ندوة حول رواية الدكتور علي نسر الأولى “وادي الغيوم” في مجمع باسل الأسد الثقافي في صور

ali 1

وقع الأديب الدكتور علي نسر روايته الأولى “وادي الغيوم” (دار المؤلف) في احتفال في مجمع باسل الأسد الثقافي في مدينة صور، حضره حشد من أهل الفكر والأدب والأصدقاء والطلاب وشارك فيه الناقد والإعلامي أحمد بزون والباحث د. طارق عبود، وقدمه الإعلامي عماد خليل، الذي رحب بالحضور ووصف “وادي الغيوم” بأنها الضيعة التي احتضنت غربة أم يوسف وأسرار البكاء، شخصيات هذه الرواية عديدة وكل شخصية تحمل قضية وتحمل وجعاً…”، وكانت للدكتور علي نسر كلمة  شكر في  ختام الحفل مما جاء فيها : “أنتم نص نثراً وشعراً، انتم القصيدة التي لم يهتدي اليها الشعراء بعد”. وأشار الى عجزه عن الكلام امام هذا الحضور وأضاف: “إنني الموجة التي ضلّت في اللاجهات، فكانت محبتكم ميناء الرسو، وإنني الغيمة التي اتخمها البحر بالوصايا والاسرار فكنتم الوادي الذي يحمل تلك الوصايا، حيث الصخر مرآة لمن عبروا”… من ثم  وقّع روايته.

في ما يلي نص كلمتي أحمد بزون و د. طارق عبود.

imad khalil

عماد خليل

أحمد بزون

قبل الحديث عن رواية “وادي الغيوم” في هذا اللقاء الشيق، أود أن ألتفت بكلمتي هذه إلى مؤلفها الدكتور علي نسر، الذي منذ تعرفت إليه كاتباً وأديباً، وأنا أشعر بالتقصير في اللحاق بأنشطته، وأَغبِطُه لقدرته على تكثيف وقته بجلد كبير، إذ خلال سنوات قليلة استطاع أن يمتلك ثقافة واسعة، وحضوراً مميزاً في الساحة الأدبية اللبنانية والعربية، ليس بقفزات استعراضية بهلوانية، إنما بكثير من الجهد والمثابرة والجدية والقراءة والكتابة، وفتح حوارات ساخنة في وسائل التواصل الاجتماعي، ونسج علاقات بعدد كبير من المثقفين، حتى بتُّ لا أتفاجأ بخطواته النوعية، لكونه عودنا أن يحوّل المفاجأة إلى حدث عادي، وباتت مسابقتُه لأحلامه أسلوب حياة.

هذه المقدمة لأقول إنني قرأت “وادي الغيوم” مطمئناً إلى أنني لن أضيّع وقتاً، فكثرة الكتب الفارغة باتت مخيفة، وتعاظم الذات يُعمي مدَّعي كتابة الرواية والشعر وسواهما. ومطمئناً إلى أنني لن أغوص في كتابات إنشائية وبلاغية أو تشبيحات لغوية، تعبر عن عجز أصحابها عن توليد الأفكار ومحاورتها، وإلى أن هذا النص الذي بين يديّ لن يمطر عليّ مواعظ سياسية أو دينية أو مسلمات اجتماعية معلبة.

من الصفحات الأولى للرواية تطالعنا المشاهد الوصفية الأولى المضاءة بالشعرية، لتذكرنا بأننا أمام روائي شاعر، إلا أن هذه الشعرية التي راحت تظهر وتختفي، لم تعطلِ السرد، أو تشوشِ اندفاعه، أو تبطِّئْ حركته، إنما تفسح مساحات واسعة لجريان السرد، وتساهم في خلق نوع من الفانتازيا التي تزين النص بواحات فاتنة نعبرها في طريق البحث مصير الأحداث.

لم يتورط علي نسر الروائي إذاً في طغيان الكتابة الشعرية، فهو لم يشغل نفسه في عكس الحدث، أو يستغرق في التأثر به، بقدر ما عمل على خلق أحداث ليرويها، وعلى لَيّ وقائعَ في اتجاه الضرورات الأدبية التخييلية، وبهذا حافظ على تميُّز الرواية كجنس أدبي واضح.

