النهار 2 أبريل 2019
دعا الدكتور شربل داغر، الى لقاء في الصالون العربي في متحف سرسق – الجميزة – بيروت، حول كتابه “الفن العربي الحديث – ظهور اللوحة”، الصادر عن المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2018.
خلال اللقاء طرحَ بول طَبَر (مُحاوِر داغر خلال اللقاء) على الكاتب عدداً من الأسئلة، فجاءت أجوبته بمثابة ملخّص لمضمون الكتاب المؤلّف من ثلاثة أبواب، الأول بعنوان اللوحة: في القصور والدور؛ الباب الثاني: بين الفن والخطاب؛ والباب الثالث: تجلّيات اللوحة.
حول فكرة الكتاب قال داغر: “عملي في الفن العربي الحديث والإسلامي يرقى الى أكثر من ثلاثين سنة، ويمكنني أّن أقول: إنّ فكرة الكتاب رافقتني خلال كلّ تلك السنوات. لقد عشت في باريس مدينة المتاحف، وهناك بدأت أتحقّق أنّ هذا الشيء البسيط (فنّ الرسم) هو في أساسه مدهش.”
ثم صرّح أنّه فوجئ بحقيقة أنّ فان غوخ، الذي تُباع لوحاته اليوم بالملايين، لم يبع في حياته شيئاً منها، وأنّه قدّم إحداها لطبيبه بمثابة أجر أو بدل أتعاب لمعالجته. هذا الواقع شغل داغر وحفّزه للبحث عن الأسباب التي جعلت اللوحة محلّ استثمار… فولجها من الباب العثماني، ساعيًا الى دراسة ظهور اللوحة في دورة الحياة العربيّة التي هي قوام السلطنة العثمانيّة.
ممّا قاله داغر: “حاولت أن أدرس ثقافة الصورة قبل دراسة اللوحة. كيف ظهرت؟ وكيف قبِلَتْها هذه المجتمعات التي مع بداية ظهور الإسلام رفضتها؛ والتي تمّ التعرّض لها كما للنصُب والتماثيل.”
وردًّا على سؤال طَبَر حول ما أضافه داغر من جديد حول هذا الفن، قال: “البحوث والكتب من هذا النوع كثيرة، ولكنّها تنحصر إمّا بدراسة تاريخ الفنّان على أنّه تاريخ الفن، أو دراسة أوّل ظهور للوحة زيتيّة عند فنّان، أو من خلال جدَل فقهي أو ديني ينطلقون منه لدراسة الفن (مثل الإيقونة عند الأورثوذكس). بينما كانت البوّابة العثمانيّة منسيّة في تاريخ دراسة فنّ التصوير، مع أنّها تشكّل الطريق لدراسة اللوحة، وذلك من خلال المائدة والزي وكل تفاصيل الحياة… التي كانت واحدة في كل الدول التي خضعت خمسمائة سنة لسلطة العثمانيّين.”
أضاف قائلاً: “إنّ الكتاب تناول أيضاً المجتمع المغربي، ومع أنّ المغرب وسلطنة عمان كانتا خارج الحكم العثماني، إلا أنّني وجدت تقارباً بينهما وبين تجاربنا في العالم العثماني (أو الدول الخاضعة لسلطة العثمانيّين)”.
لا وجود لنص في القرآن ينهي عن التصوير
في سؤال له اعتبر طَبَر أنّ عالم التماثل الفنّي- الفكري – النصّي هو متشابه مع السلطات القائمة، وخاضع لها، وأن جزءاً من تأسيس السلطة الإسلاميّة هو التميّز عما كان قبلها، مثل تحريم الصورة (اللوحة)، فهل يكون ذلك علامة لوجود السلطة؟
أجاب داغر موضحاً: “شكّلت اللوحة علامة صراع حضاري وثقافي عبر عصور عديدة، ولم تصبح عامل استثمار قبل الربع الأخير من القرن التاسع عشر. قبل ذلك لم يكن لها أيّة قيمة، كما هو حال لوحة فان غوخ.”
