُعلَّق صورة العذراء فوق العتبة العليا، وهي حجر مستطيل فوق باب المنزل. وفي اعتقاد القرويِّين أنَّ العتبة هي الحدود التي تفصل بين البيت وصنوف الأذى التي تأتيه من الخارج، سواء تلك التي تسبِّبها الكوارث الطبيعيّة، كالأعاصير، أو تلك التي تأتي من الإنسان، كالحسد وصيبة العين، أو تلك التي يأتي بها الشيطان نفسه، كاللعنة او الدنس. ولذلك فإنَّ تعليق صورة العذراء مريم فوق العتبة يعني الحماية من الشرور، وفي ذلك حماية أيضاً من العتبة السفلى، التي تعتبر ملجأ للأرواح الشرّيرة، أو الجنِّ، فالجان لهم ميل خاصٌّ إلى الإقامة ” في البيوت المهجورة، وحول المواقد، وتحت عتبات البيوت.”(13)
وتعتبر صورة مريم في البيوت والمعابد رمزاً للأمان والاطمئنان، ويسجد اللبنانيُّ المتعبِّد أمام الصورة، ويضيء لها الشموع ويحرق البخُّور، ضارعاً إليها لكي تحميه وتحمي أولاده وأرزاقه، وتعينه في حياته.
ومن المظاهر التي يكرِّم بها اللبنانيّون مريم العذراء إقامة المزارات أمام البيوت أو عند مداخلها. وكثيراً ما يعمد اللبنانيُّ إلى بناء مزار للسيِّدة العذراء، ويحيطه بالتكريم والوقار، بعد الفراغ من بناء منزله، وذلك تعبير عن شكره وامتنانه للسيِّدة التي أعانته على إتمام عمليَّة البناء، وطلب للحماية الدائمة منها.
ويعلِّم اللبنانيُّون أولادهم منذ نعومة أظفارهم على التعبُّد لمريم العذراء، والأطفال عادة يميلون إلى صورة الأمِّ التي تحمل طفلاً، فيهيمون بها، ويذوبون حناناً لرؤيتها. وتتوحَّد في الصورة شخصيّتا مريم والمسيح، فيصيران شخصيَّة واحدة، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر.
وعندما يقوم اللبنانيُّ بالأعمال الصعبة، فإنَّه يتضرَّع إلى العذراء لتعينه في عمله، فيقول: “يا عدرا”، أو يوصي أولاده قائلاً: “اتَّكلوا على العدرا”. ويورد أمين الريحاني ما يقوله الفلاّح اللبنانيُّ عندما ينوي القيام بعمل ما، فيستنجد بقوّة العذراء: “بقوّة مريم العذراء أقتلع هذه الشجرة (شجرة توت كبيرة)، وبقوّة مريم العذراء أطيح من هذا السطح وأمشي إلى عملي بخير وسلامة.”(14)
وتشيع في لبنان عادة تعليق الأيقونات المصنوعة من الذهب أو الفضَّة أو المعادن غير الثمينة، فتعلَّق تلك الأيقونات في الثياب، أو على جدران المنازل، حيث تظهر “مسبحة” الورديَّة، أو أيّ سُبحة أخرى، وهذه السُّبحة تتدحرج حبّاتها بين الأنامل الخاشعة، وفي جوٍّ من الصلاة والتقوى. يقول لحد خاطر: “من طاف لبنان، مدنه وقراه، كثيراً ما يرى هنا وهناك، فلاحاً أو عاملاً يغدو باكراً إلى عمله، أو يعود مساء منه، وأدوات العمل على ظهره أو كتفه، من معول، أو محراث ، أو فأس، والسبحة في يده، يقلِّب حبّاتها بين أنملاته، متمتماً عليها صلواته.”(15)
وقد أنتجت قريحة القرويِ صلوات خاصَّة بمريم العذراء، تناقلها الخلف عن السلف، ولا نجدها في الكتب المقدَّسة، والصلوات الليتورجيّة. ويروي لحد خاطر أنَّ جدَّته علَّمته صلاة، ليتلوها قبل أن يموت، فتنجِّيه من عذاب الآخرة: “وضعت جسمي على الأرض، وسلّمت روحي للربِّ، العذراء فوق رأسي، تسعى في خلاصي… يا عذراء يا أمَّ النور، يا شعّالة البخّور، اعطيني من كتابك مزمور، أصلِّي سبع مرّات في الليل، وسبع مرّات في النهار، وأخلص من عذاب النار.”(16)
ومن الصلوات إلى مريم أيضاً: “يا مريم، يا نقيِّه، بجاه ابنك عليِّ، بجاه ابنك والقدِّيسين، نجِّيني من الخطيِّه.”(17)
وتعبِّر هذه الصلوات، التي يتزاوج فيها النثر العامِّيُّ والقوافي الشعريَّة (السجع)، عن إيمان عميق بقدرة السيِّدة العذراء على تخليص النفس البشريَّة من عذاب النار، وهذه الصلوات، على بساطتها، صورة صادقة عن إيمان اللبنانيِّين بشفيعتهم الأولى، وثقتهم بها إلى نهاية الزمان.