وقد بات سائداً في الساحة العربية أن يتحول الشعراء إلى الرواية، إذ إن العديد منهم يخوضون اليوم هذه التجربة، بعدما تدهورت قراءة الشعر، وتناقصت مبيعات الكتب الشعرية، بسبب تفاهة بعضها أو نخبوية البعض الآخر، ومع تزايد الاهتمام بالكتابة الروائية ارتفعت عالياً لافتة “الرواية ديوان العرب”، ولا غرابة، فقد سبق أن كتب مشاهير شعراء العالم روايات، وفي ظروف مشابهة سادت أوروبا في القرن التاسع عشر، حين اهتزت دولة الشعر ومعها الرومنسية، مع التطور الصناعي والتكنولوجي الذي ساد هذه القارة حينها، ويكفينا أن نذكر شعراء عظاماً عرّجوا على الكتابة الروائية، أمثال غوتيه وبوشكين وهوغو.

المهم أن الشاعر علي نسر قبل أن يتحول إلى الرواية، خاض أيضاً تجربة النقد الروائي، أكاديمياً وإعلامياً، فعرَف كيف يبعد موضوعية الكتابة الروائية عن تهويمات الذات، وكيف يخلق شخصيات بعيدة عن محور تفكيره الشخصي، وعالماً خارجاً على العصبيات والمزاجية والأهواء الشخصية، وبعدما نجح في الانحياز إلى السردية، عرَف كيف يجذبنا إلى غبطة القراءة، وجاذبية الحوارات وغناها، بمستوياتها المتباينة، من حوار العشاق الهادئ والصاخب إلى أعماق الصراع الأيديولوجي.

أما من ناحية البناء العام للرواية، فقد بدا الروائي منحازاً لصيغة حديثة، أو على الأقل ابتعد عن كلاسيكية بنية السرد الروائي وتقليديتها، فاعتمد أولاً تقنية سرد رواية داخل رواية، فأتاح لنا أن نقرأ روايتين في نص واحد، الأولى فيها المقاومة اللبنانية الوطنية والإسلامية، والثانية المقاومة الفلسطينية، يتنقل بينهما برشاقة، كأنما أراد أن يقول لا يمكن أن ننسى المقاومة الفلسطينية ونحن نتحدث عن مقاومة لبنانية، والعكس صحيح، وأباح لشخصياته حرية الانتقاد والمساءلة والإضاءة على السلبي والإيجابي في المقاومتين.

لا أريد أن آخذكم معي سيداتي سادتي إلى أحداث الرواية، حتى لا أقطع عليكم لَذة المتابعة، وفتنة المفاجآت، ومتعة الدخول إلى عالم روائي شيق، لأبقى عند حدود الكلام على التقنيات المستخدمة في السرد، وأقدم تقويماً عاماً، وقراءة نقدية مختصرة.

ahmad-bazoun

أحمد بزون

وهكذا لا بد من التوقف أيضاً عند تقنية أساسية اعتمدها علي نسر في روايته، هي تعدد الأصوات، أو ما يطلق عليه أيضاً “البوليفونية”، لتشبهها بالتلوين الموسيقي، وهي تقنية حديثة، يضيف إليها البعض خطأً مصطلح تعدد الرواة، وهناك خلط في الكتابات النقدية بين المصطلحين، فالمصطلح الأول يشتمل على كل تعدد في الشخصيات وتنوع في الآراء والأفكار واللغات، وفسح مجالات واسعة للحوار… هذه التقنية التعددية يمكن أن تشمل العديد من روائيي العالم المنفتحين والديمقراطيين والليبراليين والحديثين، إلى درجة أن هذا التصنيف يمكن أن يشمل ثربانتس صاحب أول رواية أوروبية حديثة في العالم، وهي رواية “دون كيشوت”.

أما “وادي الغيوم” فتندرج ضمن هذا السياق الحداثي، لكنها تتخطاه إلى المصطلح الثاني، تعدد الرواة، وهي تقنية نادرة اعتمدها بعض رواد الرواية في مطلع القرن العشرين مثل الإنكليزية فرجينيا وولف والأميركي وليم فوكنر، ولم يطرقها إلا القلة في عالمنا العربي، وفي طليعتهم جبرا إبراهيم جبرا في روايته “البحث عن وليد مسعود” و”يوميات سراب عفان”.

