قراءة في ديوان (كسر في الوزن)
للشاعر حبيب الصايغ
أوسكار وايلد:
إن الجمال شكل للعبقرية ، بل لعله أسمى من العبقرية، لأنه لا يحتاج إلى تفسير….
يطل علينا الشعر من الأعالي بهدوء كنجمة تتناسل في ضوء عتمتها و الشاعر حبيب الصايغ كرائي يبصر في عتمة الكلام انصرف الى إبداعه الصرف , و جعل الضوء يرتدي ثوب الشعر و استطاع أن يعيد بعثه افتراضيا في القصيدة ,بفرض مداخلات تأويلية جديدة ومختلفة عن السائد تفسح للفكرة أن تتبلور بمتسعات تشكيلية من الضوء و العتمة ؛ فبين النجمة والعتمة إيقاعات ضوء تتناسل وتنسل , فبين ثابت التناسل وامتداده في المكان و متحول الانسلال و ذهابه الى أقاصي المعاني , ينهض الشعر بهدوء كسوناتا بكلمات عربية لدى الشاعر حبيب الصايغ الذي يعزف دهشته اللغوية , فيجعلنا مبهورين كأننا نقرأ الشعر لأول مرة ,يتناسل وينسل في كلماته و يمضي يعبر الى الطرف الآخر للأشياء ليتكشف الواجهة المضيئة من العتمة والمرهون برغبة الفكرة وجموحها العالي في ديوانه ( كسر في الوزن ) الذي (احتوى على 40 قصيدة توزعت على ستة أقسام هي “أين يكمن سر البذور”؟ ، و”أجراس الملل” ، و”سماوات خمس” ، و”أمرُّ على اسمك” ، و”قصائد تتقدمها الوشاية” ، و”هذا ولا يتحقق المعنى” قصيدتان. والصادر عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت و الصادر أيضا عن اتحاد كتاب وأدباء الأمارات ضمن الأعمال الكاملة للشاعر حبيب الصايغ ج1)
حضور بليغ للفكرة
قصيدة (النجمة ) نموذجا
فيبدأ ديوانه بالنجمة هذه القصيدة المأهولة بحضور بليغ لفكرة الضوء الذي نكاد نلامسه , ونشعر به كفتح مظفري تناسل كالوعي في الفكرة الأولى ,فيبدأ نسيج الحركة للضوء تدريجيا وفي كل الاتجاهات وفي حين أنّ هذه البداية التي اتسعت، و فتحت نوافذ لتجربة إمكانيات دلالية غير معتادة للضوء في اللغة ,فهو حوله الى كلمات حية تعبر عن فكره ،وهذا ما جعل منه واحدا من أعلام التجديد والحداثة في الشعر الاماراتي المعاصر فيقول في قصيدة “نجمة:”
“تتناسل في ضوء عتمتها
أو تحاول
نجمة العنكبوت
تتناسل مثل السلالة حيناً
وتنسل مثل الشعاع”
والحق فإن الدهشة هنا مصدرها نجمة العنكبوت، بقدر ما هي اتساع لغة الشاعر ليحتوي اتجاهاتها المتعددة و الكثيفة ,و للنجمة حضورها المؤيد في نصين اخرين ايضا.
