بقلم: الأديب مازن عبود
أخرجت من درجها قطعاً صغيرة قيل إنها من بخور مريم من غطاس العام الفائت. وراحت تبخر بيتها. والبركات هي لمثل هذه الأيام الصعبة. وسمعت تقول: ” يا شيطان كش برا. خرّبت الدنيا يا ساقط. نقلع فل من هون”. اعتقد “بو سليم” جارها ونسيبها أن أحدهم يحاول الاعتداء عليها. فأعدّ بندقية “الدك” خاصته. وأتى لمساندتها. فمناصرة الأرملة ضرورة، وبخاصة إذا ما كانت جارة وقريبة. فصرخت به: “ما هذا يا “بو سليم”. إنّ عدوي غير منظور. ولا تفلح معه البنادق”. فأجابها :” لا تقولي لي إنه من “داعس””. فأجابته بأن لا. وطلبت إليه أن يرجع إلى بيته. وأن يصلي كي يحفظه الله المنزل من الشرير”. مشى، وراح يدندن، متحسراً: “إيه العمر له حق. خرفت يا حرام. تفوه عالشيطان. ديعان الستات”.
وبعد كنس مع صلوات. راحت تنضح بمياه الخوري “يوئيل” المقدسة، التي احتفظت بها لسنين، الأبواب والشبابيك والأعمدة وكل ما تدركه. فمن الخوري القديس تخرج مياه مقدسة.
ليلة البارحة شاهدت عرّافة على شاشة تتكلم. فصرخت: “يا لطفطف، يا لطيف، الله يستر!!!”. وهي ما كانت تصدقها أصلا. فشعرت انّ الزمن الحالي تحكمه الشياطين. قالت إنها رأت الشياطين قادمة من منزل “جيجو” الذي استحكمت فيه الأرواح الشريرة، منذ طفولته. وقد سمع في تلك الأنحاء يردد لها مراراً تعويذات على رائحة بخور غريب. فتبلّغه الشياطين أسرار الناس. وقد كشف مرة علاقة “جميلة” المستترة بـ”ابن السمنة”. وابلغ لبيبة ملامح من تجرأ فسرق منها الحلي. كما أحرق سيارة “الفلايموس” لأبي “أوس” المغرم بالأسماء البيزنطية حتى في السيارات التي أحب منها هذا النوع الذي يتلائم وواقع تسمية الكهنة القديسين من أبناء طائفته. لم تسلم حارته من نيران شياطينه الزرقاء التي استقرت فيها. فكانت أن تداعت وترهلت. طلة الشاب المسكون، الذي كان يعرف ما جرى ويجري، كانت مفزعة. وعيناه كانتا من زجاج. كان نبيا كذّابا، يضحك ويبكي لا حزنا ولا فرحا كما تقول الاغينة. ببساطة كان حضوره غير مريح البتة.
تقول بطلتنا “رمزى” إنّ ما يحدث في كل مكان كان بسبب الشياطين التي غصّت بها دارته، التي قررت أنّ تتمدد. فتغزو منازل الجيران. وتحكم المكان. شياطين أعلنت الحرب على كل منزل ما كان لها.
وسقطت منازل كثيرة. وتفرق الناس فرقاً. وكهنتهم اضحوا معسكرات. هوت رموز كبيرة. وتعثر أناس كثر. ما أدمى بطلتنا كان سقوط الرموز. فسقوطهم يكون مدوياً. وقد قيل لها إنّ السقوط هو الموت. ولبست حزنا عليهم معطفها الأسود ذاك المعطف الجزيل الثمن الذي ابتاعته من دكان “كلوديا” في جبيل، والذي حفظته لمثل هذه المناسبات الاستثنائية.
ما توقعت الكهلة أن تبلغ هذه الأيام التي طلبت من الخالق أن يقصرها أو أن يقصر حياتها ببساطة.
سمعت بدمار “معلولا” وبخطف راهباتها. فانتابها الحزن والقلق. حللت الموضوع. وابلغت نساء الحي أنّ المسؤول عن المصيبة كان عمّ القديسة “تقلا” اللئيم والماكر الذي عاد فانتقم من مقامها ولو بعد حين. فهي لم تكن مطلعة كثيراً في أمور الدين. وكانت الأمور تختلط عليها.
سمعها “نجوبي” ابن الجيران تهمس البارحة: “معلولا” بلدة “تقلا” التي يتكلم أهلها الارامية كيف تزول؟؟ تزول. وكهنتنا يتناحرون. ينشرون وأعوانهم الغسيل غير اللائق على السطوح. لا، لا. يا عيب الشوم”. كما سمعتها الحوائط التي لها آذان
صلت كثيراً. تلت مسبحتها مراراً مع صلاة “يسوع” وصلاة “مريم”. فهي امرأة بسيطة لم تدرك من العلوم إلا ما وصلها بالتواتر عن أهلها. رغبت ان تميّز وتدرك.
خافت كثيراً. ونظرت إلى الحائط حيث استقرت أيقوناتها الورقية. تطلعت ملياً في القديسة “تقلا”، ونادتها: “ماذا تنتظرين يا قديسة كي تدافعي عن مقامك وراهباتك؟؟ اتنتظرين من ختيارة مثلي فعل هذه الفعلة؟؟ ببساطة إني لا استطيع. يجب أن اتكلم مع جارنا أبي “سليم” وفتيانه بالموضوع، فما رأيك يا قديسة الله بذلك؟؟”.
ثمّ صرخت من عمق نفسها:” لماذا يا رب كل هذا؟؟ وإلى متى؟؟ كيف تزولين يا معلولا؟؟ وتزول معك كل الأرامية والقصص والمغاور والندوب المشرقية؟؟ أمن تراه يوقد في أديمك البارد قنديلا بعد اليوم؟؟ ويعمّر في سمائك جسراً من تمتمات تربط الساقطين بالسموات؟؟”.
راحت البسيطة تقول كلمات يعجز عقلها الصغير عن استنباطها. فقد أطلقت لقلبها العنان. وقد حملها عاليا. فرأت من فوق كيف ينظر الله إلى المسكونة بعطف وعتب. رأت كيف يدمر الإعصار كل من لم يكن مبنياً على صخرة. شاهدت مشاريع قداسة تسقط وسلماً يهتز. وأناسا تقع إلى حيث لا تدري.
إلا أنها لم تخف لأنها كانت في حضرة الله. ظنت أنّ ماء الخوري “يوئيل” فعل فعله، كما بخور مريم وكل التمنيات. رأت تقلا وكاترينا وبربارة. وجالت مع يوحنا الحبيب في مدينته. أبلغها أشياء وأسرار. عادت ولم ترد أن تبلغ أحدا برحلتها، ولا حتى “سليمة” كاتمة أسرارها الطرشاء. فحتى الطرشاء تتكلم إذا ما بليت بالأخبار. فما حصل بينها وبين ربها يبقى بينها وبينه سراً. إلا أنّ “نجوبي” جارها الصغير سمع تمتماتها وأبلغني بما عاين وسمع. وأنا كتبته لكم كي يبصر من يقرأ ويصغي من يسمع.