جلسة مع جان عبيد   

raouf-kobeissiiiii

  (النهار- 24 نيسان 2019)

هناك جملة أسباب تحمل أي لبناني عاقل حر، على تجنب مخالطة رجال السياسة اللبنانيين، بسبب ما اقترفوه من جرائم بحق الوطن والمواطنين. يكفي أن البلد الذي كان الفرنسيون زمن الانتداب يسمونه جبل العطور، صار تحت حكم رجال “الاستقلال”، ومن جاء بعدهم من الزعماء “الوطنيين”، مكباً للنفايات. لست إلا واحداً من مئات الألوف من المواطنين البسطاء الذين يمقتون رجال السياسة هؤلاء، ولا يروقني أن أخاطب أحداً منهم بألقاب الفخامة والدولة والمعالي والسعادة، غير أن الكثيرين من اللبنانيين، شأنهم شأن معظم شعوب العالم الثالث، تسيًرهم الغرائز والخطب الرنَانة، والكلمات المعسولة الفارغة من المعاني. يعرفون حق المعرفة أن السياسيين ينهبون الدولة ومال الناس، لكنهم، متى جاء موسم الانتخابات، هرولوا إلى صناديق الاقتراع وأعادوهم إلى التحكم بمقادير البلاد، شأنهم شأن من يتعجَل الموت من سفاحه!

تحضرني في هذه المناسبة، قصة قد تكون أمثولة لنا جميعاَ، رواها ميخائيل نعيمة في سيرته الذاتية “سبعون”. كان نعيمة بعد عودته من الولايات المتحدة مطلع الثلاثينات، قد بدأ يتلقى دعوات كثيرة لإلقاء خطب. وحدث ذات يوم، أن وجهت إليه دعوة للمشاركة في احتفال في دمشق، كان من المنتظر أن يحضره رئيس الجمهورية، وقبل موعد الاحتفال، ذهب وفد إلى الفندق الذي يقيم فيه، ليطلعوه على برنامج الحفل، وليخبروه بأن العادة، أن يتوجه الخطيب إلى رئيس الجمهورية وحده، ويفتتح كلمته بعبارة “يا صاحب الفخامة”، فما كان منه إلا أن قال لهم، إن من المستحسن أن يستغنوا عنه، لأنه لا يريد أن يتفوه بعبارة لا يقبلها عقله، ويمجًها ذوقه، وينفر منها فؤاده، وانه لا يفهم ما هي “الفخامة”، وكيف يكون إنسان واحد ذا فخامة، وباقي الناس ليسوا من أصحاب الفخامة! أخيراً إنتهى الجدل، بأن نزل الوفد عند رغبة نعيمة، الذي ألقى كلمته مجردة من عبارة  “يا صاحب الفخامة”. لكن القوم في الشرق، على حد قول الكاتب الراحل “لا تزال تستهويهم النعوت الكاذبة والألقاب المزيفة، استهواء الدمية للولد الصغير. فهم، من حيث نضجهم الروحي، ما زالوا في طور الطفولة، وكأن الذل تمكن من نفوسهم، إلى حد أن استئصاله، بات أصعب من استئصال السرطان”!  كتب صاحب “مرداد” هذه الكلمات في القرن الماضي، ويبدو أن معظم اللبنانيين لا يزالون يستمرئون أثقال التبعية، وأصبحوا كالخراف الراكضة خلف رعيانها. يشكون من كل شيء كل يوم، وفي أيام الانتخابات، يرتكبون جريمة بحق الوطن وحق أنفسهم، معزًزين نظاماً لا يضاهيه في التخلف، إلا نظام التمييز العنصري الذي كان سائداً في جنوب إفريقيا القديمة.