ويروي أمين الريحاني كيف أنَّ القرويّين في بيت شباب يصلّون في حقولهم أثناء قطاف القزِّ، فيحوِّلون الحقل إلى كنيسة للصلاة: “سمعتهم يرتِّلون الصلوات ساعة الغروب، وهم في عملهم بين الأجران والدواليب. ترفع جميلة الصوت منهم صوتَها بطلبة العذراء: “كيرياليسون كريستياليسون، يا سلطانة العذارى، يا سلطانة الملائكة…” فيردُّ العمَّال، خمسون أو مئة منهم: “تضرَّعي لأجلِنا.”(18)
ويخبر المعمِّرون في مناطق كسروان أنَّ احتفالات سيِّدة الزروع كان لها معنى دينيّ، فكانوا يضعون صورة السيّدة العذراء في وسط الحقل، وعندما تُجمع غمار السنابل، كانوا يضعون الصورة على غمار القمح ويصلّون للعذراء، باعتبارها حامية للأرزاق والمحاصيل.
وتنتشر في القرى والمدن اللبنانيَّة أسماء الفتيات المتحدِّرة من شخصيَّة مريم العذراء، كمريم، وماري، وميراي، وسيِّدة، وعدرا… ويضطرُّ الوالد أحياناً إلى تسمية ابنه باسم سايد، ليقيم توازناً بين المؤنَّث (سيِّدة) والمذكَّر، وهذه عادة شائعة في بيوت اللبنانيِّين. ويتَّجه العديد من المسلمين إلى تسمية بناتهم باسم مريم، تيمُّناً بالعذراء التي ورد اسمها سبعاً وثلاثين مرَّة في القرآن الكريم(19).
وعندما تمرض إحدى الفتيات، يقوم أهلها بإلباسها ثوباً من أثواب القدِّيسات، وكثيراً ما يكون ذلك الثوب أزرق اللون، شبيهاً بالثوب الذي يعتقد الناس أنَّ مريم العذراء كانت ترتديه، وتبقى الفتاة مرتدية ذلك الثوب إلى أن تشفى من مرضها، فيقال: “نُذرت الفتاة لمريم وشفتها من مرضها”، أو: “كانت منذورة لمريم العذراء”…
وتنتشر ظاهرة النذور بكثرة في القرى اللبنانيَّة، كأن يخصِّص المرء مبلغاً من المال أو يذبح نعجة، أو يقدِّم بعض ممتلكاته للدير، فإذا فشل في إيفاء نذره كما وعد، تقع به كارثة أو يتعرَّض لمكروه، فالنذور عند اللبنانيِّ واجب وفاؤها، ولو تأخَّر، “فلايجوز الإغضاء عنه، إلاّ إذا كان في ساعة ضيق.”(20) وقد يكون النذر بناء كنيسة، ففي جبيل مثلاً، نذرت إحدى السيِّدات، وهي من قرية المكبوسة، وكانت مصابة بمرض عضال، بأن تبني كنيسة إذا شفيت من مرضها، وبعد أن تأكَّد شفاؤها بنت كنيسة صغيرة على الشاطئ، دعتها سيِّدة المكبوسة.
وتسمَّى بعض النباتات في لبنان أيضاً بأسماء مريميّة، كزهرة بخّور مريم، وهي زهرة بريّة في الغالب، ذات رائحة عطرة، وتسمَّى في بلدان أخرى باسم عصا الراعي. والمقصود من تسميتها باسم بخّور مريم إقامة مشابهة بين رائحة الزهرة الجميلة والبخّور المريميِّ العطِر.
ويقوم الأطفال في القرى بصنع عقود وأطواق من أزهار بخّور مريم، ويعلِّقونها على صدور أمَّهاتهم، كناية عن الطهارة التي تنتقل من مريم العذراء إلى الأمَّهات في الأرض.
ولنبتة القوَّيسة الشهيرة في الطبِّ الشعبيِّ، اسم الميرميَّة، أو المريميَّة، أو عشبة مريم وتزرع هذه النبتة في حدائق البيوت بكثرة. وقد ذُكرت هذه النبتة تحت اسم “المريميَّة” في معجم النبتات الطبِّيَّة(21)، ما يؤكِّد على وجود هذه التسمية في لبنان، وتحديداً في بعض القرى الجنوبيَّة. وهذه التسمية منتشرة أيضاً في المناطق الفلسطينيَّة المتاخمة للحدود اللبنانيَّة الجنوبيَّة.