أضاف أنّ التجربة الإسلاميّة نهت عن العمل الفنّي، بل حرّمته؛ ولكنّه أكّدً أنّ هذا الأمر لم يكن له وجود قبل الفترة الأمويّة، إذ ظهر في فترة محاولة الخلفاء إسقاط القسطنطينيّة. ما يعني برأيه أنّ الصراع يتعدى مسألة الإيقونة (الصورة)، وأنّه صراع قوى، وقد نتج عن هذا الصراع سريان الاعتقاد لدى المسلمين أنّ التصوير محرّم ومكروه. فدخل هذا الأمر في ثقافة الناس الذين كانوا يرفضون الصور، حتى أنّ بعض الرحّالة ذكروا أنّهم شهدوا تعرّض مصوّرين للرشق بالحجارة من قِبل الناس الرافضين لهم. أضاف قائلاً: “لا وجود لنَصّ في القرآن ينهي عن التصوير، الأمر يتعلّق في محاربة الوثنية فقط.”
استطرد داغر قائلا: “إنّ الذي شرّع اللوحة هو الصورة الفوتوغرافية التي ظهرت في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي كان للأرمن دور مهمّ فيها. بعدها أصبحت الصورة حاجة لازمة، فمع أنّ بعض بلدان الخليج رفض إدخال الصورة الى جوازات سفر السيّدات، إلا أنّ الأمر لم يدم طويلا، وبات ظهور الصورة أمراَ ضروريًّا فرضته الدول المستعمِرة، من باب أنّ “الضرورات تبيح المحظورات”.
الصورة أداة حوكمة وضروريّة لتمديد سلطة الدولة
وهنا اعتبر بول طَبَر أن الصورة مهّدت الطريق لشيوع ثقافة اللوحة التي لم يكن بإمكانها الشيوع قبل ظهور فنّ التصوير، وأنّها بدخولها الى كل شيء باتت أداة حوكمة وضروريّة لتمديد سلطة الدولة، فكانت البنية التحتيّة لظهور أوسع للّوحة والفنّ.
فأيّد داغر هذا القول، ثم توقّف عند ظهور الإيقونة ودخول الصور الى شرقنا عبر الإرساليات والمجموعات الرهبانيّة. ولكنّه اعتبر أن الصورة بالمعنى الديني، لدى المسيحيّين، لم تُكَوَّن قبل القرنين الثالث والرابع، بالرغم من أنّ التقليد ينسب الأمر الى أحد تلاميذ يسوع.
ثم توقّف طَبَر عند الباب الثاني من الكتاب، والذي يتناول علاقة الفن باللغة.
في هذا الباب عاد داغر الى القرن السادس عشر، في دراسة لعدد من الألفاظ، وكيفيّة تغيُّر مفهوم الناس لها مع الزمن، معطياً مثالاً فعل “زخرفَ”، وكلمة “أنتيكا” Antique المقصود بها العراقة، والتي بات الناس يستخدمونها للدلالة على ما لا قيمة له أو ركيك. وأشار الى أنّ ما يحدث في اللغة يحدث في المجتمع، فتتساقط قيم وتُستبدل قيم أخرى بغيرها. ففي حين أنّ “الزخرفة” لدى ابن سينا مثلا هي كلمة عالية الدلالة، أصبحت في عصرنا كلمة مبتذلة ولا مكانة لها، إذ باتت تعني ما هو بالٍ ولا قيمة له. ما يشير الى وجود تبخيس للقيم في الاعتقاد والأفكار… وهذا الأمر يَظهر بقوّة من خلال الألفاظ التي يتداولها الناس. في حين أنّنا إذا ما عدنا الى المعاجم، كمعجم الصناعات الدمشقيّة، نجد فيه كنوزاً هائلة تفسّر كيف كانت تتغيّر دمشق من خلال تغيّر المهن، واللغة تسجّل ذلك.