تشكيل شعري
قصيدة ( الشراع ) نموذجا
الشراع وما يرمز اليه من تجربة في المغامرة و السفر, فهوي وحي بمعان متعددة،تبقى على قيد الفكرة المندرجة بوعي في القصيدة وبحضور الشراع على شكل رمز إيحائي ومثوله، وكأنه يتخذ فجأة هيئة التمرد الذي ينسجم مع نمط ونسق القصيدة ، لبلوغ الانفعال الأكثر أصالة و الذي يسعى اليه الشاعر عبر فكره الخلاق الناتج عن مرجعياته المعرفية والتراثية و خبرته الإبداعية التراكمية وتطويعها في عملية التشكيل الشعري ,فعمل بكل حرية وانسيابية على تكثيف الفكرة واللغة في بناء القصيدة و هذاسمح بإضافة قدرة كبيرة من الاندهاش اليها فيقول في قصيدة “شراع”:
“على ضفاف بحر الوقت مر، بغتة شراعْ
واحتار فيه الناس:
قال الغريب: إنه خيوط عين الشمس
قال المغني: إنه البياض واستدرجه نحو السماء قوس
وقالت المرأة: بل تشكيل موج
هائج في الرأسْ”
النص هنا يشبه الحياة تماما , فهو ليس عالما افتراضيا متخيلا بقدر ما هو خيال واقعي , و الشاعر هنا ليس محايدا و يطلب من المتلقي أن يكون كذلك , وهذا برأيي مغامرة وتجربة فريدة للشاعر حبيب الصايغ؛ فتوقع الغير متوقع و افترض بذكاء شديد تساؤلات على شكل مداخلات، و هذه المداخلات المختارة بعناية هي التي سيتركز عليها المعنى الذي سيتسع في التأويل ويتشكل خارج القصيدة وهذا ما ذهب إليه الصايغ بقصديه تامة و ما يعنيه بتجربته الشعرية ؛ فيقول في احد اللقاءات معه (أعتقد أن هذا الديوان كسر في الوزن يدلل على أنني اشتغل في بناء جديد للقصيدة، بالرغم من أن الكثير من أبناء جيلي من الشعراء قد انسحبوا من ساحته، لكنني متواصل في تأسيس نمط مختلف وجديد أحاول فيه أن أؤكد وجود هذا الجيل كله في حركة الشعر على مختلف الصعد ) فنجد هذه التجربة تطرح أسئلة حول تعريف الشعر وحدوده، و حول مكانة الشاعر ودوره، حول إمكانية القول الشعري الجديد أو استحالته. بحيث يصبح المتلقي كالشاعر أكثر وعيا وجزءا من القصيدة, وليس هذا فحسب بل يعيد تشكيلها مرة بعد مرة و هنا يتجلى مفهوم الابداع الشعري لدى الشاعر حبيب الصايغ و سعيه نحو لغة شعرية متجددة.
واذا تأملنا النص جيدا سنجد أن هناك أكثر من قصيدة ستولد في ذهن المتلقي في ذات اللحظة وكل حسب ثقافته. فلو نظرنا الى القصيدة من المنظور الفن التشكيلي سنجد البحر مدى واسع ما شاء الله تلامس أطرافه التي تذوب في البعيد البعيد حيث الأفق نافذة بين البحر والسماء و في طرف اللوحة سيظهر شراع ابيض تتجه إليه الأنظار المتفرجين على الشاطىء , ويظهر المغني و الغريب و المرأة وجوههم تعبر عن أفكارهم.
وإذا نظرنا الى القصيدة من منظور سينمائي سنجد أن المشهد يتسع كثير ا للبحر المنبسط في مداه كأنه نظرة أبدية يسرح بأمواجه حتى أقاصي الأفق كأنه توئم السماء ثم يظهر شراع ابيض قد ترفرف حوله بعض طيور النوارس يكسر نمط الحياة بظهوره المباغت، فتظهر ملامح الغريب والمغني والمرأة تعبر عن دهشة الحضور الشراع بغته فترصدهم الكلمات وسط ضجيج الحركة على الشاطىء وهم يعبرون عن أفكارهم.
وإذا نظرنا الى القصيدة من الناحية الحكائية سنجد أن الشاعر هو السارد العليم وصف المشهد بكامل أناقته وجعلنا نشعر بالبحر و هو ليس بحرا و حركة الناس بنمطية رتيبة على الشاطىء ولمح الشراع و هو يظهر بغته , وعبر عن أفكار الغريب و المغني و المرأة كأنه يقرأها , وهو ينظر في داخلهم ويتوقع ما سيقولون.
أما من الناحية الموسيقية سنجد أن الشاعر قاد سيمفونية الكلمات وجعل إيقاعاتها تتناسب تماما مع ديناميكية الحركة وانسيابية الأفكار معتمدا على عازفه الأول حرف السين ؛و إذا افترضنا بوجود البحر كبحر سنستمع أيضا الى صوت الأمواج و هي تأتي من البعيد لتنكسر على الشاطىء إضافة الى موسيقى ظهور الشراع المباغت الذي ستصاحبه الرياح و رفرفة أجنحة النوارس هذا بالإضافة الى الموسيقى التي تعبر عن اندهاش الوجوه وهي ترى الشراع بغته وهي تعبر عن أفكارهاأيضا
ومن الجانب الفلسفي سنرى الأتي مجموعة من الناس على شاطىء بحر الوقت الذي هو الحياة هم ليسوا بانتظار غودو (صمويل بيكيت)أ و انتظار الذي يأتي ولا يأتي و لا يتأملون شيئا، حياتهم تسير بنمط واحد متواترة لكن عندما يظهر الشراع فجاءة يكسر الوزن الذي هم عليه و كأنه يعلن التمرد على ماهم فيه, و عبارة احتار فيه الناس تدل على ذلك , لكن لماذا ذكر الشاعر ثلاثة نماذج فقط بينما هو يقول احتار فيه الناس؛والجواب هو الباقون نحن الذين نقرأ القصيدة الآن وما تتجه إليه أفكارنا .