لقد قسّم علي نسر الرواية إلى فصول، وحمّل كلَّ فصل اسم راويه أو اسم شخصية أساسية من شخصيات الرواية، تسرُدُ الحدث بأسلوبها، ومن منطلق قناعاتها ومواقفها وأيديولوجيتها ومستواها اللغوي، فنصدقُها أكثرَ مما نصدق الراوي الواحد كليَّ المعرفة، فضمير الأنا الذي يستخدمه كل راوٍ يتحدث به عن نفسه، يوهمنا بالحقيقة أكثر من راوٍ واحدٍ أحد يدَّعي معرفة ما في صدور أبطاله.

قدّم علي نسر هذه اللعبة بنجاح، وقد رأيناه يطلق الحرية كاملة لكل شخصية أساسية أو راوٍ، ليعبّر عن وجهة نظره ومبادئه وأحلامه كما يريد، من دون أن يتحكم بها أو يتعامل معها الكاتب بآلية لاعب الدمى. وبهذا يقدّم المؤلف مساحة واسعة من الأفكار، لفئات مختلفة من القراء الذين من شأن كل منهم أن يختار الموقف الذي يراه مناسباً له، بعدما وضعه المؤلف أمام حوارات صاخبة، غائصاً في أعماق الأمور الخلافية بجرأة يتحدى بها القارئ، من دون أن يملي عليه خياراً أو يستلبَه، أو يستدرجَه ليتبنى رأيه أو موقفه، ومن دون أن يتبنى الكاتب ما يقرره أبطاله، أو يكون مسؤولاً عن تطرفهم ونزواتهم وأخطائهم. ولا بأس بأن طرّى الكاتب وعورة النقاش بآراء متفلتة، في الحب والعشق والعفة والفجور، وزيَّن خشونة الرجال ومجتمعهم الجاف بالكثير من محطات الإغراء، ورسَم أنهاراً لتدفق الأنوثة، وأجساداً يزهر فوقها خيال المراهقين وأهلِ الغرام.

نحن، إذاً، أمام نص حر، وشخصيات حرة لا يقودها المؤلف بعَصاً، أو يتدخلُ بمصائرها، فنجد الشخصية الدينية تسرح وتمرح، والشخصيةَ الليبرالية واليسارية، وشخصيةَ المقاوم الإسلامي، والمقاوم العروبي، والفلسطيني، وشخصياتٍ يائسةً مهزومة، وأخرى متحمسةً وثائرة، و”الجنتلمان” الذي يستبيح أسرار غرف النوم، ويدخل خراب الحياة الزوجية، ويكشِف العلاقات الجميلة والقلقة بين الجنسين.

تتميز رواية “وادي الغيوم” بأنها تُشيع حياة نقدية واسعة بين الشخصيات، وتضعنا أمام الكثير من الأسئلة، أو لنقل إنها تقدم لنا ثقافة الأسئلة، من دون أن يملي مؤلفها علينا إجابة واحدة، ولا موعظة، ولا رأياً، إنما يهيئ لنا في الرواية فضاء للتفكير، ومساحة حرة للاختيار. همه الأساسي أن يضعنا أمام متعة القراءة، ومتعة أن نشاركه في إطلاق أجنحة الخيال، ولعل متعة مهمة سوف تلاقونها في النص هي تلك اللغة الجميلة، وذاك القاموس اللغويّ الواسع، وتلك السلاسة الآسرة في آلية السرد، التي من شأنها أن تغسل أعصاب القارئ من توتر الأحداث. ثم إن الصدق والشفافية من السمات التي تريح القارئ، وتجعله مطمئناً أثناء القراءة، فلا خبث في النص ولا استدراج، فالاطمئنان يجعلنا نتْبع الأحداث بشوق، محزنة كانت أو مفرحة، ولعل أكثر الفصول إثارة وجذباً، تلك التي تخص شخصية صباح أخت يوسف قنديل التي كانت ضحية مفاهيم مجتمع متحجر، وقد قرأت الفصول المخصصة لها بانجذاب يخطف الأنفاس، قرأت لغة سردية آسرة بتفاصيلها وديناميتها وإغوائها. هذه المساحة من الرواية أنستني اختلافي مع الكاتب في بناء بعض الشخصيات، أو ملاحظتي قطعاً حاداً في الانتقال من راوٍ إلى آخر، ذلك أنني أفترض أن الانتقال من فصل إلى فصل يكون أشبه بالانزلاق الناعم، وإن اعتمد روائيون روّاد أسلوب القطع الفوضوي أحياناً. ثم إني لاحظت أيضاً سيادة لغة الراوي يوسف، الأقرب إلى شخصية الكاتب، على لغة رواة آخرين أحياناً، فالكاتب انشغل، مثلاً، بتظهير أفكار أحد رواته الأساسيين صلاح، وهو مقاوم إسلامي، ساهياً عن تظهير لغته الخاصة وأسلوبه ومفرداته في الكلام اليومي.

