“النهار”- 29-3-2019
بحثت عن ميخائيل نعيمة في غير كتاب من كتبه؛ في “مرداد”، في “مذكرات الأرقش”، في “همس الجفون”، في “نجوى الغروب”، في سيرته الذاتية “سبعون”، في كتابه النبوءة ” أبعد من موسكو ومن واشنطن”، وفيه توقع سقوط الاتحاد السوفياتي قبل انهيار هذا الاتحاد بعشرات السنين! ثم بحثت عنه في مؤلفه الأثير عن جبران، الذي أثار يوم صدوره سنة 1934 الكثير من الزوابع.
هذه المرة، نويتُ البحث عن نعيمة بين أشيائه المادية، هو الذي كان يؤمن بالروح، وبقي يرفض عالم الماديات حتى اليوم الأخير من حياته. أعرف أن نعيمة ولد في بسكنتا وفيها ضريحه، وعاش فيها منذ عودته من نيويورك سنة 1932، إلى العام 1969، ثم أمضى السنوات العشرين الأخيرة من حياته في شقة في بلدة الزلقا الساحلية برعاية مي نعيمة، ابنة أخيه نجيب، وهذا توفي في العام 1984. أعرف ذلك كله، وأعرف أن غالبية محبي الكاتب، والمقربين منه يعرفون ذلك كله أيضاَ، لكن ما كنت أجهله ويجهله الكثيرون، أن أشياء الكاتب، ومقتنياته الخاصة التي كانت في الزلقا، قد نقلت إلى شقة في بلدة المطيلب بمنطقة المتن الشمالي، تسكنها ابنة مي نعيمة، واسمها حسب بطاقة الهوية سهى فوزي حداد، لكنها، لشدة حبها لميخائيل نعيمة، وتعلقها به، تؤثر أن تنتمي إلى النعيميين، وأن تُعرف باسم سهى نعيمة، وحين يُؤتى على ذكر ميخائيل نعيمة تقول عنه “جدي مخايل”.
قد تتساءل أيها القارىء الكريم لماذا نقلت أشياء الكاتب وأغراضه من شقه في الزلقا، إلى شقة في المطيلب، وكيف حدث ذلك، ولماذا لم تكلف الحكومة اللبنانية نفسها، فتحافظ على المكان، وتحوله إلى متحف ؟
الجواب أن بيت نعيمة في الزلقا لم يكن ملكه، كان شقة استأجرها بعد نزوله من بسكنتا، وبقي يشغلها إلى يوم وفاته في 28 شباط سنة 1988، ثم بقيت مي، ابنة أخيه، تشغل المكان، وتحافظ على أغراض عمها، إلى يوم رحيلها سنة 2014، من بعدها بقيت سهى في الشقة، إلى أن استردها صاحب العمارة في العام الماضي. بذلت سهى كل الجهد لتشتري الشقة من مالكها جوزف سمعان، فجاءها الجواب أن العمارة ليست مفرزة. اتصلت بعدد من النواب والوزراء، فلم تتلق إلا الوعود الواهية، ولم تقطع الأمل إلا بعد أن أضناها التعب، وباءت مساعيها بالفشل.
لم أتبين ما ذكرت أعلاه إلا حين التقيت بالمصادفة، صديقة مقربة من عائلة نعيمة، اصطحبتني إلى الشقة التي في المطيلب، وعرفتني إلى سهى التي أطلعتني على هذه الأمور. سهى تعلم الفلسفة والإنكليزية في جامعة هايكازيان. تسكن وحدها، وتحافظ على ما ترك نعيمة من صور وكتب ورسوم وعاديات وأثات وأغراض، رتبتها في نظام يبهر الزائر. تمضي حياتها عازبة مثل ميخائيل نعيمة الذي عاش هو الآخر عازباً. لم تستطع أن تخرج من دائرة تأثيره عليها. تعيش على ذكراه، وعلى إرث ما كانت والدتها و”جدها ” يكنان لها من محبة. تسير على خطاه وتقول: “جدي مخايل كان في حياتي نعمة ونقمة”.