ليس كل السياسيين اللبنانيين سيئين. هناك منهم النزيه، الذي يهمه مصلحة البلد، ومصلحة الشعب، ولا يتربع على كرسي الرئاسة، أو يدخل المجلس النيابي أو الوزارة، ليسرق وينهب، بل ليحافظ على الوطن ويخدم الناس. من هؤلاء، كان رئيس الجمهورية الراحل الجنرال فؤاد شهاب، الذي لم يُعرف عنه أنه أفسد، أو أساء استخدام السلطة. حتى أنه، لعفة في نفسه، رفض أن يجدد لولاية ثانية، على رغم التأييد النيابي والشعبي العارم له. كذلك هو رئيس الوزراء الأسبق الدكتور سليم الحص، الذي لا ُيعرف عنه هو الآخر، أنه أفسد أو أساء استخدام السلطة، وما زلت كلما مررت بمنزله ذاك المتواضع، بمنطقة عائشة بكار، في الشطر الغربي من بيروت، أرنو إلى العمارة القديمة، فأتمثله من الفور، بصورة رجل من رجال السياسية المتواضعين في الدول الراقية، ينزوون في بيوتهم بصمت، متفرغين للدرس والبحث والتأمل، مثل نسَاك أتمَوا رسالتهم، أو على وشك أن يتموا رسالتهم. لا فؤاد شهاب، ولا سليم الحص وحدهما من هذا المعجن بالتأكيد، إذ لا بد أن هناك سياسيين آخرين ، من الأحياء ومن الأموات، من هم من هذا الطراز، ولن أتردد في القول إن الوزير الأسبق، النائب الحالي جان عبيد، هو واحد منهم. أقولها وأمري إلى الله كما يقول المؤمنون، وكلني أمل أن لا يُساء فهمي، أو يُفهم كلامي على أنه من أحكام السياسة، التي أرباً بنفسي أن أدخل متاهاتها ومحاورها، أنما هو حكم شخصي على الرجل كإنسان، وهذا كل ما في الأمر!

 يروقك في جان عبيد، ثقافته وتواضعه؛  فهم عميق في السياسة والقانون والتاريخ، والصحافة والأدب والأديان. يحدثك في الموضوعات المثيرة، وإذا ترك نفسه على سجيتها، تحدث عن بعض السياسيين، وأمدَك بمعلومات لا تخطر على بال. لا يخفي إعجابه بكمال جنبلاط، وفكر كمال جنبلاط، وروحانيات كمال جنبلاط، ولم أتمالك، وهو يحدثني عن هذا السياسي الراحل، إلا أن أصغي إليه، على رغم تحفظي على الزعماء اللبنانيين والفلسطينيين كافة، الذي أشعلوا الحرب الأهلية ودمروا لبنان. ما كان جان عبيد على أي حال، من أصحاب المليشيات، أو من أولياء الأحزاب المتحاربة. كان حزبياً، وعضواً قيادياً في حزب قومي، إلا أنه ظل حراً. لم يدخل في الصراعات، وبقيت لبنانيته، أو قل وعروبته، علمانية صافية غير موحلة. هو بالرغم من كل ذلك، روحاني مثلما كان كمال جنبلاط، ولو بسُبل مختلفة. يقرأ في “الكتب المقدسة” على اختلاف أنواعها، ويحفظ من القرآن الشيء الكثير، ومن السيرة النبوية ما يفوق معرفة الكثيرين من أساتذة التاريخ.

 هذه الحالة الروحية تشده دائماً إلى الأعلى، وفي إحدى الليالي جعلته يرى في المنام قمراً يسقط ويتفحَم. لم يتبيًن رمزهذا الحلم ومعناه، إلا حين قرأ كتاب “تعطير الأنام في تعبير المنام”، للإمام عبد الغني النابلسي. وجد في الكتاب أن المنام الذي يسقط القمر فيه ويتفحم، معناه أن هناك شخصاً، أو أشخاصاً سيموتون. كان يومها رئيس تحريرمجلة “الصياد”، فتراءى له في حلمه، الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، يسلمه ورقة عليها ثلاثة أسماء، لم يستطع أن يتبين منها الا اسم كمال جنبلاط، وقال إنه زار جنبلاط بعد ذلك في دارته في بلدة المختارة، في 10 آذار من سنة 1917، وأن الرجل  قال له في تلك الجلسة، إنه لن يعيش للستين، ولم تمض أيام معدودة حتى لقي جنبلاط مصرعه. رحل كمال جنبلاط في 16 آذار من سنة 1977.