الشاعر قدم لنا نموذجا مرنا يتعدى حدود الشاعرية الى أفق التأويل وهذه هي سمة الشاعر الحقيقي, فبقوة الخيال عبر عن أفكاره في الشعر
لغة تكوينية
قصيدة ( الرقم ) نموذجا
يخبرنا “موندريان”(إن التجريد هوالسبيل الوحيد للاقتراب من الحقيقة والعودةإلى الأصول والبدايات)
وهذا ما يخبرنا به الصايغ في قصيدة (الرقم), فلحظة الخلق الشعري يحكمها الوعي بذات اللحظة التي تمكن الشاعر بلوغ أعل ىدرجات الإيقاع والتناغم؛ الذي به تتناسق روح القصيدة إيقاعا ومن ثم دلاليا او رمزيا وسيميائيا , فهي تتسق وتتناسق مع انبثاق الفكرة في نشوة حضورها الأمثل ؛ وهذه القصيدة تعلن عن لغتها التكوينية , المشبعة بالإحالات الى التأمل والتأويل , فيبدو الرقم أكثر شموخا , متحررا من منطق العدم إلى جوهر اليقين وجوابا لآفاق بعيدة بفيض دلال يمثل معنى مخفيا في فن تجريدي ممتنع من الحقيقة, فهو لم يكن معنياب مايعنيه،بل الكشف عن فكرة ذات ثقل في المعنى ؛يلزم لإحياء هذا العلامةً (الرمز ),إحياءُ مجمل التفاصيل والأحوال التي تحيل إليها تلك النصوص الثمينة عن دالة الرقم و ما تشير إليه و التي تنبئ بحضور العرفان في جسد القصيدة الصوفية ,فيقول في قصيدة الرقم :
علة تدعيه دواعيه
لكنه كأساطيره بالحروق عليل
ومزيج من الصعب والصعب،
طين الحقيقة قبل اشتباك الجذور على
نطفة
فكيف يشيأ وهو جموح يسيل؟
وكيف يهيأ ما بين قوسين،
وهو الدليل الذي ما عليه دليل؟
هل الشعر تدوير للحياة
(قصيدة البذور ) نموذجا
قصيدة البذور تجعلنا نتسأل هل الشعر تدوير للحياة وهل يستطيع أن يضفى عليها وجوداً آخر , الصايغ استطاع ذلك بهالة شعريّة وامضة وغاية في الإشراق , فبكل ما تم شذبة وبجمل قصيرة مختزلة إلى الحد الأقصى ،ذهب الى غاية المعنى إذ بإيجازها البالغ منحت الكتابة في هذا العمل الكثير من الحريّة والانسياب لحيوية الشعر و فعالية الصور في إثبات اليقين ,كما عمل على إعادة تشكيل البدء في التكوين الأول باحثا عن سر البذور و سر الحياة , فهي محاولة على الإجابة عن الأسئلة الوجودية مجسداً ذلك بكتابة إيحائيةأشد حماسة وتساؤلاً وقلقاً , فأين يكمن سر البذور
أين يكمن سر البذور
تظل تدور وتنأى بأنفسها وكأن اليقين
حشاشتها ودم النفس
لكنها تستحيل حرائق
وتغدو مشانق
ويحملها الحاطب العدمي على ظهره
كلما ينحني، يتفتق عن بذرة جذعها
وعن بذرة أختها دمعها
كلما ينحني، ننحني
أين يكمن سرَ البذور؟
سريالية اللحظة
قصيدة (تفاحة الماضي ) نموذجا
ولان أجراس الملل بنقرها المتكرر على نحو رتيب سينتج كوميديا الضجر التي توحي بانتظارات غير مجدية تتكرر خلالها الأشياء حيث لا جديد و العبثية التي تؤسس اللاجدوى وتجعل عناكب الوقت تنسج خريطة الحركة , حيث يبدأ النزف و الإيهام اذ تبدو الوحدة كثيفة رمادية كنسيج العناكب ضيقة على روح الشاعر الذي يجالس أحزانه وينادمها كحسرة عتيقة , لكن روح الشاعر التي تنتمي الى متقابلين هما الفكرة والكلمات , تواقة الى التحرر والانطلاق دائما تبحث عن الابتكار , لذا نجد الشاعر يبدأ المشهد بهذه الكلمات التي تفلت من سريالية اللحظة فيقول في قصيدة (تفاحة الماضي ):
بملاقط وقفازات تتوارى الظلال عن
الظلال، مانحة
العناكب خريطة الحركة وابتداء النزف،
وتوهم النهر بما وراء كواليسه من كوميديا الضجر .