****
شعرت وأنا أدخل الشقة كما لو أنني أدلف إلى متحف أو معبد. زحمتني الخيالات وأنا اتنقل بين الغرف. بدأت أتحسس طيف نعيمة في كل ما رأيت. تذكرت ماجاء في “سبعون”، عن الطفل النبيه في المدرسة الروسية في بسكنتا، عن الصبي اليافع النجيب الهابط من سفح صنين إلى مرفأ بيروت، للسفر والدراسة في “دار المعلمين الروسية” في الناصرة، وكان أهل المدينة يطلقون عليها اسم “المدرسة المسكوبية”. عادت إليً رحلته الشاقة إلى روسيا القيصرية، زمن القيصر نقولا الثاني، للدراسة في مدينة بولتافا الأوكرانية، على نفقة الجمعية الأمبراطورية الفلسطينية، وسفره بعدها بسنوات، إلى مدينة سياتل في الولايات المتحدة لدراسة الحقوق في جامعتها الشهيرة، ومن ثم نيويورك، محطته الأخيرة في ملحمة الهجرة، ليبدأ مسيرته الأدبية في مجلة “الفنون”، لناشرها الشاعر نسيب عريضة، رفيقه في الدراسة في الناصرة، وهناك، في مكتب “الفنون” يتعرف الشاب نعيمة إلى جبران، وإلى مجموعة أدباء من سوريا ولبنان، وضعوا في ما بعد، أساس عصبة أدبية، عرفت باسم الرابطة القلمية.
***
أنظر إلى أغراض نعيمة الشخصية، نظارته وأقلامه، الطاولة التي كان يجلس إليها في ساعات الكتابة، إلى حقيبة اليد الجلدية التي حملها معه من نيويورك، والكنبة التي كان يجلس عليها، والتي شهدت آخر نحب من أنحابه، إلى صور وأوراق بخط بيده، ونتف من رسوم وصور عديدة. أسترق النظر إلى الرفوف وقد استراحت عليها مؤلفاته، وكتب مختلفة بالعربية والإنكليزية والروسية. أفتح كتاباً عنوانه، “شارل مالك والقضية الفلسطينية”، بمقدمة من حميد فرنجية، وأقرأ سطر الإهداء ممهوراً بخط اليد:” إلى الصديق الكبير، معلمنا وعميدنا وكبيرنا ميخائيل نعيمة – شارل مالك في 26 تشرين الأول 1973″. أفتح كتاباً آخر لتوفيق يوسف عواد عنوانه “حصاد العمر”، وفيه الإهداء بحبر المؤلف: “إلى أخي الأكبر، معلمي ومعلم الجيل ميخائيل نعيمة – توفيق يوسف عواد- 2 آذار 1984”.
أرى العلبة المعدنية التي كان يحفظ فيها سجائره، وأسأل سهى التي لازمته طفلة وصبية، عن مدى علاقته بالتبغ، فتخبرني أنه بقي يدخن السجائر إلى اليوم الأخير من حياته، وأنه في لحظاته الأخيرة، طلب من أمها مي، أن تحضر له العلبة وقال لها: “يا مي، ولًعي لي سيجارة”، وكان هذا آخر ما ورد على لسانه من كلمات، أرفقها بآخر أنفاس من صدره.
قلت إنها كانت مصادفة أن أعرف ما حل ببيت نعيمة في الزلقا، وكيف ضاع، أو أنه على وشك أن يضيع إلى الأبد، كما ضاع إلى الأبد، بيت جبران في الشارع العاشر غرباً في نيويورك. لكن نعيمة المتصوف، الناسك والمتنسك في الشخروب، لم يكن يحفل بهذه الأمور، وما كان من المؤمنين بالمصادفات، وكان يعتبر كل حدث مقَدراً ومكتوباً. لكن مهما تباينت أفكارنا في معنى الحياة والقدر والمصير، يبقى هناك أمل يحدونا، على قلة ما في حياتنا اللبنانية من آمال، أن تصنع الحكومة اللبنانية قدراً، وتسمح بشراء تلك الشقة في الزلقا، ليعود إليها ما خرج منها من مقتنيات نعيمة الشخصية، وتتحول إلى متحف، قبل أن تجهز عليها معاول الهدم وتمسيها رماداً. ذلك أقل ما يمكن هذه الحكومة أن تفعله، من باب التقدير والتجلًة، تجاه كاتب متفرد، قل نظيره بين أدباء لبنان والشرق.