قراءة في كتاب “حدثني عمري” للدكتور الياس الحاج

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

الياس الحاج:

  روحٌ توارى في مهدِ الأصالةِ سعيًا إلى نورٍ تفتّحَ فوقَ الآلام. يقَظةٌ تفحّصَتْ خلايا مجتمعٍ إنسانيٍّ وشرّحَتْ آفاتِه، فأخرجَتْ منَ الصبرِ والمحبّةِ والبراءة، أنهارَ خيرٍ وينابيعَ عدلٍ وأزاهيرَ فضيلة.

ذاتٌ رقَّتْ فعبرَتْ بينَ ذرّاتِ لُحيظاتِ عمرٍ آنَ اختلاء، وراحت تقرأُ ما في نفسِها بنفسِها لحظةَ امتلاء. غريبةً، هاربةً، عازفةً على أوتارِ قيثارةِ الوجود، للانتصارِ على “خومبابا”، ولِتلاشي “تيفون”، ولانبثاقِ وَقودِ الحكمةِ فوقَ حطبِ وطنٍ مأزومٍ قويِضَ به، وكِيانٍ مرهونٍ سووِمَ عليه.

   قراءةٌ أوّليّةٌ للعنوان “حدّثني عمري”، بصيغةِ فعلِه المضعّفِ العين:حدّث= فعّل، الدالّة على التشديد والتكرار والتكثير في الفعل، ملحقةً بضمير المتكلّم “عمري”، أحالتني إلى أبعادٍ فكريّةٍ لاهوتيّة، فتراءى لي مباشرةً أنّ عُمرَ الياس الحاج سيحدّثُه بنعَمِ اللهِ الكثيرةِ عليه: والتحديثُ بالشيء هو الإخبارُ به. والتحدّثُ بنِعَم اللهِ نوعٌ منَ الشُّكر. وحين ندخلُ في تلافيفِ الكتاب، نجدُ عمرَ الحاج يحدّثُه بلغةٍ أنيقةٍ رشيقةٍ مسبوكةٍ مصقولة، عن معاييرِ الثقافةِ وحدودِ الرغَبات، ويحدّد له سُلَّمَ القيمِ والأولويّات، في الزواجِ والتربيةِ والأولاد، والإيمانِ والأخلاقيّاتِ والماديّات…، وغنيٌّ عنِ البيان أنّ هذه الموضوعات، تشكّلُ بأبعادِها نِعَمًا يمرُّ المتأمّلُ فيها في مراحلَ ثلاث: أوّلًا الاعترافُ بها باطنًا، من ثَمّ التحدُّثُ بها ظاهرًا، وصولًا إلى صرفِها مَرضاةً للجوهرِ الإنسانيّ، النابذِ السقوطَ المقيتَ للبشريّةِ في ذواتِها، الرافضِ الأنانيّةَ والطائفيّةَ، والداعي إلى حبِّ الآخَرِ دينًا وواجبًا وأخلاقًا، بهدفِ إقامةِ المصالحةِ معَ الوجودِ والموت، للتخلّصِ منَ “الأنا” الأنتروبولوجيّةِ المغلَقةِ على دوائِر فراغِ ذاتِها، وللارتقاءِ بها إلى عالمٍ منَ الطمأنينةِ والسكينةِ والغبطة…  

hajj 

      استمسَكَتْ روحُ الحاج بالله فعانقَتْ حضورَه في الشريكةِ والحبيبةِ والأم، أنثى شاهدةٍ على الحبِّ والصدقِ والمساواة في إيقاعِ التزاوج، لتنصهرَ سمفونيّةً من الانسجامِ والتناغمِ والتكاملِ في حتميّة التوالد. يقول الحاج:” خيرُ زادٍ تذخِّرُ به أيّامَكَ، دعاءٌ لكَ من قلبِ أمّ” (ص114)، “سيّدتي المرأة، عندي، إنّكِ أنتِ سيّدةُ الحياةِ وعروسُها” (ص75)، “حبيبتي، ما كانت لتكونَ حياةُ الأرضِ، لو لم تكوني…” (ص146) فالمرأةُ في سِفره ملتحِفةٌ بشمسِ حضورِ الله وحكمتِه تحقيقًا للرجاء المعطى لحوّاءَ المرأة، وتتميمًا للوعدِ بالمجدِ الممنوحِ لمريمَ العذراء، الممتلئةِ نعمةً، التي لو لم تكن ما كانت لتكونَ حياةُ الأرض، ولم يكن ليولدَ بالألمِ فرحُ الخلاصِ المسيحانيّ. جنّةٌ روحيّةٌ لآدمَ الآخَرَ هي، وسيطٌ ينشأ فيه اتحادُ الطبيعتين، ويتجسّدُ فيه اقترانُ الكلمةِ بالجسد… تكريمُها تكريمٌ للكنيسة، وانتصارُها انتصارٌ للخير، أمًّا مربّيةً واعيةً سلطتَها، حبيبةً تؤجّج الجمرَ في كبريائِها ووَقارها، وتوقظُ العمرَ في ثقافتِها وجمالها، وتثيرُ الحبورَ في مريميّتِها ونقائها، فكلُّ ذكاءٍ فيها وَتر وكلّ نُبلٍ فيها شَرر.

