كان لصدور كتاب سيرة برتراند راسل (1872 ـ 1970) الذاتية عام 1969 في ثلاثة مجلّدات صدى عميق في أوروبا خاصّة في الأوساط الأدبيّة والفكريّة والفلسفيّة، فقد نوّه به كبار النّقّاد والمفكّرين ورجال النّظر الفلسفيّ وأعلام المؤرخين وكبار الكتّاب، ومنهم الكاتب فيليب توينبي الذي أشاد بعقل الرجل وذكائه وصفاء تفكيره وصراحته وانسجامه مع الطّبيعة البشريّة وعدم الشّذوذ عنها .
ولا شكّ في أن سيرة بيرتراند راسل الذّاتيّة تعتبر عملاً فريداً بين سير العظماء في بداية النّصف الأخير من القرن الماضي، وهو الرّجل الذي يعتبر في الصّفّ الأماميّ بين المثقّفين الأوروبيّين، كمفكّر، وفيلسوف، وعالم رياضيّات، وصاحب رؤية تربويّة وثقافيّة و حضاريّة ومجدّد ومجرّب ومميّز في العقلانيّة والنّظريّات الاجتماعيّة والحريّة الجنسيّة والمسكون بدعوة السّلام والحقوق المدنيّة والفرديّة وحريّة الاختيار، وشاهد أمين على الحربين الكونيّتين الأولى والثّانبة .
كانت حياة برتراند راسل أسطورة في عظمتها وتنوّعها وغناها . وكان متمسّكاً بآرائه الشّخصيّة، وما يعتقده بكل قوّة، وقد روى قصّة حياته بكلّ حماس، وسحر أخّاذ وصراحة تامّة تذكّر بصراحة جان جاك روسّو .
تميّزت طفولة برتراد راسل بوحشة مرّة قاسية، ولكنّها كانت غنيّة بالتّجارب، وكانت فترة مراهقته صراعًا بين أفكاره الخاصّة والقضايا العالميّة ومشكلات الجنس البشريّ . وكان لا يكلّ ولا يملّ في نشدان الحبّ، ويلهث وراءه طمعاً في المتعة والنّشوة والسّعادة وهذه كانت سبباً في خمس زيجات .
لقد كانت حياة برتراند راسل طويلة وعريضة، وكان أهمّ ما يشغله فيها ثلاثة شواغل استولت على عقله وتفكيره وحسّه ووجدانه وهي :
ألأوّل : الشّوق إلى الحبّ، والرّغبة فيه، وكان ذا شبق وعبق كما نقول، وكان يسعى إليه بكل جوارحه .
الثّاني : البحث المضني عن المعرفة، وهي التي جعلته من أساطينها في الغرب فضلاً عن الشّرق ومن أشهر رجالاتها في القرن المنصرم .
الثّالث : العطف الكبير والشّفقة على الجنس البشريّ في علاقاته وصراعاته الفرديّة والجماعيّة والدوليّة يقول:
كانت الشّواغل الثّلاثة تلك أعاصير تعصف وتضرب بي ذات اليمين وذات الشّمال في طريق مسيرتي، وقد خضت بحاراً من الهموم كادت أن تؤدّي بي إلى شواطىء اليأس والقنوط، ويضيف :
لقد عشت أولاً أنشد الحبّ بكل جوارحي، لأنّ فية متعة كبيرة، بل نشوة آسرة جعلني مستعدّاً لأن أضحي ببقية عمري من أجل ساعات ضئيلة من اللذة والحبور، لقد لهثت وراء الحبّ جاهدًا لأنّه يبعد عنّي شبح الوحشة المخيفة، والوحدة المرعبة والنّهاية التعيسة التي ترتعد لها فرائص إدراكي، فكأنني أسير على شفير هارٍ، وسأسقط في هاوية باردة مظلمة لا قرار لها . وأنّني بالحبّ الذي عرفته تمثّلت مسبقًا رؤيا سماويّة صغيرة كالتي ينشدها القدّيسون والشّعراء، هذا ما نشدته وأراه ذا فائدة كبيرة في حياة الإنسان وهذا ما وجدته في النّهاية .
قلت لقد واجه برتراند راسل في حياته عواصف وأنواء، وهو يستذكرها بكلّ حيويّة طازجة ذات حرارة كالتّوابل، ووضوح تميّز به في كل كتاباته . وهذا ما جعل تلك السيرة صورة ذاتيّة شديدة التّأتير، وحدثاً من أحداث القرن العشرين، ولا أدلّ على ذالك التميّز والوضوح من قوله في مخاطبة ” إديث “عندما كتب لها شعرًا :
إلى إديث
طولَ عمري قد نَشَدْتُ الحبَّ
يا إديثُ أمنًا وسلامْ،
متعةً كان وشوقاً وجنونًا
لذةً كانَ ولكنْ
لم يباعدْ وحشتي
ولقد كانت همومًا وشجونًا
عصرت قلبي بآلامٍ جسامْ
لكن الآنَ
وقدْ أصبحتُ شيخاً
قبلَ أن يأتيَ موتي
جاءَني حبُّكِ أمناً
وانتشاءً بالوئامْ،
وأنا أعرفُ أني
عِشْتُ قبلاً وحشةً
قاتلةً فإذا بي بعد أنْ
جاءتْ تباشيرُ هواكِ العذبِ
أمناً وسلامْ
قد عرفت العيشَ والحبَّ فإنْ
جاءني الموتُ
أبادرْ راضيًا
باكتفاءٍ من حياتي
واضعاً ذاتيَ ما بين ذراعَيْهِ
رَضِيّاً .. وأنامْ .
سبقت الإشارة إلى أن الشّاغل الثّاني عند راسل هو حبّ المعرفة التي شغلت سقراط من قبله، وكان هذا الشّاغل بنفس قدر شاغل الحبّ إن لم يفقه .
يقول راسل :
لكم رغبت في أن أفهم ما يعتمل في نفس الإنسان، كما أحببت أن أعرف لماذا تشعّ النّجوم، وجرّبت أن أفهم عند فيثاغورس القوّة التي أوقفت الرّقم عن التّأرجح في خضمّ الفيض وجريان التّدفّق، قليل من هذا أنجزت وليس الكثير .
إن الحبّ وحبّ المعرفة بما أمكنني ارتفعا بي إلى السّماء، ولكن الحسرة على الإنسان ردّتني إلى الأرض، إِن أصداء صرخات الأمم هدهدت في أعماق قلبي .. الأطفال في سنوات الحرب والمجاعة يصيحون، إنّهم ضحايا الظّلم البشري .. وكبار السّن يصبحون عبئًا على أبنائهم .. إنّ الوحدة والفقر والألم جميعها تجعل من حياة البشر سخرية .. كم رغبت في تخفيف الشّر فلم أنجح، ولذا عانيت .
هذه هي حياتي، وهي برأيي تستحقّ أن تُعاش، وإذا قُدِّر لي أنْ أعيش، ومُنحت الحياة مرّة أخرى فسأعيشها ثانية بدون تردّد