خلاصة القول، إنكم ستحملون، بعد قليل، رواية تطالعكم فتنتها من الغلاف، حيث لوحة الفنانة المبدعة هناء عبد الخالق، وإخراج جميل لدار المؤلف، وفي الداخل يكفي متذوقي الأدب أن يستمتعوا بشعرية التفاصيل، وبالمشاهد التي صوَّرها الكاتب بسكب لغوي سلس ومغرٍ، والذين يحبون الحوارات الفكرية سوف تحك الأسئلة الإشكالية أدمغتهم، ويجدون أنفسهم وسط نقاش مثير وذي صدى، إلى أي اتجاه انتموا. أما المغرمون الضالون فسوف يجدون أقصر الطرق والأساليب إلى نار العشق وجنة الغرام.

tarek aboud

د. طارق عبود

د. طارق عبود

أن تُكلّف بقراءة كتاب لصديقٍ عزيز، ورواية تشكّل عمله الأول، فهذا موقف لا تُحسدُ عليه.

لا أخفي عليكم أنني كنتُ مرتبكًا أمام هذا النص، وشعرتُ للحظة أنني أريدُ أن أمسك القلم، فأضيفُ جملة هنا، وأحذف أخرى هناك، وأشارك في الحكي مرة هنالك، خوفًا على عليّ من أن يزلّ قلمه، أو تخونه العبارة، او أن يشطح شطحة من شطحاته تورطنا وتورطه.

لأول مرة أقرأ رواية وأشعر أنّ التوترَ والخوف يسيطران عليّ. درجت العادة أن أحاول جاهدًا التفتيش والبحث والتنقيب عن أخطاء الكاتب وهنّاته، وأتعقب عثراتِه لكي أكتب نقدًا لائقًا وموضوعيًا، ولكن هذه هي المرة الأولى التي كنتُ مع كل صفحة، أرتبك وأستعجل لكي لا أرى أخطاءً أو عثرات في الرواية. وحاولتُ جاهدًا أن أجدَ الأعذار للكاتب، أو أحاول أن أتغاضى عن بعض التفاصيل التي حسبتها غير مؤثّرة في بنية الرواية.

إنّ أبرز المبادئ التي قامت عليها البنيوية هو المبدأ القائم على أنَّ “الأدب نصٌّ مادِّيٌّ تامٌّ منغلق على نفسه” أي أن دراسة الأعمال الأدبية عملية تتمُّ في ذاتها، بغضّ النظر عن المحيط الذي أنتجت فيه؛ فالنص الأدبي منغلقٌ في وجه كل التأويلات غير البريئة التي تعطيه أبعادًا اجتماعية أو نفسية أو حتى تاريخية، ومادِّيٌّ في كونه قائمًا على اللغة؛ أي: الكلمات والجُمَل، بالإضافة إلى ذلك هناك مبدأ مهم نادى به رولان بارت ألا وهو: “اللغة هي التي تتكلم، وليس المؤلف” وذلك حين ضمَّن هذا التصور في مقالته «موت المؤلف».

سأتجاوز ما قاله البنيويون في فصل النص عن الكاتب، من رولان بارت، وتودوروف، وجيرار جينيت، وبليخانوف وغيرهم لقناعتي والدكتور علي، أنّ فصل النص عن الكاتب هو ترفٌ غير متاح، وهو مَسخُ للنص، عبر سلخه عن خلفيته الاجتماعية والتاريخية التي تؤثّر في الكاتب بشكل او بآخر. ولعل ما قاله رواد البنيوية التكوينية وفي مقدمتهم المجري جورج لوكاتش والفرنسي من أصل روماني لوتسيان غولدمان هو الأكثر ملاءمة لنص يطل على قضايا اجتماعية وسياسية وتاريخية.

