تقوم فرضية هذه الورقة على أنّ المجتمع اللبناني التعددي المنقسم على نفسه، يتعرّض باستمرار للتوترات والحروب الداخلية، في ظلّ طائفيتين مجتمعية وسياسية، وأيديولوجيات متنافرة، ودولة ضعيفة لا تمسك بشعبها ولا تصنع قرارها بنفسها. من هنا، فإنّ مأساوية الجغرافيا السياسية والحالة المجتمعية والنظام الطائفي وهشاشةَ الدولة، كانت ذات تأثيرات كارثية في مصير الكيان والسيادة، وجعلتهما عرضة لتدخلات الخارج.
***
بسبب موقعه الجغرافي، تعرّض لبنان منذ عصوره القديمة للغزو الخارجي، حتى أنّ الكيانات التي وجدت على ساحله كانت تتحوّل ضدّ بعضها البعض لصالح القوى الأجنبية المحتلة؛ من الآشوريين إلى البيزنطيين. وبأسلمة بلاد الشام على أيدي العرب وخضوعِها للاحتلالين المملوكي والعثمانيين، حدث شرخٌ مجتمعي في لبنان: بين المسيحيين، غالبيتهم موارنة، وبين أتباعِ الديانة الإسلامية. فتطلع الأولون إلى فرنسا والفاتيكان كامتداد لعقيدتهم وثقافتهم للتخلص من الحُكم الإسلامي وإنشاءِ كيان خاص بهم، فيما تقبّل المسلمون الحُكم الأخير بمقولة “الرابطة الإسلامية”، ثم تبنّوا المشروع القومي العربي بعد سقوط الدولة العثمانية.
وفي ظلّ طائفية مجتمعية ونظامٍ طائفي، غابت عند اللبنانيين فكرة الوطن، ما أفسح في المجال أمام التدخل الأجنبي، ويكمن رصد ذلك بإنشاء متصرفية جبل لبنان، وإعلان دولة لبنان الكبير، وحصول لبنان على استقلاله، والحرب الداخلية القصيرة العام 1958، والصراعاتِ العربية والدولية على أرضه في مرحلة الأحلاف خلال الخمسينيات والستينيات، والدخولِ السوري إليه مطلع العام 1976، والتدخلِ الإسرائيلي في شؤونه الداخلية واجتياحِه خلال العامين 1978 و1982. حتى اتفاقُ الطائف الذي أرسى سلمًا أهليًا مقبولًا، كان صناعة خارجية جعله تحت الوصاية السورية.
العامل الفلسطيني في حرب لبنان
عن حرب لبنان، وعلى عكس ما يُروّج بأنّ المشاركة والغبن والحرمان هي من أسباب اندلاعها، فإنّ العوامل الإقليمية والدولية هي التي دفعت اللبنانيين إلى الاقتتال، في ظلّ شرق أوسط ملتهب منذ العام 1967 والحربِ الباردة بين المعسكرين الدوليين. إنّ خلافات اللبنانيين حول دور بلدهم في الصراع العربي – الإسرائيلي، كان أحدَ أبرز أسباب إنجرارهم إلى الحرب، بعدما تحوّل لبنان إلى قاعدة للمقاومة الفلسطينية ضدّ إسرائيل، وبخاصّة بعد طرِها من الأردن، وسماح النظام السوري لها بالعبور إلى لبنان لرفعِ منسوبِ التناقضات الطائفية وبالتالي إيجاد ذريعة للتدخل المباشر فيه. فتسبّبت المقاومة باختلالات في التوازنات الطائفية، عندما استقوى المسلمون بها لتحقيق مشاركة أفضل لهم في السلطة، أو الإطاحة بالنظام الطائفي القائم لصالح نظام علماني، بعد قام تحالف يساري لبناني – فلسطيني اعتبر نفسه طليعة التغيير في العالم العربي. في المقابل، استفادت المقاومة الفلسطينية من الغطاء الإسلامي – اليساري لها، متعلّمة من تجربتها الفاشلة السابقة في الأردن. أما عن المسيحيين الموارنة، فخشوا من أنْ يطيح الصراع العربي – الإسرائيلي بحياد بلدهم، وتتحوّل عملية صنع القرار إلى أيدي المسلمين أو اليسار، أو إذا ما شاء رئيس أنْ يركب موجة العروبة. فتمسكوا بانزال الجيش اللبناني للدفاع عنهم وعن الدولة التي اعتبروها دولتهم، ما أدّى إلى حصول صدامات بينه وبين المقاومة.