كما يسمِّي بعض سكّان الجنوب، وخوصاً في منطقة رميش، إحدى النبتات الخضراء، ذات الأوراق المستديرة، باسم “خُبز العذراء”، ويأكلونها.
ومن أهمِّ الدلائل على العلاقة الوطيدة بين شخصيَّة السيِّدة العذراء والإنسان اللبنانيِّ، أنَّه جعل لها أسماء زراعيَّة، فهي سيِّدة الزروع في كسروان، وسيِّدة التلَّة في دير القمر، وسيِّدة البطِّيخ في صفد البطّيخ (جنوب لبنان)، وسيِّدة الحقلة في سبعل (الشمال)، وسيّدة الوادي في بسبعل (الشمال)، وسيّدة السنبلة في العاقورة (جبيل) وسيّدة البيدر في حصارات ( جبيل)، وسيّدة البيادر في عبرين (البترون)، وسيّدة الفلاحة في تنورين، وسيّدة الحوش في غلبون (جبيل)، وسيّدة البعل (يُقصد بالبعل الزراعات البعليّة) في شربيلا (عكّار) .
وتدلُّ هذه الأسماء على أنَّ العذراء كانت، ولا تزال شفيعة المواسم والزراعات، فاللبنانيُّ المزارع أو الفلاّح، يلجأ إليها لكي تحمي محاصيله من القحط أو شرور الطبيعة.
واللبنانيُّ يحتفل بعيد انتقال السيِّدة العذراء، في الخامس عشر من شهر آب، بمظاهر دينيَّة واحتفاليّة، فتقام الصلوات، والاحتفالات التي تتخلّلها مظاهر البهجة والسرور. ويرافق العيد في بعض القرى “ولائم ورقص وإطلاق رصاص. وفي قرية بحمدون يذبحون خروفاً (أو أكثر)، ويطبخون بلحمه هريسة تُفرَّق على الناس صباح العيد في باحة الكنيسة. وفي جرود اللقلوق، يحتفي به (العيد) المسيحيّون، ويشركهم في بهجة العيد العربان الحالُّون في تلك الجرود، وبعض المسلمين من القرى المجاورة. ولهذا العيد مقام مرموق في خلده، على ساحل البحر، فإنَّهم يحتفلون به احتفالاً رائعاً في كنيسة السيِّدة، وبعد القدَّاس، تقام حفلة زجليّة يتبارى فيها قوَّالو المنطقة.”(22)
وفي شمال لبنان، تقام احتفالات مماثلة، فالمتديِّنون “يحضرون الزيّاح الذي يقام في هذه المناسبة، والذي يطوف خلاله الكاهن والحاضرون حول الكنيسة أو في شوارع البلدة. أمَّا الاحتفال في المناطق الجبليّة، والتي يسكنها الموارنة بشكل رئيسي (قضاء زغرتا- الزاوية وبشرِّي والبترون وبعض عكَّار) فمميَّز، ليلة العيد يسهر الشباب الراشدون على أنغام الطبل والزمر، في حلقات دبكة…. ويدوم الاحتفال حتّى ساعة متأخِّرة من الليل، ثمّ يُفصَّل له ملحق صباح اليوم التالي (يوم العيد).”(23)
والواقع أنَّ الاحتفال بعيد السيِّدة، يعمُّ جميع المناطق اللبنانيّة، وينام الناس في الكنائس، أو يخيِّمون بالقرب منها، وفاء لنذر، أو يقدِّمون الأموال لصندوق الكنيسة، ويضيئون الشموع، وتشعشع الكنائس بالأنوار في ليلة العيد. وفي زغرتا، يقوم الأهالي بالسير صعوداً إلى إهدن، أو العكس، مساء العيد (المسافة تزيد عن ستة عشر كيلومتراً)، ويكون بينهم صِبْية، ونساء حافيات. “وفي بعض بلدات بشرِّي (كحدشيت مثلا) تقوم مجموعة من الأهالي بجمع كمِّيّة من المال ومن القمح، بهدف تحضير كمّيّة كبيرة من الهريسة، توزع فجراً على منازل البلدة، فيأكل منها الجميع عند الظهر.”(24)
وفي بعض القرى، تُنظَّم احتفالات مماثلة، بعيد ولادة السيّدة العذراء، الذي يقع في الثامن من أيلول.