في الحقيقة حاولتُ جاهدًا ألا أسقط بعض الشخصيات على الواقع، وكنتُ أحاول أن أهرب من بعض وجوه الحكاية وشخصياتها الورقية، ولكنّ وجهًا ظلّ يطاردني عبر صفحات الرواية، واقترب من أن يشكّل خلفية الصورة والحكاية. فكأنّي في غير محطة، كنت أرى الحاجة سميحة أم بهيج “حارسة وادي الشيخ” بمنديلها الأبيض ووجها المدوّر توزّع ابتساماتها على كائنات الرواية الحبرية، وكنتُ للحظة أكاد أشمّ رائحةَ قهوتها، تنبعث بين الغلافين، وكنتُ أشعر بالدفء يتسلل إلى أصابعي من كانونِها العامر بجمر الشتاء على مدى الحكاية. فرأيتها ما زالت تحملُ همَّ الجميع، وتدعو لمن تعرفه ولا تعرفه، فتشارك الرواةَ الحكيَ والبوح، فتخففُ عن أحدهم، وتحاول أن تجدَ حلًا لمشكلة آخر، وتدافع عن “مرام” وتلوم يوسف، وتخاف على صلاح، وتجدُ مسوّغًا لـ”سهى” وتسأل عن الباقين تطمئنّ عليهم.

ali- guilaf

سيميائية العنوان

يوحي العنوان بالانسحاق والدنوّ، فالوادي هو عبارة عن الأرض الواطئة المحدودة والمنتهية والمحاصرة، ولعله ذلك المنحدر الذي وصلت إليه الأمة. فتتبدّل الأدوار، وبدلًا من أن تكون الغيوم مكانًا للرفعة والعلوّ، نراها تتكوّم على نفسها متلحقة بالوادي، متخليّة عن موطنها الطبيعي في السماء، أو أقله على رؤوس الجبال. وتشكّل هذه الثنائية الضدية الحالةَ النفسية التي سيطرت على الشخصيات، فأفرزت كل تلك التناقضات التي وجدناها تستوطن ثنايا الرواية.

نوستالجيا حزينة

رواية “وادي الغيوم” نوستالجيا حزينة، ومقطوعة فجائعية تدخلُ القارئ في نفق جنائزي مأساويّ يعبّر عن الواقع المأزوم الذي تعيشه الأمة.فتهزّ القارئَ من كتفيه، محاولة إخراجه من هذا الواقع التافه والاستهلاكي والمائع، لتعيد تثبيت قدميه على أرض الواقع الذي يحاول كثيرون الهروب منه، ويفضلون عدم مواجهته، بل التبرؤ من مأساويته في الأصل.

يسيطر على الحكي ثالوثٌ حاكمٌ يتمثّل في الأم المفقودة والمتسعادة في معظم المحطات، والوطن أو الأرض المغتصبة، مرة من المحتل، ومرة أخرى من اللصوص والفاسدين، ومرة ثالثة من العادات والتقاليد الموروثة المتخلفة، فحاول الدكتور علي نسر من خلال ذلك أن يحطّم بعض التابوهات في العلاقات الإنسانية، والاجتماعية، والموروث التاريخي.

نوّع الكاتب في أصوات الرواة، ومنح كلَّ راوٍ مساحةً وازنة للتعبير عن أفكاره ورؤيته في الحياة، وهو الخبير في معرفة لعبة تقنيات السرد. فتنوّعُ الأصوات كان دليلًا على تعدد الرؤى والأفكار، وعدم مصادرة أي رأي أو فكرة على حساب الأخرى، مع منحه مساحة أكبر لـ”يوسف قنديل” كونه الشخصية المحورية في الحكاية.

مثّل الزمان في الرواية زمن الحرب والقضايا الكبرى، وزمن الإخفاق والهزيمة التي تبدّت على يوسف وجلال ووفاء التي استبيحت فوق أرض المخيم، ومن ثمّ زمن التشتت والخوف. ومثّل المكان أرض لبنان التي غطّتها الحرب والدماء والقتل.

أما الشخصيات فتوزّعت على مروحة واسعة من الشباب والشابات الذين يختلفون في الأفكار والعقائد، ولكنّ المحبة بقيت القاسم المشترك بينها.

يوسف قنديل، الشخصية الرئيسة، المثقف والمقاوم السابق، والعلماني الذي خذلته الحرب، وما زال مشهد أشلاء رفاقه وصراخُهُم جاثمًا على صدره. يحاول أن يعوّض عن خساراته وإخفاقاته، وهزيمته الداخلية، من خلال عاملين: الأول، تعدّد علاقاته النسائية، والثاني، إظهار نرجسيته من خلال تكرار الكلام على شدة إعجاب النساء به، وانهزامِهن أمام سطوةِ شخصيته وجاذبيتها وسحرها.