وتخلّل ذلك توقيع “اتفاق القاهرة” العام 1969 الذي أعطى الفلسطينيين مركزًا مهيمنًا على حساب سيادة لبنان، والتدخل في شؤونه. تزامنت تلك التطوّرات مع العسكرة على نطاق واسع، واستنجاد المسيحيين بسورية، وبعد ذلك بإسرائيل لتصحيح الخلل في التوازنات الذي تسبّب به الوجود الفلسطيني. فظهرَ الصراع وكأنه بين القومية العربية القومية اللبنانية.
إسرائيل وسورية في لبنان: تقاسم النفوذ
لقد تداخلت العوامل الإقليمية والدولية في لبنان في العامل الفلسطيني. قبل إنشائها وبعده، عملت إسرائيل على ضمّ موارنة لبنان إلى تحالف أقليات لزعزعة الاستقرار في المنطقة العربية. صحيح أنّ مطامعها في لبنان معروفة، لكنها لم تتدخل فيه مباشرة إلا بعد تحوّله إلى معقل للمقاومة المدعومة سوريًا، واستقواء المسلمين واليسار اللبناني بها، ودخولِ لبنان بقوّة في مخططاتِ سورية لمواجهة إسرائيل بعد حرب العام 1973.
بعد حرب العام 1967، تحكّمت مسائل ثلاث في سياسة تلّ أبيب تجاه لبنان: مواجهة المقاومة الفلسطينية وضمان سلامة مستوطناتها الشمالية؛ الاستفادة من موارنة لبنان؛ والتصدّي للتدخل السوري فيه. واستلزمت سياستها هذه إنشاء حزام أمني في جنوب لبنان العام 1975، سبقه قيامها بغارات واعتداءات متواصلة عليه منذ العام 1968، كان أعنفها على مطار بيروت ليلة 31 كانون الأول 1968، واغتيال ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية في قلب مدينة بيروت في نيسان 1973.
وعلى عكس ما يزعمه النظام السوري، بأنّ تدخله في لبنان جاء استجابة لواجبه القومي، فقد وضع الرئيس حافظ الأسد استراتيجيةً جديدة لبلاده تقضي بالإمساك بالمقاومة الفلسطينية، وربط أمن لبنان بأمن سورية، وتحقيقِ التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، وأنْ تكون له كلمة مسموعة في أزمة الشرق الأوسط، تزامنًا مع انفراد واشنطن في حلّ نلك الأزمة وفق دبلوماسيتِها الخطوة – خطوة، وتعطيل “مؤتمر جنيف” وبالتالي استبعاد السوفيات عن حلّ أزمة الشرق الأوسط. وفي السنة الثانية من حرب لبنان العام 1976، أدخلت سورية وحداتها العسكرية إليه بذريعة منع تقسيمه، وقيام نظام ماروني حليف لإسرائيل، ومنع الفرقاء المتقاتلين من حسم الحرب لصالحه، أو سيطرةِ التحالف اليساري – الفلسطيني على النظام اللبناني، وألّا تتحقّقَ أية تسوية في لبنان من دون وساطتها. لكن احتلالها لبنان عسكريًا، لم يحصل من دون رعاية أميركية وتفاهم مع العدو الصهيوني.
“اتفاق الخط الأحمر”: الرعاية الأميركية
في ظلّ تصاعد العمليات الفدائية ضدّ الطائرات الإسرائيلية والأميركية منذ العام 1968 وحادثة ستاد ميونيخ العام 1972، وسعي واشنطن وتلّ أبيب إلى ضبط أوضاع لبنان وفق مصالحهما، ولتفادي مواجهة بين إسرائيل وسورية في لبنان، رعى الوزير هنري كيسنجر اتفاقًا سريًا بين دمشق وتلّ أبيب، يؤمّن المجالَ الحيوي لكلّ منهما في لبنان، عبر احتلال أجزاء فيه. وقامت الاستراتيجية الأميركية الشرق أوسطية على حماية أمن إسرائيل، والأنظمة العربية الموالية لها، ومصالحها ومصادر الطاقة وعبورها إلى الغرب. أما دور الأردن في الاتفاق، فانحصر في تبديد عاهله الملك حسين مخاوف القيادات المارونية من الدخول السوري إلى لبنان.