المعجزات المريميّة في الوجدان الشعبيّ اللبنانيّ:
لا شكَّ في أنَّ الشعب اللبنانيَّ شديد التعلُّق بالكرامات والمعجزات، فاللبنانيّون بطبعهم يميلون إلى القصص الغريبة التي تدغدغ خيالهم. ويتناقل السكَّان المحلِّيُّون أخبار الكرامات، التي قامت بها السيِّدة العذراء في مناطقهم، ويروونها في مجالسهم، ويشيعونها بين الأقربين والأبعدين، تعبيراً عن اعتزازهم بإيمانهم، وغبطتهم بقدرة العذراء مريم، رفيقتِهم وشفيعتِهم، على القيام بأعمال جليلة، لا يمكن أن يقوم بها أحد من الناس، مهما بلغ شأنه أو قوَته. وفي التاريخ اللبنانيِّ أقاصيص كثيرة عن كرامات العذراء المحارِبة، أو الحارسة، أو المنجِّية من الويلات، أو الطبيبة المداوية، ففي الحروب، كانت العذراء تدافع عن القرى، وتحمي الأطفال والأمَّهات بيديها المفتوحتين. يروي البطريرك الدويهي أنَّ سيّدة زغرتا ظهرت في معركة عام 1676 بين خيّالة من زغرتا ومقاتلين من آل حمادة: “وشهد عبد القادر سيِّد عردات والحاج محمّد قاطرجي خضر آغا أنّهم شاهدوا السيّدة فوق البرج علانية، وهي تصون النصارى بيدها وتطرد المعتدين عليهم.”(25)
وفي عام 1761، يتكرّر مشهد العذراء وهي تدافع عن الموارنة في الشمال، فقد ذكر عصام فريد كرم: “هوجمت الجبَّة من قبل آل حمادة، وآل الحرفوش، على رأس قوَّة قوامها ألفا رجل مدجَّجين بالسلاح، فخاف الموارنة من هذه القوَّة الضاربة، ولكنَّ رؤساءهم الدينيّين من كهنة ومطارنة، وعلى رأسهم البطريرك طوبيا الخازن (1756- 1766) جمعوا رعاياهم في الكنائس، وشجَّعوهم على المقاومة بحماية العذراء مريم، فنُظَّمت الأمَّة المارونيّة الصغيرة، بمساعدة حاكم الضنّية الشيخ ناصيف رعد، وقيادة بطرس كرم الإهدنيّ، فانتشرت القوة المارونيّة على تلال بشرِّي حيث سيمرّ المهاجمون، ووقعت المعركة التي دامت ثماني ساعات. ويقول الأب غودار نقلاً عن كبار السنّ في المنطقة: عند غروب ذلك اليوم، تلبَّدت السماء بالغيوم، وظهر قوس قزح امتدَّ على طول ساحة المعركة، وخرج منه ممرٌّ من النور الأبيض الساطع، مع سيِّدة حاملة السيف، تضرب به الأرض، فصرخ المقاتلون الموارنة: “إنَّها السيّدة العذراء، إنَّها السيّدة العذراء، أتت لتحمينا”. صُعق المقاتلون (…) من هذا المنظر، وهالهم منظر السيّدة التي يخافونها بشدّة، فهرولوا هاربين تاركين المعركة فتحرّرت الجبّة.”(26)
ويُروى أيضاً عن الشيخ ناصيف أبي نكد، وهو كبير مشائخ دير القمر قبل عام 1860 “أنَّه كان كلَّما أراد الذهاب إلى الحرب، يزور كنيسة سيِّدة التلَّة في دير القمر، ويحمل من ترابها شيئاً في عمامته، ناذراً بأن يخصَّها بأوَّل زياراته بعد عودته سالماً، ولم يكن ليرجع عن نذره حين مجيئه.”(27)
وكان الحكّام زمن الشهابيِّين، يضعون علم البلاد في كنيسة سيِّدة التلّة- دير القمر، ولا يخرجونه منها، إلاّ حين ذهابهم إلى الحروب مع رجالهم(28).
وتروي التقاليد الشعبيّة اللبنانيّة أنَّ يوسف بك كرم، كان يتعبَّد للسيّدة العذراء، يصلِّي إليها قبل معاركه وبعدها. و كان لا يقطع الصلاة عندما كانت العساكر العثمانية تقترب من مكان تواجده، ولا يخرج من الكنيسة قبل أن يتمَّ صلاته.
ويمضي الخيال الشعبيُّ اللبنانيُّ في رواية الكرامات التي صدرت عن مريم العذراء، فبناء بعض الكنائس اقترن بأعمال خارقة، كدير النوريّة (رأس الشقعة – شمال لبنان) يقال بأنَّ بانيه ربّان مركب كان قد أتى ليحتمي من رياح الشتاء في الخليج الذي تحته (الجبل البحريّ)، فرأى نوراً غير طبيعيّ، وقد تكرر هذا المنظر مراراً، فصعد إلى هناك، وشاهد أيقونة للسيّدة، فأيقن أنّ النور سماويّ، فذهب إلى بلاده، وجمع الدراهم وعاد ليبني الدير(29). وتعبِّر صورة سيِّدة النوريَّة المعلَّقة في الكنيسة عن مشهد البحر العاصف والسفينة في وسطه، والعذراء تحميها.
