القيامةُ في وَجهَيها

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

ما ذَنبُكَ يا سيّدي، حتى يُصبحَ موتُكَ مَبذوراً في الطّينةِ، فتَضطَرَّ أن تُدَحرجَ الحجر ؟

يَحسبُ بعضُ الناسِ الكلامَ في القيامةِ لوناً من العَبَث، وكأنّ القيامةَ تَخلو من صَبَواتٍ تشكّلُ ثروةً عظيمةً لا تخطرُ لهذا البعضِ في بال. هي ليسَت، بحالٍ، غَرَضاً لِفَهمِ جَدِّ المسيحِ العاثِرِ وحظِّهِ المَنكود، أو حافِزاً لِتَلَفُّتِ النّاس إليه، وكأنّه غيرُ معروفٍ مَسقطُ رأسِه.

القيامةُ لم تنشأْ في بيئةٍ خامِلة تَطمعُ في مجدٍ حتى تُقَيَّدَ بتاريخ، ولم تَسْتَرزِقْ حَمداً أو مناصرةً في مواسمِ شحِّ الإيمان، لكنّها قدَّمت نفسَها رسالةً مُطَوَّلَة تفيضُ بالحبِّ اللّاذِع، لا ليصحَّ لها من أَحدٍ وداد، أو يَظهرَ لها حِفاظ، فهي في ذلك مُتَكَفِّفَة.

القيامةُ لم تُطرَحْ من قلبٍ صاحبَه الأَلم، وإلاّ كانت باديةً لأَحوالِ الزّمان فما قصَّر في ارتابِ فعلتِها صَواب. هي أمسكَت عن أن تكونَ نتيجةً لنزاعٍ بينَ مدلولِ الإِباءِ ومشروعِ الجُرح، لكنّها ستَرَت كثيراً من مخازي الوقت لتُؤَسِّسَ لثورةٍ على الأَحياءِ وليس للأَحياء. وهي ثورةٌ شَبَّت في مفتاحِ عمرِ يسوع، وظلَّ هو مُستَظِلاً بفنائِها حتى قضى. لكنّ غلَّتَه منها لم يُطفَأْ صداها، فالثورةُ لم تُتقِنْ حرفةَ الكَساد، فوَعدُها مُتَّصِل، لذلك هي حُضورُ هَمٍّ يُنسي ما سِواه.

المسيحُ بالقيامةِ، لم يأكلِ الشَّهدَ إلاّ ممزوجاً بِسُمِّنا، فنحنُ قطفنا نورَ القيامةِ بسوءِ نِيَّة، وبحماسةِ مَن رُمِيَ في الهاويةِ. نحن أردنا نسخةَ القيامة عكّازاً لِضَياعِنا، وبرهاناً لتضحيةٍ لم ندفعْ ثمنَها، وهكذا بلغنا فسادَ المذهبِ في الديانة.

القيامةُ ليسَت شكوى من الزّمان بقدرِ ما هي درسٌ لِجَفوةِ الزَّمن، هذا الذّاهبِ عن الحقّ، والقائلِ بأنّ القيامةَ سحرٌ أو أسطورةٌ من أساطيرِ الأَوّلين. وما أكثرَ الذّاهِلينَ عن الرّشد، ما اضطُرَّ القائمِ من الموتِ الى مناضلةِ المُرتابين في إعجازِ ما أتى.

لم تكن القيامةُ بحاجةٍ الى توثيقها لِخشيةٍ من الضّياع، فهي الخاليةُ من الغَلَط لا توزَنُ بموازينِ الزمان والمكان، ولن يتطرّق إليها شيءٌ من الإِخلال. لقد غلبتِ القيامةُ على عِلمِ الدّين، وتفرَّدت بمدلولٍ خاص، فهي ما جَرَت على خطّةٍ اتّفقَ عليها المُتفَقِّهون، أو سلكوا في تأليفها، لأنها ليست نصّاً يصحُّ نَقدُه، أو بدعةً تُقَعِّدُها كتبُ الحكمةِ وتفصلُ فيها أحكامُ الكلام أو تستنبطها خواطرُ الدَّهر.