وقد أدّى الاتفاق الذي عُرف بـ “الخط الأحمر” إلى حصول إسرائيل على عمقٍ في جنوب لبنان، وفي المقابل السماح بدخولِ الجيش السوري إليه صيف 1976 لضبط منظمة التحرير الفلسطينية و”الحركة الوطنية اللبنانية”، شرط ألا تتجاوز الخطّ الأحمر لإسرائيل عند نهر الأولي. وكشف الاتفاق السرّي عن وفاقٍ بين الدولتين على تقاسم النفوذ في لبنان يغلّفُه عداؤهما الظاهر. إنّ علاقات سورية السيئة في حينه بتركيا وبالعراق، حوّلت الجغرافيا السياسية عبئًا عليها، وهذا ما جعلها تفضّل التفاهم مع إسرائيل حول لبنان.
كان التوافق أو التنافس السوري الإسرائيلي وخيمًا على لبنان. فالتوافق يقسّم البلاد إلى منطقتي نفوذ إسرائيلية وسورية، ويؤدّي إلى صدامِ الجيش السوري بالحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية لإخضاعهما لمشيئة النظام السوري، في حين يؤدي تنافسهما إلى صدام دمشق وتلّ أبيب على أرضه، كما حصل العام 1982، أو بين أتباع سورية وأتباع إسرائيل من “الجبهة اللبنانية” بسبب “اتفاق 17 أيار”.
السوفيات والأدوار الأوروبية والعربية في لبنان
على الرغم من علاقات السوفيات الوطيدة بالأسد، فقد أفشل “اتفاق الخط الأحمر” مساعيهم لإرغامه على سحب قواته من لبنان ر(رسائل برجنيف إلى حافظ الأسد)، لكنهم عادوا واعترفوا بمصالحه هناك، ودعموه لمناهضة الأميركيين. وكان يهمهم، في ظلّ انفراد واشنطن بحلّ أزمة الشرق الأوسط، تقوية النظامِ السوري والمقاومة الفلسطينية، وألا ينضمّ لبنان إلى دبلوماسية السلام الأميركية أو جعله قاعدةً لواشنطن، وأنْ يحقق اليسار اللبناني نًصرا سريعًا في حرب لبنان. كذلك لم تنجح الوساطات الفاتيكانية والأوروبية في وقف نزيف الدم، وخاصّة الدبلوماسية الفرنسية التي كانت تبحث عن دور تقليدي في لبنان فقدته بعد حرب السويس العام 1956. أما الدول العربية، فانسجمت مع المبادرات السعودية لحلّ سلمي في لبنان. لكن وصول حزب الليكود إلى الحُكم في إسرائيل صيف العام 1977، والمواجهاتِ بين الأنظمة العربية على أرض لبنان عقبَ اتفاقي كمب ديفيد، وتبعية المنظّمات الفلسطينية للمحاور العربية، كانت وبالًا على لبنان. من هنا، عملت السعودية على الحفاظ على النظام اللبناني، والإمساك بمنظّمة فتح كفصيل أساسي في منظّمة التحرير من خلال عطاءاتها المالية، وكذلك على تخفيف التناقضات بين المقاومة ولبنان. لكن دبلوماسية الرياض لم تنجح في مناوئة السوريين، واتسمت بالتناقض أحيانًا، وكان عليها أنْ تسير على وقع المدفع السوري وبانسجام مع المصالح السورية. وبشكلٍ عام، نسقت المملكة دبلوماسيتها مع الولايات المتحدة، حتى أنها تقدمتْ في آب العام 1981 بمبادرة سلام للشرق الأوسط، أفشلتها إسرائيل. أما النظام السوري، فسار في سياسة فرّق تسد، وضرب الطوائف والأحزاب اللبنانية بعضها ببعض، وتخوين هذا، ومنح صكوك العروبة إلى ذاك.