وحدثت كرامة مماثلة أثناء بناء سيِّدة النجاة في بلدة حالات (ساحل جبيل). يروي آل ضوّ الذين بنوا هذه الكنيسة أنَّه في عام 1885، “ظهرت السيّدة العذراء على الياس فارس ضوّ، وطلبت منه أن يبني كنيسة على اسم سيّدة النجاة، فاستصعب الأمر لعدم توفُّر المال لديه، وعوضاً عن ذلك، بنى مزاراً بسيطاً، كان كلَّ ليلة يضيء فيه إناء من الزيت، وكان كلّما عرَّج لتفقُّد المزار يجد الإناء منطفئاً، وملقى على الأرض. عندئذٍ طلب من العذراء أن تظهر له مَن يطفئه. وفي اليوم التالي، وجد كلباً ميتاً وفمه في إناء الزيت، فتوطَّد إيمانه، وقرَّر أن يوفِّر ما أمكنه من المال لبناء الكنيسة.”(30)
وفي عكَّار بشمال لبنان، وأثناء بناء سيّدة العطايا في بلدة المغراقة، “سقط قالب الباطون فجأة عن علوٍ يزيد عن ثمانية أمتار، وفوقه سبعة رجال، وكانت عائلة مع طفلين تحته تماماً، ولكنّ الجميع نجوا من تلك الكارثة في شكل عجائبيّ.”(31)
وفي بلدة أنفه بشمال لبنان، يرتبط بناء دير الناطور الشهير بحكاية شعبيَّة توارثتها الأجيال، وهي أنَّ قاطع طريق ظهرت له العذراء مؤنِّبة، فصمّم أن يتوب إلى ربّه توبة كاملة، فقيَّد رجليه بقيد من حديد، وأقفل القيد بمفتاح صغير، ورماه في البحر، واتَّخذ كوخاً قرب البحر… مكاناً للاستغفار والندامة والتوبة. وأمضى الرجل عدّة سنوات في ذلك الكوخ “ناطراً” رحمة الله. وكان عابرو السبيل وصيّادو الأسماك يزورونه جالبين له الطعام، مطلقين عليه لقب “الناطور”. وفي أحد الأيّام، جلب له أحد الصيّادين سمكة كبيرة، فلمّا شقّها، عثر في جوفها على مفتاح القفل، فاعتبر أنّ الله استجاب وغفر له، فتحرّر من قيده، وعاد إلى مجتمعه. ووفاء منه لما حصل معه، بنى ديراً صغيراً فوق الكوخ عُرف بدير الناطور.”(32)
وعلى الرغم من أنَّ هذه المعجزات والكرامات هي عبارة عن روايات يتناقلها السكَّان المحلّيّون، فإنَّ لها دلالات روحيّة كثيرة، فهي تعبِّر عن إيمانهم، وتُظهر لهم في الوقت نفسه عظمة السيِّدة الحاضرة في حياتهم، كما توحي لهم بأنّ لا شيء يصعب أمام قوَّة الإيمان. ولا تقلُّ أقصوصة سيِّدة البير في فتري (جبيل) عمّا سبقها من روايات، فلم يكن في المكان (الذي بنيت عليه الكنيسة فيما بعد) سوى بعض الآثار القديمة وسنديانة، وكانت تكرِّم هذه الآثار، تحت اسم السيّدة العذراء. وكان الشيعة يحرقون قطع القماش كنذور، ومن هؤلاء امرأة أرملة. “وفي أحد أيام الشتاء، قام أحد أبناء هذه الأرملة بقطع أحد أغصان الشجرة لإطعام عنزاته، فكان أن لدغته أفعى في فخذه. وبّخته أمّه على تدنيسه شجرة السيّدة (مريم العذراء)، واعتبرت أنّ السيّدة قاصصته… فكان أن قدّمت لاحقاً المكان مجاناً لبناء كنيسة.”(33)
وإذا نظرنا بعمق إلى فحوى هذه الأقصوصة، كغيرها من الأقاصيص المتجّذّرة في المأثورات الشعبيّة والتقليد المرويِّ، نجد أنَّها تقوم على البساطة في التفكير، والخيال الساذج، واستبعاد الفرضيّات المنطقيّة، فلعلَّ الصبيَّ تعرَض للدغة الأفعى بحكم عمله كراع في الحقول، لكنَّ الأمَّ المؤمنة، تضع إيمانها في المقام الأوَّل، وتقيم رابطاً بين ما فعله الولد من إساءة بحقِّ العذراء، وبين العاقبة التي أصابته من جرّاء ذلك. أمّا الفكرة الثانية التي نستخلصها من القصّة الآنفة الذكر فهي أنَّ الإيمان بقدرة مريم العذراء لا ينحصر في المسيحيّين فقط، بل يتعدّاهم إلى إخوانهم المسلمين في جميع المناطق. وقد شاعت مؤخّراً ظاهرة المسيرة الموحّدة في عيد بشارة السيّدة العذراء، وهي مسيرة يتشارك فيها المسيحيّون والمسلمون في تلاحم إيمانيّ رائع. كما تقام في العيد نفسه محاضرات في الجامعات يتحدّث فيها مفكّرون وأكاديميّون من جميع الطوائف عن مريم العذراء التي كرّمها القرآن الكريم وخصّها بمجد عظيم.