هل كان جنبلاط الذي ولد في 6 كانون الثاني من سنة 1907 يعرف حقاً أنه سيرحل عن الدنيا قبل أن يبلغ الستين؟ من الصعب على امرء غارق في العلمانية مثلي أن يستوعب هذه المفاهيم، لكن لا بد أن جان عبيد، وكمال جنبلاط، وكثيرين من الروحانيين حول العالم، يرون في الكون والبشر والطبيعة ما قد لا يراه الآخرون، ويجدون في اللامحسوس، قوة قد لا تدركها العقول. مهما يكن، تبقى هذه المثل الروحية المغايرة، أفضل بما لا يقاس من هويات دينية جامدة، يقول برتراند راسل، أنها أهرقت من الدم عبر التاريخ، أكثر من أي عقيدة أخرى، وحاضر عالمنا العربي وماضيه، خير دليل ومصداق!

شخصياً، أحب الاستماع إلى حوار العلماء مع الروحانيين، مثل حوارعالم الفيزياء البريطاني الملحد ريتشارد دوكينغز، مع رجال الكنيسة، في مسائل تتصل بالطبيعة وما وراء الطبيعة، والوجود والعدم، وعندي أن تساؤلات بعض الروحانيين، والمتصوفين، وخيالات بعض الفنانين والكتاب والشعراء، هي من القوة مثل قوة أبحاث العلماء، تُغني تراثنا الإنساني، على الرغم من أن بعض مظاهرها لا يرضي العقول العلمية الخالصة، لكنها في المقابل، تعيننا على فهم دقائق شخصيات مثل جبران والحلاج، وابن عربي وابن رشد وغيرهم من رجال الروح في الشرق والغرب. نجد في إيمانهم تطلعات تشحذ العقول، ونظرات تختلف أشد الأختلاف عن تدين من ورثوا العقائد، ولم ينعموا النظر فيما ورثوه. هؤلاء تدينهم ثقيل على النفس وعلى الناس، وأشبه بتدين العجائز، وفي كتابه “عبقرية عمر” يخبرنا عباس محمود العقاد، أن الخليفة الراشدي الثاني كان يستخًف بإيمان العجائز، ويأنس إلى إيمان العقلاء، ما جعله يزهد في الدنيا، وكان في ساعات شجنه، يردد بيتاً من الشعر لشاعرعاش في الجاهلية، ثم أدرك الإسلام وأسلم، واسمه عبدة بن الطبيب؛ “والمرء ساعٍ لأمر ليس يدركه/ والعيش شُح وإشفاق وتأميل”.

عادت إلى ذاكرتي ما جاء عن الخليفة عمر في كتاب العقاد، وأنا في طور الإشارة إلى مسألة إيمان أصحاب العقول، لذلك، يطيب لي كلما زرت جان عبيد، في مكتبه المتواضع، في ذلك الحي الهادىء الأنيق بمنطقة حرج تابت في بيروت، أن أسمعه يتحدث في الدين والأدب والتاريخ، وغيرها من الموضوعات الشائقة، ولم يفتني في جلستي الأخيرة معه أن أسأله قبل الوداع، ما إذا كان صحيحاً ما يُشاع، بأنه يسعى إلى رئاسة الجمهورية، وهو أمر ما برح الكثيرون من اللبنانيين يتحدثون به ويتمنوه، فأجابني بالقول، إنه لن يركض وراء كرسي الرئاسة، أو كرسي الوزارة، وقد شغله غير مرة، فهو، كما أسرَ لي، من المؤمنين بأن كل شيء مقدَر مكتوب، وأنه إذا كان الشيء قد دوَن في سجل حياته كما يقول، فسيتكَفل القدر به، من غير أن يسعى هو إليه. قالها لي بلغة العارف الزاهد، كما لو أنه كان يردد في قلبه، قول “داود النبي” في كتاب المزامير: “ما لم يبنِ الرب البيت فعبثاً يتعب البناؤون”!

اترك رد