صراع إسرائيلي – سوري: إفشال اتفاق 17 أيار والاتفاق الثلاثي
تحت مظلّة “اتفاق الخطّ الأحمر”، لم تكتفِ إسرائيل بدعم “الجبهة اللبنانية” تسليحًا وتدريبًا منذ العام 1976، بل عملت على غزو لبنان خلال العامين 1978 و1982، وقامت في التاريخ الأخير بمجازر، بعدما حاصرت عاصمته بيروت واجتاحتها مع مخيماتها الفلسطينية – اللبنانية بهدف القضاء على المقاومة الفلسطينية وإقامة نظام حليف لها في لبنان، وبالتالي ضمه إلى مثلث السلام تلّ أبيب – القاهرة. وقد حُسمت الحرب الإسرائيلية سريعًا، وجرى إجلاء المقاومة الفلسطينية والوحدات السورية المحاصرة من بيروت، وتنصيب حزبِ الكتائب على لبنان بموافقة أميركية – سعودية، وقبول غالبية القوى التقليدية الإسلامية برئاسة الجمهورية لبشير الجميل وبعده لشقيقه أمين. كلّ ذلك تزامن مع انتهاء شهر العسل السوري – الماروني وتعديل إسرائيل سياستِا تجاه لبنان بعودة التحالف بينها وبين “الجبهة اللبنانية” منذ العام 1977؛ فوقعت أحداث الأشرفية صيف العام التالي، وفشل في العام ذاته مؤتمر بيت الدين للمصالحة الداخلية برعاية السعودية، فيما انسحبت “قوات الردع” الخليجية من لبنان العام 1979، تاركة الساحة للسوريين.
شكّل اجتياح بيروت قمةَ الفشلِ للسياسات العربية، وأبانَ بوضوح حجم الخلافات بين موسكو وواشنطن. ونتج عنه ظهور المقاومة اليسارية ثم الإسلامية ضدّ الاحتلال الصهيوني في الجنوب. وقد فشل مشروع الرئيس الأميركي ريغان لإحلال السلام في لبنان وسحبِ كلّ الجيوش الأجنبية منه تمهيدًا لتحقيق السلام في المنطقة. وفي ظلّ نظام كتائبي فئوي، وسياسة كلّ من إسرائيل وسورية، ارتفع منسوب الخلافات والتقاتل بين اللبنانيين، خصوصًا بعد نجاح إسرائيل في فرض “اتفاق 17 أيار” 1983 المدعوم أميركيا وسعوديا، وتشكيل سورية، الحاصلة على دعم السوفيات تسليحًا وخبراء ومستشارين، جبهة عسكرية لإفشاله مع بقايا الحركة الوطنية وأتباعها من الزعماء التقليديين؛ رشيد كرامي وسليمان فرنجية. وبعد الانسحاب المنفرد لإسرائيل من الجبل العام 1983، ومن شرقي صيدا العام 1985، على وقع التقاتل الدموي وتهجير المسيحيين، عقد مؤتمرا جنيف ولوزان 1983/1984 برعاية السعودية لحلّ الأزمة اللبنانية، من دون تحقيق نتائج تُذكر على الأرض، فيما استُهدف مقرا المارينز الأميركيين والمظليين الفرنسيين من قبل انتحاريين قربَ مطار بيروت قيل إنّ أحدهما إيران الجنسية. فرد الفرنسيون بقصفٍ جوي لمواقع الحرس الثوري الإيراني في البقاع. كانت عملية المطار وتأسيس حزب الله، رسالةً من إيران بأنها أصبحت لاعبًا جديدًا على الساحة اللبنانية.
ردّت إسرائيل والولايات المتحدة على إفشال سورية اتفاق 17 أيار بإفشال “الاتفاق الثلاثي” أواخر 1985 الذي رعته دمشق لشرعنة وجودِها في لبنان. وقد دعمت السعودية الاتفاق الأخير سرّا، فيما هندسه رفيق الحريري الذي كانت عينه على الرئاسة الثالثة. وشكلّ الاتفاق انقلابًا كاملًا على الخيارات الداخلية والإقليمية والدولية للقوات اللبنانية وللفريق الماروني، وأدّى إلى حدوث انقسام في داخل القوات اللبنانية. أما عن سبب معارضة الولايات المتحدة للاتفاق، فهو انفراد سورية به، في حين كانت واشنطن تريد ربط موافقتها عليه بموافقة دمشق على ترتيبات أمنية بين إسرائيل ولبنان. من هنا، كان موقف واشنطن وتلّ أبيب من الاتفاق رسالة منهما إلى دمشق بوجوب الوصول إلى اتفاق مع مسيحيي لبنان، وليس رعاية صدام دموي في لبنان. أما الاتحاد السوفياتي، فحرّض سورية على عدم تقديم التنازلات للولايات المتحدة.