ويستحبُّ اللبنانيّون مثل هذه القصص ويضيفون من وحيهم عليها في كثير من الأحيان. وهي لا تنحصر في منطقة دون أخرى. ففي شرق لبنان مثلاً قصص كثيرة تدور في المجتمعات المسيحيّة والإسلاميّة على حدٍّ سواء عن أعاجيب سيّدة بشوات، ويتوافد الزائرون من كلِّ صوب وأوب، لزيارة الكنيسة، والتبرُّك بنعمها الوفيرة. وقد حدثت شفاءات كثيرة في سيِّدة بشوات، لا مجال لذكرها. كما تروي التقاليد مجموعة من الكرامات، مثل كرامة العمود. ومختصر قصّة العمود أنّ عموداً من الرخام الزهريّ كان في كنيسة سيّدة بشوات في حدود عام 1825، وأرسل الأمير أمين حرفوش رجاله للاستيلاء على هذا العمود، ليستخدمه في بناء قصر له، فأتى الرجال إلى الكنيسة، وأقتلعوا العمود من مكانه، وحملوه إلى سهل البقاع. وفي الليل انتقل العمود إلى مكانه في الكنيسة. وأرسل الأمير فرقة أخرى من رجاله لتنتزع العمود، فهبَّت النيران في كوفيّاتهم، وفرّوا هاربين(34).
واللافت أنَّ القصص التي تروى عن كرامات السيّدة العذراء تقلُّ في المدن الكبرى، وتكثر في القرى، فالقرويُّون عادة يكونون أكثر انضباطاً في إيمانهم، وأكثر تصديقاً أيضاً للأخبار التي لا يفسِّرها العلم. أمَّا في المدن، فتنحسر المأثورات الشعبيّة أمام القيم المادِّيَّة والعلميّة. كما يُلاحظ أيضاً أنَّ بعض أديرة السيّدة العذراء في بعض الأماكن، مثل بشوات، وزغرتا – إهدن، ودير القمر تجترح معجزات أكثر من سواها، مع أنَّ العذراء واحدة. وتصل هذه القصص إلى حدّ المبالغة في قرية دون سواها، كما في بلدة زغرتا، حيث سجِّلت لسيّدة زغرتا شفاءات وعجائب كثيرة، ويروي البطريرك الدويهي، وهو من المؤرِّخين الذين يعتمدون اعتماداً كبيراً على التقاليد المحكيَّة، أنَّه في عام 1653، التجأ أهل طرابلس وجبّة بشرّي إلى حماية سيّدة زغرتا من مرض الطاعون والعساكر العثمانيّة… وبشفاعتها لم ير أحد منهم ضرراً، بل شاهدها كثيرون تسير على سطح البرج، وتزجر العساكر المقبلين من ناحية الشمال فيضمحلّون بشبه الدخان(35). وفي إهدن، يروي الدويهي أنَّه عندما كبس الأمير موسى الحرفوش جبّة بشرّي، دخل اثنان من جماعته إلى كنيسة دير رأس النهر في إهدن (حيث توجد كنيسة صغيرة للسيّدة العذراء)، فضرب أحدهما صورة السيّدة بالخنجر، وفي حال خروجه من الدير يبست يده، وفي تلك الليلة مات(36).
وتأتي أخبار الكرامات والأعاجيب، عن مريم الطبيبة، أو المداوية، من جميع أنحاء لبنان، ففي عكَّار مثلاً، تقصد النساء مقام سيِّدة الدرّة في كلٍّ من أكروم وحَبشيت، أملاً في إنجاب الأولاد والرضاعة الطبيعة. وقد توارد في الروايات أنَّ سيّدة الدرّة لها اختصاص محدَّد هو الشفاء من العقم، وانحباس الرضاعة. ويقصد المرضى مقام سيّدة الغسّالة في القبيّات طالبين الشفاء. وقد حدثت في المكان شفاءات كثيرة يرويها الأهالي… وكان أهالي دير القمر يزنِّرون الجدران الداخليّة لسيِّدة القلعة بحبل من خيوط الحرير عند ظهور الأوبئة، التماساً من العذراء لدرئها عنهم(37)؛ فمريم العذراء انتقلت هنا من صفة المحاربة إلى صفة الطبيب الذي يعطي لقاحاً روحيّاً للحماية من العلل والأمراض المستعصية.
