لستُ بناقدة فنيَّة أو علميَّة، وإنَّما القلمُ يُطاوعني والفكرُ يُساعدُني لإبداءِ الرأي في أُمورٍ عدَّة ومواضيعٍ متنوِّعة وفي مَيادين شتَّة ومُختلفة…
غالبًا ما تجذُبُنا برامجَ الهواة، أوَّلًا لرؤية فنَّانينَ نُحبُّهم ونشتاقُ للامتلاء من حضورهم المُحبَّب وثانيًا لأنَّها تُمتِعُ النَّفس وتُغري السَّمعَ بأصواتٍ جديدة، يحلو لكَ اكتشافها ولأنَّها قد تُعيد إنشاد إبداعاتٍ موسيقيَّةٍ حقيقيَّةٍ من حيثُ القيمة والمعنى، غرَّدَتها أَصواتٌ في ما مضى، قيلَ فيها الكثير ونُسِبَ إليها لقبَ «الزَّمنُ الجميل»…
في الآونة الأخيرة، كثُرَت هذه البرامج وتنوَّعَت وبقيَ المضمون واحدًا: هواة يُغنُّون ولجنة تحكيم تُبدي الرأي، ونستثني من وقتٍ لآخر أحد الأعضاء الذي ممكن أن تكون تعليقاته غنيّة بالمعرفة والثَّقافة الفنيَّة، ونغفل عن تعليقاتٍ، شَغلَ كراسٍ فيها، للأسف، «فنَّانون» غابَت عنهم أدنى مفاهيم المعرفة في الموسيقى ومداميكها الأساسيَّة، كي لا أقول في عالمِها اللامُتناهي… وأنت، أي المُشاهد تتلقَّاها، كما هي لأنَّكَ لم تَختَبر يومًا البديل الذي يجعلُكَ تُدركُ الفرق، كُلَّ الفرق… نعم قد تشعرُ بأنَّ ثمَّةَ ما يَنقُص، ولكنَّك، إن لم تكُن على اطِّلاعٍ مُعمَّقٍ ببعضِ المفاهيم، لما أدرَكتَ سببًا لعدم ِتفاعُلِكَ الدَّائمِ معها…
وأنا الآن أكتُبُ كمُشاهدة، جذبها برنامجٌ جديدٌ للهُواة وانتظرَت بدءَ حلقاته الأولى على الشَّاشة الصَّغيرة، ومن الإعلان، أدرَكت كباقي المُشاهدين أنَّ المتبارين سيؤدُّون فقط أُغنياتِ الزَّمن الغابر، العابر في التَّاريخ، الرَّاسِخ في الوجدان، المُتأصِّل في العُمقِ، الذي يُغني الفؤاد ويُنشي الرُّوح ويُحاكي النَّفسَ برُقيٍّ…
وبدأت الحلقاتِ الأولى ولم تكُن بعد مُباشرة، لأنَّ لجنةَ التَّحكيم الكريمة كانت تختار من خلالِ الاستماع للمُشاركين من دونِ رؤيتهم، من وراء بابٍ عازل ومن دون مُرافقة موسيقيَّة وهي ما يُعرف بالأكابيللا (A capella) على أن ينتقلَ هؤلاء، في مرحلةٍ لاحقة، إلى الحلقاتِ المُباشرة.