وتعتبر الأوضاع الداخلية منذ العام 1984 الأكثر وبالًا على لبنان: انقسام الجيش اللبناني للمرّة الثانية كرد على سياسة الجميل للسيطرة على غرب بيروت (انتفاضة 6 شباط 1984)؛ دخول قادة الميليشيات إلى الحكومات اللبنانية؛ الصدامات بين ميليشيات الصف الواحد في المناطق الغربية والشرقية وطرابلس والجنوب والضاحية الجنوبية – وهذا جعل الوحدات السورية تعود إلى بيروت الغربية مطلع العام 1987، على وقع حرب المخيمات (1985 – 1987) التي تخللتْها اشتباكات دموية بين حركة أمل وحزب الله؛ في الجنوب أولًا، ثم في الضاحية الجنوبية التي دخلتْها الوحدات السورية بالتنسيق مع الإيرانيين للفصل بينهما في أيار 1988.
مقدمات اتفاق الطائف
اتسمت المرحلة بين الأعوام 1985 و1989 بالأوراق والمبادرات الداخلية والخارجية لحلّ الأزمة اللبنانية، وفي مقدّمها المحاولات الفاشلة لمصالحة الأسد والجميل، عقب وقوف الأخير ضدّ “الاتفاق الثلاثي”، وعدم انقلابه على جعجع المتهم باغتيال الرئيس رشيد كرامي. فقام أتباع سورية بمقاطعة الرئيس اللبناني. لكن سرعان ما حصل توافق سوري – أميركي على انتخاب مخايل الضاهر رئيسًا جديدًا للجمهورية، ودخول المناطق الشرقية في صراع على خلفية القرار المسيحي، بين القوات اللبنانية وقائد الجيش ميشال عون، الذي كان يطمح إلى رئاسة الجمهورية، واستطاع أنْ يفرض نفسه رئيسًا لحكومة انتقالية، بعدما فشل الجميل في الحصول على موافقة سورية لتمديد ولايته. فانقسمت البلاد إلى حكومة في الشرقية لديها جيشها تتبع الجنرال ميشال عون، وأخرى في الغربية لديها جيشها كذلك، تابعة للسوريين برئاسة سليم الحصّ.
وعلى عكس فرنسا، كانت واشنطن ضدّ وصول عون إلى الرئاسة الأولى، انطلاقًا من قناعاتها باحترام مصالح إسرائيل وسورية في لبنان، وتفضيلها “السلم السوري” على “الفوضى اللبنانية” التي تسبّب فيها عون. من هنا، دعمت واشنطن الحلول التي تفضي إلى تحقيق السلام واستقرار الحُكم في لبنان.
ثمة عوامل خارجيةِ كثيرة مهّدت لاتفاق الطائف: انتهاء الحرب الباردة في عهد غورباتشيف، وقيام السوفيات بالانفتاح على منطقة الشرق الأوسط، ولإنهاء الوضع المتفجر في لبنان؛ تأثير الانتفاضة الفلسطينية منذ أواخر العام 1987، واعتراف منظّمة التحرير الفلسطينية مواربة بحقّ إسرائيل في الوجود، في الولايات المتحدة التي تقدّمت بمقترحات لحلّ الأزمة اللبنانية تقوم على توازن جديد للسلطة، بتقليص صلايحات رئيس الجمهورية وإلغاء الطائفية السياسية. لكن الموارنة رفضوها. أما الدول العربية، فخشيت من نتائج انشطار الحكومة اللبنانية والفراغ الرئاسي، وشنّ عون حرب التحرير ضدَّ سورية وحربِ الإلغاء ضدّ جعجع، وتدخلِ العراق ومنظمة التحرير الفلسطينية في الأزمة اللبنانية داعمًا عون بهدف مناوأة سورية، ورد دمشق بمحاصرة المناطق المسيحية وقصفها بلا رحمة.