وتتَّخذ العذراء في بعض الأماكن، صفة الحامية من الشرور، ففي جبيل مثلاً، تسهر سيّدة البحّارة Maritime على أبنائها الذين يسافرون بعيداً في البحار. وقد تحوَّل الاسم على ألسنة العامّة إلى مارتين، فباتت الكنيسة والمستشفى التابع لها يُعرفان بسيّدة مارتين.
خاتمة:
يبدو ممَّا تقدَّم أنَّ لمريم العذراء مكانة عظيمة في الضمير الشعبيِّ اللبنانيِّ، وقد أصبحت محوراً مهمّاً من محاور الثقافة العامَّة، والتقاليد، والمرويَّات الجميلة. ولا نكاد نجد مجتمعاً آخر غير المجتمع اللبنانيِّ، يحيط العذراء مريم بهذا القدر من التكريم والتعظيم، فالراعي والفلاّح، والغنيِّ والفقير، والجاهل والمتعلِّم… جميعهم يلتجئون إلى مريم، ويؤمنون بقدرتها على حمايتهم من الأمراض والشرور.
ويترجم اللبنانيُّ إيمانه العميق بمريم العذراء، ليس فقط في الكنيسة، بل أيضاً في المجتمع، والعمل، وفي تربية أبنائه، فشخصيَّة مريم هي حضور ثابت في الشخصيَّة اللبنانيّة العامَّة، بل هي في الواقع جزء لا يتجزّأ من يسوع المسيح، الذي يعتبره المسيحيّون عموماً فادياً ومخلِّصاً وإلهاً.
وتظهر مريم في تجلِّيات يوميّة، ضمن الإطار الإيمانيِّ الواسع، كرفيقة للبنانيِّ في داره، وكرمه وبيدره… وهو يربِّي أولاده على محبَّتها، لكي تبقى ذخراً في العائلة، ينتقل من جيل إلى جيل.
ويحوِّل اللبنانيُّ سهوله وبيادره إلى مذابح، يقدِّم أمامها الصلاة والتضرُّعات لمريم العذراء، فالصلاة هي تعبير عن الإيمان العميق ونوع من الفنِّ الممتِع الذي يترافق مع حركة العمل، ويقطع رتابة النهارات الطويلة.
وللدلالة على أهمِّيَّة مريم في الإطار المجتمعيِّ، خصوصاً في الأرياف، جعل الناس لها أسماء ذات علاقة بالزرع والحصاد، وهذا يعني أنَّهم ربطوا بينها وبين وسائل عيشهم الحيويَّة، وجعلوها أمينة على أعمالهم، تحفظها، وتصونها، وتضمن لهم محاصيل وفيرة، لا تبدِّدها الرياح وقسوة الشتاء.
وفي الاحتفالات بعيد انتقال السيّدة العذراء، يمزج اللبنانيُّون بين القيمة الليتورجيَّة للمناسبة، والمظاهر الاحتفاليَّة، من موسيقى، وطرب وغناء. وهذا إنَّما يعبِّر عن اغتباطهم بانتقال شفيعتهم إلى السماء، لتكون عيناً ساهرة عليهم من هناك.
ولعلَّ أهمَّ ما يؤكِّد شغف اللبنانيِّين بالسيِّدة العذراء هو الكمُّ الهائل من الأعاجيب والكرامات التي قامت بها، بعضُها مثبت في بطون الكتب، وبعضها تتناقله الشفاه، والبعض الآخر يعيش في الذاكرة الجَماعيّة، كمادَّة محفوظة من أجيال سابقة. ويمكن القول: إنَّ العديد من تلك الأعاجيب المرويَّة هي جزء من التراث الشعبيِّ، بحيث أنَّ الأقاصيص عن مريم المحاربة، أو الطبيبة، أو الحارسة أصبحت نوعاً من الثقافة العامَّة للناس، وهم لا يحتاجون إلى الوثائق الكنسيَّة المثبتة لهذه الأقاصيص لكي يصدِّقوها، كما لا يمكنُهم السكوت عن كلِّ مَن يحاول التشكيك بمرويّاتهم عن طريق العلم.
وبكلمة أخرى، فإنَّ حبَّ اللبنانيِّين لمريم العذراء تحوَّل إلى علاقة كيانيَّة، وارتباط عضويٍّ وثيق لا يخضع للمناقشة، وبات رافداً من الروافد التراثيَّة المميِّزة للمجتمع اللبنانيِّ عن أيِّ مجتمع آخر.