حتَّى السَّاعة، ليس من جديد، لا من حيثُ الفكرة ولا من حيثُ التَّنفيذ… إلى أن بدأَ البرنامج وبدأَ المُتبارون بالتَّتالي، الواحد تلو الآخر… من البديهيِّ طبعًا، التَّركيز على الأصوات وانتظار اختيارات اللجنة؛ وأمَّا أن تبدأ بانتظار برنامج فقط لتستمعَ إلى تقييمِ لجنةِ التَّحكيم وتستقيَ من فيضِ معلوماتها الفنيَّة ونقدها المُثقَّف والموزون، فهذا أمرٌ غيرَ اعتياديّ!…
لأوَّلِ مرَّة يطغى احترافُ اللجنة وتعليقاتها الهادفة على المُشاركين، لأوَّل مرّة تخلق اللجنة، نوعًا من التَوازن بين الاستماع وبين التَّلقين، نعم التَّلقين والشرح المُفيد الذي على ضوئِهِ تمَّ اختيار المُتبارين، تسمعُ التعليق حول الأداء والقفلات والعرب والانتقال بين نوتة وأخرى ومن مساحة إلى أخرى وتناغم الصوت في أبعاده ما بين صوت رأس وصوت صدر وTune، وإحساس فاقَ التَّأدية وذكاء في الصَّوت واستخدام الآلات الموسيقيَّة كدعم والارتكاز عليها… وإلى ما هنالك من فيضٍ في المعلومات تجعلُ المُتتبِّع يُدرك كم أنَّهُ يفتقدُ إلى محطَأتٍ ثقافيَّة وترفيهيَّة وموسيقيَّة عميقة، لها قيمة، تُمتعُ، ولكنَّها في نفسِ الوقتِ تُغني المُشاهد، تُرفِّه، ولكن بعُمقٍ وقيمة نرجوها في برامجنا، فمَن قال أنَّ المُبتذل والمُستسهل هو وحده الذي يجذُب؟… لستُ بوارد تزكية برنامج على حساب آخر، بل أردت فقط التَّنويه حول برنامج أعتبره قيمة مُضافة (وهو رأيٌ خاص، قد لا يُوافقني عليه البعض).
في الحلقات المُباشرة يبدأ المشتركون بـ Medley لشخصيَّتَين فنِّيتَين من عمالقة الفنّ مُختارة لهذه الحلقة بالذات، ثمَّ يُغنِّي كلُّ مشترك تباعًا أُغنية لهذا الفنَّان أو ذاك، على أن يتمّ بعد كل وقفةٍ إعلانيَّة، تمرير معلومات، حول هذَين الفنَّانَين، وعلى ما أعتقد، أغلبيَّة المُتتبِّعين يجهلونها، عدا عن الشُّروحات حول أداء هذا العملاق وذاك أو تلك وتفسيرات حول اللحن أو الشعر، التي قد يمُدُّكَ بها أحدُ الحكَّام…
هو في حلقاتِه الأخيرة وهو بمثابة محطَّةِ انطلاقٍ لهذه المواهب التي باتَ لها جمهورٌ حتمًا في العالم العربي، ولكن أعتقدُ بأنَّ مُعدِّي برنامج «الزمن الجميل» ومُقدِّمتهُ الإعلاميَّة والممثِّلة المُتألِّقة إيمّيه صيَّاح وكلّ العاملين في الكواليس وكلّ المُدرِّبين والموسيقيِّين وغيرهم ممَن غاب عن ذهني، يستحقُّون الثَّناء، وأمَّا التحيَّة الأكبر والأجلّ، تبقى لفنَّانين مُخضرَمين ثقافيًّا، فنيًّا، إنسانيَّا، إبداعيًّا، من عالمنا العربي، من مَشرقه إلى مَغربه…
تُطالعنا من المغرب الفنَّانة أسماء المنوِّر، وهي صاحبة الشخصيَّة الفذَّة والحضور الواثق والنَّقد الثَّاقب، عبورًا إلى مصر مع الفنَّانة أنغام صاحبة الإحساس المرهف والكلمة الدافئة والمُشجِّعة والبنَّاءة، وصولًا إلى لبنانَنا المشرق والمتألِّق بنقيبه السَّابق وفنَّانه الشّامل مروان خوري العميق بثقافته والمُنمَّق بتعليقاته الحقيقيَّة، المُوجِّه بطريقته الدَّاعمة والصَّادقة والموضوعيَّة، الآتي من خلفيَّةٍ موسيقيَّة واسعة، وثَّقها عبر يرنامجٍ آخر له حول الطرب ومعانيه ومفاهيمه وأبعاده المختلفة…
يبقى أن نقول، بحسب القول المأثور: هذا البرنامج هو «السَّهل المُمتنع» هو خفيفٌ على المشاهد، عميق بثقافتِه، غنيٌّ بمواهبه، سخيٌّ بمعلوماته، سلسٌ من حيث التَّقديم، جديرٌ بالاحترام من حيثُ التَّقييم، يمتازُ بحقيقته الفنيَّة الواضحة المرتكنة إلى ذاتها الفنيَّة، فكانت النَّتيجة بكلمة وباختصار: النَّجاح…
(٢٥- ٤- ٢٠١٩)