بقلم: المونسينيور كميل مبارك
حين دعتنا الكنيسة إلى حمل لواء البشارة بالطرق الجديدة والأساليب التي تتماشى مع ذهنيّة المتلقي في هذا العصر الذي يشعر المرء فيه أنه أمام كلّ شيء جديد في كلّ ساعة تمرّ، تراءى في خيالي الملاك جبرائيل يبشّر مريم العذراء بالحبل الإلهي قائلاً:
السلام عليكِ يا مريم، معتمدًا، وهو ملاك الله والناطق بصوته، أسلوب الناس في إلقاء التحيّة، هذا الأسلوب الذي يضع السلام في مقدمة الكلام، دليلاً على طيب اللقاء، وعلى ما يضمره القلب من حب وصفاء، وما يتضمنه الكلام اللاحق من صفو وهناء يبتعد عن ذهن السامع كل عناء، ويحمل إليه ما يزيل من مشاعره الخوف والقلق، وكأن الكلام عهد وفاء يوقظ العقل منبهاً إياه إلى وعد طال انتظار تحقيقه، وإلى رجاء يحمله منذ كان الإنسان، وفي سلام البشارة وهج لما قيل يوم كان ما كان، وأضاف الله على وعيده وأحكامه، وعينه على وجه مريم الأولى: “من نسلك سوف يأتي المخلص”، وأكمل كلامه لمريم الجديدة: “قوة الله تحلّ عليكِ وها أنتِ تحبلين بابنه ليفتدي بني آدم”.
البشارة هي هي، منكِ سيأتي المخلص يا حواء وأنتِ تلدين ابن الله يا مريم، ولكِ أوكلتُ مهمة إيصال الخبر السار أيتها الكنيسة.
المضمون هو عينه، سوف أخلّص بحبي الإلهي أبناء آدم من الموت المحتّم في الهلاك الأبدي. أما الأساليب التي تحمل هذه البشارة فتُركت لإرادة الناس كي يروا ويحكموا ويتصرّفوا بحسب ما تقتضيه حالات الناس وواقع معرفتهم وإدراكهم وتقبلهم لحدث هو أوسع من المدارك وأعمق من المعرفة، وإذا لم نعد كالأطفال، لا نستطيع قبول هذه الحقيقة الساطعة في بال الله منذ الأزل.
لأجل كل هذا دعت الكنيسة إلى اعتماد طرق جديدة تتلاءم مع الواقع الجديد، بكل ما فيه من دلائل تطوّر وعلامات تخلّف، وما فيه من مخاطر تهدّد مسيرة الناس نحو غايتهم القصوى، وما فيه من أساليب تضليل تحاول أن تزرع الزؤان بين حبّات القمح، أفكاراً هدامة ومغريات مادية وأفخاخًا حسية تعتمد المال والعنف والجنس والإعلام، وتنحرف بالفن نحو الابتذال، وبمبتكرات العقل التي كانت أصلا لخير الناس، نحو الشر ملتحفًا الشوارع ومفترشًا الأزقة، وبالعلم الذي كان غذاء المعرفة، نحو اختلال الطبع والطبيعة، واختراقًا للانتظام العام.
أمام كلّ هذه المخاطر، أدركت الكنيسة أن أصالة القديم، لا بد وأن يُقدّم للناس بحلّة جديدة، وأن أول أمر يجب أن يعيه الإنسان هو حقيقة إنسانيّته التي ما خُلقت إلا لتعود إلى خالقها حيث نبلغ كلنا ملء قامة المسيح، وأنّ الطريق إلى هذا الكمال إنما هو الإيمان بالوعد الأول والبشارة التي تمّت على لسان جبرائيل في ملء الزمن، وفي قلب الإيمان تصديق راسخ أن الفداء لجميع الناس وأن الفرح وعد لكلّ من يطلب الفرح، وبقي على الإنسان أن يسلك الطريق الحق المؤدي إلى الحياة.
هذا ما علينا إيصاله بالطرق الجديدة، بقي أن أقول: “كما على المبشّر أن يعتمد ما هو ضروري للتبشير، كذلك على المتلقي أن يبتكر أساليب جديدة تسمح له حسن الالتقاط مهما تعددت الموجات وتحركت التموجات، وأفضل طريقة قديمة جديدة هي الإصغاء، فإذا ما قال مار بولس كيف يؤمنون إن لم يبشَّروا، أفلا يحق لنا استدراك ونقول: كيف يبشَّرون إن لم يصغوا؟
كلام الصورة
لوحة البشارة بحسب الفن اللاتيني رسمها عام 1712 Paolo_de_Matteis