توهمه ولا ترعوي .
تذهب في نحت ما لا يصاب ولا يصبو .
أشياء بهية . عويل محض كصرخة دهر
.. وتذهب في اكتراث لا يهندسه الهواء،
ولا يحيط به فراغ .
مصحوبة بمنية الأنثى، وتقبل
في اختبارات
الطريقة، تستقيم كأنها شجر وتقبل . .
في يديها فكرة الآباد
لكن القصيدة في مقطعها الثاني تأخذ منحنى أخر فكما منح الفنان الهولندي موريتس ايشر العين لوحة جسدت و بشكل مذهل أسلوبه الذي اتبعه وأطلق عليه الانعكاس الكروي , يمنحنا الصايغ بدهشة كاملة عين النحات و هي تحاول أن تجيب أجوبة مغيبةعن أسئلة مواربة، هذه العين التي هي بين عينين عين اشر وانعكاسه الكروي و عين رينيهما غريت في مرآته الزائفة فيقول :
والنحات في تابوته ملقى وفي عينيه
أجوبة
مغيبةوأسئلة مواربة
وفي عينيه دود الأرض مشتبك ويقضم
من طفولته
أيا تفاحة الماضي تعود بك الغواية دائماً .
و لتفاحة الماضي مدلولات إيحائية ذات صلة بالإغواء الأول و بالحياة الإنسانية ومكابداتها ؛ في هذا السفر الطويل يحاول الشاعر ان يقدم براهينه , لكن البراهين تعود الى أعاليها في الجبل و يبقى ظل الشاعر على السفح يقدم الاعتذارات لما تبقى في البومه من طوابع وانطباعات فيقول في قصيدة البراهين :
ويتناولني الغد البردان بمكائد سافرة
وتسافر بي
البراهين تعود إلى جحرها أعلى الجبل،
ويبقى ظلي وحده على سفح خيباته
ليبعثر ما تبقى من ألبوم طفولته من
طوابع وانطباعات .
فيتمرد الشاعر بحضور عرفانه في المطلق على أجراس الملل ضيق العبارة التي ترسمه ويذهب في مضارع الوقت فيقول في قصيدة العابر :
ها أنت و في معيتك قمر أكل الحوت
نصفه ,
واستعملت نصفه الثاني في وصف
الحبيبة وعد الشهور
لم تكن طفلا عاديا وكبرت
ها أنت وتبتعد .
وهنا يقدم الشاعر فكرة العبور ليس كما يجب ان تكون او كما هي أن تكون ممكن القبض عليها ,ولكن ماوراء ذلك ,متجاوز الأسوار العالية التي أطفىء حواسه ليشعلها , و بخفقة من جناحيه كطائر حر يتجاوز غيبوبة الغياب.
الأزرق توئم النقاء
( سماوات خمس) نموذجا
فيذهب الى الأزرق الذي كان اندثاره في خواتم الغيم ,بدأ لحضور الذكريات , حيث الشتاء يهمي بالشعر والشاعر يسوق أيامه أمامه الى أثير السماء حيث لا تحجبها مظلة فنجد فصل (سماوات خمس)، المؤلف من خمسة عناوين: ( السماء التي حجبتها المظلة، هي تبدو سماء فقط، السماء من النافذة، السماء التي في السماء، سماي).