     وفي أزمنةِ الغربةِ والقلقِ لجأ الحاج، وجهُه للشمس وصدرُه للمدى، إلى موضوعاتٍ غيرِ مُمَنهجةٍ في عناوينَ مقولبَة، وحَّدتها لغةٌ داخليّةٌ متشرِّبةٌ إيمانًا مسيحيًّا متأصِّلًا في القلب، مستزادةٌ من المعرفةِ العقليّةِ واللّمعةِ الرؤيويّة، أظهرَت لنا أنّنا جميعَنا مصلوبونَ على صخرةِ الوجود، متساوونَ في الموتِ كما نحنُ متساوونَ في الولادة، إلّا أنّنا متمايزونَ في الحياة، في ثنائيّاتِ القضايا الوجوديّةِ والإنسانيّة، في ديمومةِ صراعٍ وأبديِّ خصامٍ معَ الغريزةِ والزمنِ والسلطةِ والموت… وأمامَ ذلك كلِّه، ما نحن إلّا أجسادٌ أوهام، لا أملَ لنا إلّا بالسعيِ إلى النهوضِ ببصيرتِنا من اللّجة، ولا خشبةَ خلاص إلّا بالتصفّي والتجوهرِ والترقّي لانتزاعِ إنسانِنا من التفاهةِ الروحيّة والصدإ الفكريّ والجوعِ العضويّ، إشباعًا للسماءِ في كلٍّ منّا.

     ومن نوازلِ الأيّامِ ونوائبِها أنّ حرّيّةَ الاختيارِ في إرادتنا هي علّةُ شرورِنا، وأنَّ أصلَ الشرِّ كامنٌ فينا، في تحاقدِنا وتظالمِنا وتنازعِنا، في مخاوفِنا ومنافِعنا ورذائلِنا، في اتّباعِنا المغرياتِ الماديّةَ الجذّابة، ونِفاقِنا في الدينِ والعبادة، وانتهازيّتِنا وفسادِنا وبيعِنا الضميرَ في العلمِ والسياسةِ والطبِّ والبيئةِ والإعلام، وجُبنِنا في إعلانِ كلمةِ الحياة، وافتقادِنا الرجالَ الرجال الجديرينَ بالائتمانِ على جواهرِ الأنوثة… يُنبئُنا الحاج أنّ أصلَ الشرِّ كامنٌ في الإجرامِ العبثيّ الذي يستصرخُ دماءَ الضحايا، وفي الخيانةِ الروحيّة التي تدمّرُ الخليّةَ التربويّةَ الأولى- العائلة، وفي المزاعمِ والزعاماتِ الفارغة، وفي الأقلامِ التافهةِ التي عَجَزت عنِ التهامِ خبزِ اللّغةِ والفكر من معاجن ِكبارِ المبدعين، فملأتِ المنابرَ بصعاليكِ القلمِ والكتابة… ما جعلَهُ ثائرًا على الأفّاكينَ المخدوعينَ الفاسدين، زمرةِ آلِ الظلام… وكلّما تقدّم فيه العمر عييَ عن تصوّرِ ذاتٍ لا تقعُ تحتَ حكمةِ تأمّلِ عينيه، وسيلةً للتأمّلِ في ذاتِ الله والتفكّرِ فيه.

     وتدورُ الأرضُ حبّةَ حنطةٍ والكائناتُ عليها غبار، ومِنجلُ كرونوس يلتهمُ  ويستهلكُ ويُهلِكُ ويستنفد… ويبقى كتابُ الياس الحاج صفحةَ ماءٍ هادئة تعكسُ الجبالَ الشامخة وتُظهرُ الأغوارَ الراكدة…

قلمًا محبَّرًا بتراكمِ عظاتِ عمرٍ، مغمورًا بتنوُّعِ أطيابِ وعيٍ، سبيلَ إصلاحٍ ومنارةَ هِداية…

رقصًا عاريًا تحتَ المطر، اغتسالًا وصلاة، بين يدي الياس وشربل ويسوع، فعلَ محبّةٍ واسترخاء، وليمةَ فرحٍ على مائدةِ عمرٍ، “قمحَ خيرٍ على بيادرِ حياة”.

****

(*) ألقيت في الندوة التي نظمتها الحركة الثقافية- أنطلياس حول كتاب “حدثني عمري” للدكتور الياس ديب الحاج في 9 أبريل 2019 وشارك فيها: د. مهى خوري، الأب بديع الحاج، د. هدى نعمة، القاضي الياس عيد. إدارة ميرنا جليلاتي عبده.

اترك رد