إنّهُ شهرُ تموزَ يَحُلُّ أيّامَ زمانٍ مُرتَفِقًا ، فيما مَناجِلُ الحَصَدَةِ قد أماطَتْ لُثُمَها ، مُنضِيَةً لِلْسَّنابِلِ ركائبَ الطَلَبِ تَقْضِبُ(1) قاماتِها ، فتَتَهالَكُ على سُوْقِها حُزَمًا كساها الدَّهْشُ حُلَّتَهُ رَحْلاً وراحِلة.
* * *
الرجّادُ أبو طعّان، الكُهَيْلُ ، يُرْهِفُ كلَّ عُوَيْمٍ للمهمّةِ غِرارَ عَزْمِهِ ، راصِدًا لها الأُهبَةَ ، فلا نَدْحَةَ في أمالي(2) المِهنةِ ، الّتي إنِ اطَلعْتَ عليها وِفاقًا طِلْعَ مُتَبَصِّرٍ وقَعَ في ظَنَّكَ أنّكَ تَستشعِرُ في مُواضَعاتِ مُوَلِّدي الحِرفَةِ تَخَتُّمًا بالعقيقِ ، وعُرْفَةً تبلُغُ حيث لا يبلُغُ فَنّ.
إنّه لَرَجُلٌ سِوًى ، على جَمامٍ من نفسِهِ رحابةَ صدرٍ ، وشهامَةَ طَبْعٍ ، وثُقوبَ رأيٍ يُصيبُ شواكِلَ السَداد.
يَسبُقُ العَصافيرَ في نِهاضِهِ إلى العمل .
يَعْلِفُ بعيرَهُ ، يحدِجُهُ ، يُورِدُهُ الماءَ ، حتّى إذا وَرِمَتْ خاصِرتاهُ كِفاءً تَوَكَّلَ على الله، فيومُهُ طويلٌ شاقٌّ قَمِينٌ بكلِّ اعتناء .
* * *
الرّكائبُ تستجِرُّ الركائبَ في اليوم الشّامِسِ القائِظِ ، وأحمالُ الحِنطةِ تتكوَّمُ على بيادرِ الخيرِ أكداسًا وأكوامًا تَحُفُّ بها النّوارِجُ ، فهي الأعراسُ “البيدريَّةُ” بلُغةِ أهلِها أُنسًا وبُشرى متى تدبَّرَها (الأساتيذُ) صِبْيَةُ الدّارسينَ بأغانيهم الشَّعبويَّةِ .. هزاراتٌ اغتَدَتْ غَرَادةُ الحناجِرِ في اللّهجةِ واللُّسُنِ تُباري رَشاقةَ الأقلامِ وعذْبَ المشارِب. صَدَحَتْ فأطرَبَتْ ، وجَدَّتْ فأجزلَتْ وأحكَمَتْ ، ويا طيْبَ السَّائغِ اللّذِ في أكنافِ الجنَّةِ وتباهُجِ الحلاوات .
* * *
وعليكَ بالـمُحاجَزَةِ بين قلبِكَ وعينيْكَ ، وشَيْماءُ لاقِطةُ السَّنابِلِ ، يَستفِزُّكَ نَوْرُ بَهارٍ يَتَفتَّقُ على مساحِبِ خدِّها ، كأنَّهُ جَذْوَةُ اللَّهَبِ ، فإن كنتَ تملِكُ النَّقْدَيْنِ(3) رُضْ صِعابَها، وادلِفْ إليها دِلْفَةَ من تيَمَّنَ(4) ، تَسْعَدْ بظعينةٍ خُطَّتْ بالبركارِ سبحانَ الّذي وَهبْ. ما خَطَرَتْ إلاّ وأَفْغَمَ المكانُ ، وذَرَّ النَيْروزُ قَرْنَهُ ، عَنبَريَّةُ النَفَسِ كأنَّكَ فَضَضْتَ لطائِمَ المِسكِ في أردانِها .
أيُّها المارُّ بمضارِبِ شَيْماءَ السّحيقةِ من ثُغورِ حماةَ ، سألتُكَ أنْ سَلِّمْ على قُمريَّةٍ أُشرِبَ قلبي حُبَّها يافِعًا ولا(5)… وكاتِمْها ذاتَ صدري ودُخلتي بأنَّني رغِبْتُ عُمري لو أدرجَتْني لُقاطَةً في حِضنِها .
* * *
ويا مِذَرّةَ أبي لَأُقيمَنَّ عليكِ الحَدّ لو طَوَيْتِ عن تلك اليدِ المِعْطاءَةِ كَشْحا .
ولن أَنسى أنّه كان أجْوَلَ أهلِ البلدةِ على مُتونِ عُرَمِ البُرِّ وأَحْذَقَهُم بِمِكيالِه .
وإنّكَ لَتَجالُّهُ وهو يَخفِضُ جَناحَ الضَّعَةِ ، لتلكَ البلَّوْريَّاتِ تَتقاطَرُ بين يديهِ في العُدُولِ، إقرارًا بِمِنَّةِ مَن أَنْشأَ وبَرَأ.
أبي،
أيّها الـمُبارَكُ لَأَتَفَيَّـأُ ظِلالَ الرَّاحةِ،
وأتحلَّلُ من وَصَبـي إذا اعتَلَلْتُ، في ذِكرِك !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تُقَطِّع 2- مفردها إملاء
3- مهر الأولى والثانية 4- تبرّكَ
5- أي ولا تنسى ، وهو المعروف عند البديعيّين بالإكتفاء .