يوسف، هو (القضية)، وهو الأخ الذي تآمر عليه إخوتُه، ورمَوه في الجبّ، وبيعَ بثمنٍ بخس.

يوسف الذي يعيش في الماضي أكثر من إحساسه بالحاضر الذي يحسبه نتيجة لذلك الماضي المظلم والظالم، الذي بقي مشدودًا إليه، ولم يستطع التفلّت من براثنه. الماضي المتمثّل بأخته المقتولة غيلةً على مذبح الشرف، من أهلها وأقاربها والمحيط. أخته “صباح” التي لم يعرفها، تكاد تمثّل القضية الكبرى، والثورة التي أهدر الأشقاءُ دمها، وغسلوا أيديهم منها، وكانوا يسترقون النظر على مشهد اغتصابها من العدو.

يوسف قنديل الذي يكتب في روايته عن “وفاء” الحبيبة التي تنتظر (جلال) المقاتل الفلسطيني الذي اُبعدَ ورفاقَه عبر البحر بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام 1982. جلال المسكون بحادثة اغتصاب أمه في تل الزعتر، يغتصب حبيبته “وفاء” فوق أرض المخيم، بعدما انحرف إلى تجارة المخدرات وتعاطيها في المخيّم، ولعلّ فاء، وأم جلال ثمثّلان الأرض المغتصبة، ويمثّل جلال الجندي المكسور المسحوق .

يوسف الذي دمّر حياةَ حبيبته “مرام” بعدما وعدها بالسعادة والحب، والتي لم يعرف كيف يحافظ عليها، فتركها على قارعة الحياة تنهشها الذئاب. “مرام” القضية والمرأة والثورة والحبّ والمستقبل. في دلالة على قصوره عن الفعل، وتحمّل المسؤلية تجاهها.

وهذا ما تبدى أيضًا في علاقته مع “سهى” زوجته التي تركته ومنعته من رؤية ولديه.

يوسف المتحكّم به عُصاب، أراد أن ينتقم من كل شيء، من العادات الموروثة، ومن التقاليد ومن الأحمال التاريخية، نراه يفرغ غضبه وثورته في العنصر الأكثر ضعفًا في المجتمع، وهو المرأة. فلم نجده يتحدث عن علاقاته النسائية إلا كأعداد تلبي رغبته في تظهير نرجسيته، وإثبات وجوده الذكوري في المجتمع.

مثّل صلاح الأنا الأعلى أو النفس اللوامة في الحكاية الذي كان دائمَ الحضور عند كل مفصل ومحطة. صلاح المقاوم، المحاور الذي لم يفسد اختلاف يوسف معه في العقيدة أو الفكرة ودًا في القضية، فنراه يتحمله ويبحث له عن مسوّغات سلوكه وتصرفاته، حتى أنه أطلق اسم ولده البكر على ابنه تيمنًا بصديقه. صلاح الذي يستشهد في نهاية الحكي، هل يعلن موتُه موتَ الأنا الأعلى او النفس اللوامة، عند يوسف؟ وصلاح هو الذي مثّل الحانب المضيء والمشرق في القضية/الثورة/ المقاومة. وهل أراد الكاتب أن يحرّر يوسف من سلطة الضمير التي يمثلها صلاح، فيتفلّت من كل كابح ومؤثر ورادع؟ وهل أنّ موت صلاح هو موت للقضية أو الثورة؟

رواية جميلة تستحق القراءة والنقاش، هي باكورة اعمال الصديق العزيز الدكتور علي نسر، الذي لم يمنح فرصة التأويل للمتلقي، أو الاستنتاج، حيث عمل جاهدًا ان يقول كلّ شيء، حتى أنه استكثر على القارئ أن يستنتج أنّ صلاح يمثّل النفس اللوامة عند يوسف، فقالها في نهاية الرواية “مخاطبًا صلاح عند استشهاده: “لقد كنت نفسي اللوامة” لعل الدكتور علي خاف ألا يصل ما يريد قولَه إلى الشريحة الأوسع التي يخاطبها، او أراد أن يحاكي المستوياتِ جميعَها، ولم يكتب روايته للنخبة فقط. ظهر ذلك من خلال كثرة الشرح والاستطراد والتوضيح.

ختامًا، مبارك لك صديقي هذا المولود الأول، وبانتظار المزيد من الإبداعات والعناوين. والشكر الجزيل للحضور على حضورهم ووقتهم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ali3

ali 1

اترك رد