فالسماء هنا مدخل أثيري ينفتح على المغلق؛ وهي شاهد أيضا على شتاء ملبد بالغموض يصلح كخلفية الآن أكثر مما مضى، أو سيمضي,يقرّب إلى الأذهان مشاهد تتدفق باتجاه الحياة ، وهي تمر وتتحرك تحت السماء بانبساط لونها الأزرق الذي هو كالأبيض توئم للنقاء, حيث تنبثق الأفكار عبر مسارات و توترات ضمنية تنهار فيها الخطوط التي تفصل بين الذكريات و الشتاء بين الواقع و الخيال ؛ فهو شتاء المعاني المبلل بالكشف , هنا يكون لدينا فصلان فصل الشتاء و فصل الكلماتحيث الأزاهير والغيوم تفترش القصيدة كالأحلام وما جورها من أماني , و فعل الكتابة يثير دهشة هادئة , وهذه ميزة للصايغ فهو يومئ بعبارته بالغة التّلميح و على الإيحاء أن يستجيب , و إن هذا الأسلوب الإيحائي يبدو متناغماً ومتنامياً مع حياة الشاعر فيقول في قصيدة (السماء التي حجبتها المظلة):
الشتاء كخلفية يصلح الآن أكثر مما مضى
أو سيمضي
الشتاء ببردٍ تقطره جهتان: الشمال واغنية
العابر المتسول في أول الليل يطرق باب
الكنيسة والحي يقظان
لو يحضر الآن بيني وبينك ذاك الشتاء
البعيد
بيني وبينك أو خلفنا
والمظلة واحدة
ونريد عبور البكاء المداهم بين الدكاكين
ناحية البار والشارع المتراكم كالإرث
كنا نهادنه ثم نقنع أنفسنا انه شارعٌ
ونقول له: سوف نعبر لحظة أن تتخلى
الإشارة عن مكرها
هل وقفنا طويلاً؟
وكان الشتاء يرتب أرصفة الشارع العام
التكعيبية في الشعر
قصيدة “البنت تحت الدوش”نموذجا
هذه القصيدة تجاوزت المألوف والسائد فالكلمات هنا لاتوصف حالة شعرية ولكن استخدمها الشاعر كأدوات لرسم الصورة فهي ريشة الفنان بترددها، وتواترها, فانسكاب المكان على المكان سيولد مكانا ثالثا دون أن يلغي المكانين الأولين , وهذا المكان الثالث لا يوصف حيث يتساءل الشاعر كيف الوصف فيقول لا مكان لواصف وهذا يمنح المكان الجديد أبعاد المكانين بالإضافة الى أبعاده الجديدة , هذا إذا أضفنا له انسكاب ألوان المكانيين فسيولد لدينا صورا كانكسار الضوء في مرايا الماء ؛وتداخل زمانيهما سيولد أيضا زمنا جديدا فيقول الصايغ في قصيدة “البنت تحت الدوش”:
“والبنت تحت “الدوش”
ينسكب المكان على المكان”
فكيف توصف ؟
لا مكان لواصف
ماء هي الذكرى
“وفي الحمام تختلط المسافة بالمسامات
السرائر بالعذوبة
حين ينسكب المكان على المكان”
و تذوب تلك البنت في ما يشبه الرؤيا
ويحدس الشاعر :
الى أن يقول :
حين تكون تحت الماء فورة ممكن
أضفى على أسمائه
شكل استحالته
فلا هو ذائب في الماء
ولا هو خارج من مائه
لا اللفظ يأتيني ولا المعنى
ولا أنا مدرك ماذا أقول الآن
البنت تحت الدوش
إمكان ولا إمكان”
وشكل الاستحالة هنا رسخ فكرة الجمال في القصيدة وأكد على ثراء تجربة الشاعر و قدرته على صياغة لوحةت شكيلة أكثر غنى وتماسكاً وتشابكاً، تعبر عن نشوته في التكوين ورغبته بالابتكار, فبأسلوب ملهم يستوعب أفكاره , جعل الصورة مستمرة في التكوين بشكل أو بآخر , لا تنفصل عن علاقاتها وتداخلها مع هرمونيك الانسكاب و ميلودي إيقاعات التداخل الأخرى , حيث (لا مكان لواصف ) تتعانق في شكل ممتد ومتواصل و متداخل في الأبعاد فيتخلخل الزمن ويخضع لجاذبية المكان , كأنه بناء تركيبي تتشكل منه لوحة تكعيبية, وهذه هي ذروة الإبداع , وهذه القصيدة تقدم إمكانية التفكير بشكل مغاير لقراءة الصايغ ونتاجه الشعري، وتأويله،بمقاربات نقدية تتجاوز المألوف و السائد أيضا, فهو لا يقصد البنت تحت الدوش أو هكذا يوهمنا و أنما يقصد الفكرة وتكوينها وحراكها ومعناها أيضاً.