لذا، قامت جامعة الدول العربية بمبادرة لحلّ الأزمة اللبنانية. وكانت واشنطن تريد وقف إطلاق النار وانتخاب رئيس للجمهورية وليس إخراج السوريين من لبنان، وتفضل التعريب على التدويل، على عكس فرنسا التي أرادت أنْ ينخرط مجلس الأمن بالمسألة اللبنانية. وكان واشنطن تعتقد أنّ نفوذها وإملاءاتها على دول الخليج العربية، وعلى السعودية بالذات، سوف تمكّنها من حسم الأمور لصالح سورية. وقد أمل الفرنسيون، بأنْ تمكّنهم التغييرات في أوروبا الشرقية من تفعيل دورهم في لبنان واستعادة نفوذهم عبر ميشال عون. من هنا، اتهمت باريس دمشق بتحويل لبنان إلى قاعدة للإرهاب وتجارة المخدرات، وكذلك فعل الفاتيكان، بالقول إنّ سورية تقوم بإبادة المسيحيين. لذا، قام الأسطول الفرنسي بتظاهرة قبالة لبنان في آب 1989؛ لتخويف السوريين والبعث برسالة إلى الأميركيين حول مصالح بلاده التقليدية في لبنان. لكنها لم تحقّق نتائج، وتحوّلت إلى مبادرة إنسانية.
اتفاق الطائف: نتائج وتداعيات على استقرار لبنان وسيادته
أسفرت اجتماعات النوابِ اللبنانيين في الطائف عن اتفاق حول توازنٍ جديد للسلطة لن ندخل في بنوده، أو في سبب عدم تطبيق إلغاء الطائفية السياسية. كان بند إلغاء الطائفية السياسية ليس للتنفيذ بالنسبة إلى سورية وأتباعها اللبنانية، بل لتخويف المسيحيين المعارضين لسياستها وترويضهم، في كلّ مرّة يطالبون فيه بخروج الجيش السوري من لبنان واستعادة سيادته. وقد اضطرت جامعة الدول العربية للرضوخِ للضغوط الأميركية، بالتساهل مع سورية في موضوع تموضع قواتها في لبنان إلى البقاع بعد سنتين، بدلًا من شهورٍ ستة، بعد أنْ تكون الحكومة اللبنانية قد استكملت خطوات وإجراءات دستورية. والأهم من هذا وذاك، أنّ “الترويكا العربية” (الملكان فهد بن عبد العزيز وملك المغرب الحسن الثاني والرئيس الجزائري الشاذلي بن شديد) أذعنت لإرادة سورية بأنّ الحكومتين اللبنانية (الضعيفة) والسورية تتشاوران في شأن كيفية إعادة التموضع العسكري السوري. وفي 13 تشرين الأول 1990، انهت سورية بعملية عسكرية سريعة، بموافقةٍ أميركية – إسرائيلية – عربية، ظاهرة عون الذي غادر البلاد إلى فرنسا، تاركًا جيشه في الميدان ليستسلم للسوريين أو يُقتل على أيديهم في اليرزة.
ومنذ ذلك الحين، دخل لبنان في دائرة الوصاية السورية بموافقة العرب والمجتمع الدولي. ولم تلتزم “اللجنة الثلاثية العربية” بموضوع مراقبة إعادة التموضع السوري، أو تلاعب سورية باتفاق الطائف وبالتالي بالطوائف الدينية اللبنانية. وفي ضوء هيمنة سورية على لبنان لا سابق لها في تاريخه الحدث والمعاصر، وخضوع الحكومات اللبنانية المنصّبة من قبلها لنفوذها، لم تتجرأ حكومة لبنانية على الطلب منها سحبَ قواتِها؛ فبقيت سورية مهيمنة على البلاد حتى اغتيال الرئيس الحريري، فيما أبدى المسيحيون مقاومة للاحتلال السوري منذ العام 2000، ولحق بهم وليد جنبلاط ورفيق الحريري تدريجيًّا منذ العام 2003، إثر صدور قانون محاسبة سورية على أفعالها في لبنان نهاية العام الأخير.
***
(*) نُشرت هذه الدراسة من حلقتين في جريدة اللواء، تاريخ 16 و17 نيسان 2019.