القيامةُ، على وجه التَّعيين، هي أولُّ ظاهرةٍ لِتَمَدُّنِ العقل، لأنها نَفاذ البصيرة الى التفريق بين حقائق الأشياء. ولمّا صَحَّت مقولةُ أنّ الناس، كلّما توغَّلوا في درس حقائق الأشياء، كلّما ابتعدوا عن الدّين، استطاعت القيامةُ أن تُخرجَ نفسَها من دائرة الوَحي الى فعل الإبداع الذي فيه إِعظامٌ للعقل، وهكذا أصابت الغرضَ الذي رمت إليه.  

إنّ المَغبوطَ الأوّل من فعل القيامة هو المسيحُ نفسُه. أوليس هو القائلُ: ” أَبعِدْ عنّي هذه الكأس”، و” لماذا تركتَني ؟ “، وفي ذلك دلالةٌ واضحة على الخَوفِ من الموت والنّاجم عن الطبيعة الإنسانية في ذات المُخَلِّص. لكنّ الخوفَ مرَّ آنِيّاً، لأنّ المسيح كان يعلمُ مُسبَقاً بأنّ الإختفاءَ سريعُ الزّمانية، وأنّ العودةَ قريبة، وفي ذلك فرحٌ حتميّ. وبعد، ولمّا كان الفرح سُنَّةً شائعة في الناس، هنالك مَن يقول إنّ المسيح لا يشبهنا !!!!

لكنّ فرح المسيح مُنقَبِض، كان يأمل بخلودٍ في بلاط أبيه، متوكِّلاً على أنّ الذين افتداهم بِطَبعةِ الصليب، سوف تستقيم خلائقُهم فلا تُخفَضُ إراداتهم أمام سدّاتِ الخطيئة. وإذا كان المسيحُ مهموماً من مكنونِ أسرار القيامة، فلأنّ الناس زادوا زمانَه صعوبة لرغبتهم المعدومة في المحاسن، وكأنّ القيامة لم تَقُم ساعتُها إلاّ على شرار الخَلق.

المسيحُ ذو فَضلٍ لأنه، بقيامته، شيّدَ مفاخرَ الإنسان، وهذا بَخُلَ وغَفلَ وقصّر وكان خصباً في الإلتواء والدَّنس. لم يعِشِ الإنسان بحسب ما يقتضيه فعل القيامة، وفي ذلك، أساساً، ابتعاد عن النّبل، لكنّه بدا مطمئِنّاً وكأنه فاوضَ المسيحَ على قياماتٍ لاحقة. إنّ قضاءَ حاجات الإنسان بالقيامة لا يَرفعُ به رأساً، ولا يُنظَر إليه إلاّ خَجَلاً، وهو خطأٌ لا يمتّ الى الموهبة بِصِلَة. فالنّعمةُ المجانيّة لم يحسِّن الإنسان بها موقعه، واعتمد على أنّ الله بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم، وكأنه لم يلحظِ التَّغييرَ بين ما قبل القيامةِ وما بعدها، فوجدَ آباءَه على مِلَّةِ الشرّ وكان على آثارهم مُهتَدِياً. من هنا، لم يكن الإنسان على مقدارِ تَوَقُّعِ المسيح بأن يكون سطحاً صقيلاً يحدثُ له، عندَ وقوعِ نور القيامة عليه، انبعاثُ شعاعٍ منه يجلو أمكنةَ حياته المظلمة، لتصبحَ مُتَطَيِّبَة.

إنّ رحمة الله جعلته ألاّ يتعلّم من خطأٍ ارتكبه، ليردفه بآخرَ. الخطأ الأول كان بنيوياً تكوينياً عندما تنازل ربّنا ومزجَ في جُبلة آدمَ بعضاً من أُلوهته، فجيّرها آدمُ للحَيّة. أما الخطأ الثاني، فهو خطأ في التقدير، عندما أجبر الآبُ الإبنَ على التضحية الكبرى بالموتِ مُهاناً عنّا، فجحدنا القيامةَ وأزهقنا النّور.

عفوَكَ ربّي، نحن لا نستحقّ.    

اترك رد