المصادر والمراجع
(1) يوحنّا 2: 1-5
(2) لوقا 6: 17-18
(3) رونكاليا، مارتينيانو بليغرينو: على خطى يسوع المسيح في فينيقيا، المؤسَّسة العربيّة للدراسات بين الشرق والغرب، بيروت، 2007، ص52
(4) المصدر نفسه، ص 101
(5) حنين، رياض: أسماء قرى ومدن وأماكن لبنانيّة في روايات شعبيّة، دار لحد خاطر، بيروت، 1986، ص 120-121
(6) يُنظر: جريدة البلد، عدد، 1496، تاريخ 6-4-2008
(7) ينظر: يمِّين، الأب يوسف: المسيح ولد في لبنان لا في اليهوديّة، منشورات الجمعيَّة الكونيَّة، إهدن، 1999، ص 641-642
(8) مفرّج، طوني: الموسوعة اللبنانيّة، نوبليس، بيروت، 2002، ص 98
(9) يمّين، الأب يوسف: المسيح ولد في لبنان لا في اليهوديّة، منشورات الجمعيَّة الكونيَّة، إهدن، 1999، ص 631
(10) نشيد الأنشاد 4: 8
(11)عيد، الأباتي فرانسوا: كنائس ومزارات العذراء في لبنان، في: صابر، أنور: العذراء مريم في لبنان، ج1، منشورات جامعة سيّدة اللويزة، بيروت، 2001، ص ب
(12) إدِّه، الأب أميل: مزار سيّدة لبنان- أثر وطنيّ ودينيّ خالد، مطابع الكريم الحديثة، جونيه، 2003، ص 7
(13) الأسمر، راجي: المعتقدات والخرافات الشعبيّة اللبنانيّة، جرّوس برس، طرابلس لبنان، غير مؤرَّخ، ص 89.
(14) الريحاني، أمين: قلب لبنان: دار الكتاب اللبنانيّ، بيروت، 1978، ص 427-428
(15) خاطر، لحد: العادات والتقاليد اللبنانيَّة، ج1، 1977، ص 29.
(16) المصدر نفسه، ص 30-31
(17) المصدر نفسه، ص 32
(18) الريحاني، أمين: قلب لبنان: دار الكتاب اللبنانيّ، بيروت، 1978، ص 98
(19) النفري، الشيخ محمّد: البشارة لدى السنَّة، في: بشارة مريم عهد بالحياة والروح، منشورات جامعة سيدة اللويزة، بيروت، 2007، ص 127
(20) خاطر، لحد: العادات والتقاليد اللبنانيَّة، ج1، ص 45
(21) أيو نجم، يوسف: معجم النبتات الطبِّيَّة، مكتبة لبنان ،1999، ص124
(22) فريحة، أنيس: القرية اللبنانيّة حضارة في طريق الزوال، جرّوس برس، طرابلس لبنان، 1989، ص 273-275
(23) معتوق، فردريك: التقاليد والعادات الشعبيّة اللبنانيّة، جرّوس برس، طرابلس لبنان، 1986، ص 90
(24) المصدر نفسه، ص 90
(25) الدويهي، البطريرك اسطفان: تاريخ الأزمنة، تحقيق الأباتي بطرس فهد، مطابع الكريم الحديثة، جونيه، 1976، ص 563
(26) كرم، عصام فريد: تاريخ سيدة بشوات مزارها وعجائبها، 2006، ص 42-43
(27) خاطر، لحد: المصدر السابق، ص 48
(28) ينظر: نعمة، جوزيف، دير القمر عاصمة لبنان القديم، 2001، ص 173
(29) جريدة البلد، العدد 2294، تاريخ 24-7- 2010
(30) الخوري، كريستيان: العذراء في لبنان، ج7، منشورات جامعة سيدة اللويزة، بيروت، 2008، ص 264
(31) صابر، أنور: العذراء مريم في لبنان، ج1، منشورات جامعة سيّدة اللويزة، بيروت، 2001، ص 160
(32) صابر، أنور: العذراء مريم في لبنان، ج4، منشورات جامعة سيّدة اللويزة، بيروت، 2003، ص 57-58
(33) الخوري، كريستيان: العذراء مريم في لبنان، ج7، منشورات جامعة سيِّدة اللويزة، بيروت، ص564
(34) كرم، عصام فريد: تاريخ سيدة بشوات مزارها وعجائبها، 2006، ص 51-52
(35) الدويهي، البطريرك اسطفان: تاريخ الأزمنة، تحقيق الأباتي بطرس فهد، مطابع الكريم الحديثة، جونيه، 1976، ص 537
(36) المصدر نفسه، ص 456.
(37) نعمة، جوزيف نعمة: دير القمر عاصمة لبنان القديم،2001، ص 172