قصائد لا تشي ببداياتها
قصيدة ( كسر في الوزن ) نموذجا
دائما القصيدة لدى الصايغ لا تشي ببداياتها فهو يغرس الفكرة في الفراغ كأنها بذرة . ويتخيلها تنمو تنتشر أغصانها في الاتجاهات , و يقتفي أثرها في تشعب روحه، كأنه يبحث عن مفقودته, فتستضيء الكلمات بهواجسه , كأن القصيدة في مواجهة دائمة تلامس تلك القيم الجوهرية التي تجعل منها على الدوام قيمة مرتعشة وناضحة بأسئلة الكينونة والوجود.
فنسيج قصيدة ( كسر في الوزن ) هو البحث عن اللحظة والظفر بها ، فتدفق الأفكار والحوار مع النفس يصل الى حد المناجاة، هنا الشاعر يذكرنا ببطل رواية صورة الفنان في شبابه لجيمس جويس ,فهو جزء من القصيدة التي يكتبها, وسنجد في غمرة هذا التجاذب الوجداني الرهيف الذي يشمل تقاسيم القصيدة , أن الشاعر ومن خلال صفائه الذهني ووعيه بالثيمة التي يعمل على التعبير عنها جعل من لغته لغة مرئية أخذت مداها الأوسع و الأرحب فوصل بها الى لغة العيون , فنجد أن تداعي الوعي والمنولوج الداخلي يخلق مساحة من الإيقاعات تتوافق مع تشكيل الصور المرئية , فهو قرأ عيون الأنثى في الطرف الأخر وجعلنا نشعر بها , وحاورها و أجاب عن كل تساؤلاتها فكان حواره مع ذاته والذات الأخر, و في الحقيقة أن الصايغ جعلنا نقرأ أفكارنا مستضيئين بكلماته كأنه يقول ( لم يبقَ أمامنا إلا كل شيء ) فيقول في قصيدة ( كسر في الوزن):
وقالت: أجرّك حالاً إلى ليلتي
قلت: بل ليلتي
واختلفنا
ليلتي شغف كالمجون
جامح ومشاغب
كإناث الكواكب
ليلتي الوقت حين تحاصر ويلاته أوله
ليلتي شرفات تجيء فلا تتقدم إلا على
جثتي ,
وتموء كما قطط الاسئلة
ليلتي سأم عتقته السنون
ليلتي مشكله
وليلتها قطعة من لهيب ودورها شاطيء
الذكريات
على قدر أحلامها المذهلة
تجربة الشاعر
تمثل تجربة الشاعر حبيب الصايغ مشروعاً واعياً سعى من خلاله إلى تجديد الشعر العربي. والدافع الأساسي لهذه التجربة هو الشعور بضرورة خلق لغة شعرية و أشكال شعرية جديدة تنأى بالشعر العربي عما اتهم به من تقوقع وتحجر وجمود.
فهو جسد الحداثة بمعناها الأعم و الاشمل وهي حداثة الزمان و المكان وهذا ما ندعو إليه دائما , و هذا أيضا تأسيس لحداثة عربية.
وبرأيي أن علاقة القصيدة تتشكل بالزمن من خلال لحظة الخلق أي اللحظة الشعرية والتي قد تمتد في مطلق حضورها بتوالد الصور فيها على اعتبارها إبداعا لحظيا , فهي ليست شكلا ومضمونا تحتويهما الكلمات تحدث في الزمن، بل هي نفسها زمن أو زمن بديل للزمن الذي ولدت فيه, و بهذا المعنى نستطيع أن نقرأ إبداع الصايغ ليس على اعتباره نتاجا من الماضي لكن وليد لحظته التي يتلقى فيها المتلقي هذا الإبداع بحيويته المطلقة و بحضور روح الشعر التي تسري في القصيدة الذي لا ينتهي بانتهاء القراءة بل يمتد في ذهن المتلقي بالتأويل و الإيحاء , وهذه ميزة مهمة في شعر الصايغ ؛و هويدرك هذه الفكرة العميقة الدلالة تماما و حيوية المنجز الشعري لديه يؤكد ذلك , فهو يقود سفينة الشعر بين دربين من النجوم.