هوّة زمنية ما بين مدارس أوروبا وأساليبها ومدارسنا
أشار طَبَر في سؤاله حول الباب الثالث في الكتاب، الى وجود هوّة زمنيّة ما بين مدارس أوروبا وأساليبها في الرسم وبين ما لدينا.
فأكّد داغر في ردّه أن الهوة لا تزال موجودة، موضحاً أن الخليج العربي مثلا تأخّر في قبول الصورة. وربط أسباب هذا التأخر بالاستعمار الانكليزي الذي لا يهمّه أن تقلّده البلاد التي يستعمرها وتواكبه حضاريًّا – كما هو الحال لدى الفرنسيّين – وإنما تهمه الموارد الاقتصاديّة التي تأتيه من هذه البلدان.
وانطلاقاً من مقولة أنّ الفن هو الجسر للدخول الى منطقة ما، وفقاً لطرح بول طَبَر، الذي اعتبر أن الاستهلاك الخليجي للصور له مغزى، وهو دليل على القدرات الماديّة في الخليج العربي؛ أكّد داغر أنّ أكبر ثروة للفنّ العربي والعالمي موجودة في دبي وأبو ظبي والدوحة والمنامة… وأشار الى أنّ السرّ الذي يكمن وراء هذا الأمر هو الرغبة في توظيف الأموال الطائلة المودَعة في البنوك، كما سيوضح لاحقاً.
ثم توقّف داغر عند موضوع سفر جبران ويوسف الحويك الى فرنسا للدراسة، مشيراً الى أنّه خصّص لجبران فصلاً كاملاً في الكتاب. أضاف أنّ أوروبا، في تلك الفترة، كانت قد بدأت تعترف جدّيًّا بالانطباعيّة، حيث أنَ الأمريكيّين اشتروا مئات اللوحات الانطباعيّة ووضعوها في متاحفهم، وذلك بفضل نصائح قدّمها كبار رجال المصارف لرجال الأعمال بغية توظيف الفائض المالي.
أمّا عن الهوّة الفنيّة ما بين عالمنا والعالم الغربي، فقد أعطى داغر مثالاً عليها ما جرى مع فائق حسن وصليبا الدويهي، اللذين حصلا على منحة لمتابعة تخصّصهما في فرنسا، فأدركا أنّ ثمة فنّ آخر غير الذي ذهبا لتعلّمه، يفوق حدود المطلوب منهما، وأنّ الهوة استمرّت بين ما تعلّماه وما مارساه من رسومات بعد عودتهما.
ثم أضاف: “إنّ الهوة اختلفت اليوم. كان جيل الاستقلال يحلم ببناء مدارس وطنيّة للتصوير والنحت، ولكنّ الحلم تراجع أو سقط، إذ بات طموح الفنّانين اليوم الهجرة، والتفاعل المختلف عن السياق السابق”.
طغيان الجسد العاري في رسومات جبران
وردًّا على استفسار بول طَبَر عن طغيان الجسد العاري في رسومات جبران، وميله للرسم الميتافيزيقي، أجاب داغر قائلاً: “المفارقة مع جبران أنّ حلمه كان أن يصبح رسّاماً وليس أديباً. كان هذا همّه وطموحه، وقد ظهر لديه منذ طفولته حين كان يرسم بالفحم على الجدران. حتى حين ذهب الى أمريكا، بدأ حياته فيها بالرسم. إلّا أنّ شهرته قامت في الأدب وليس في التصوير.”
تابع داغر: “ومع أنّ جبران تعلّم في فرنسا تصوير الموديل الحي بعريه الذي هو أساس التصوير، إلّا أنّه كان لديه ميل ديني. وقد حافظ على هذا المنظور الديني، فالله بالنسبة له هو ابن الإنسان، لذا فقد قدّم وجهات نظر جديدة حول القيم. هو يرسم الناس عراة بالمعنى التكويني، وذلك لوجود تصوّر لديه.” استطرد قائلاً: “نلاحظ في كلّ كتب جبران العربيّة والانكليزيّة انعدام وجود أيّ أثر لسيّارة أو مصنع أو جادّة أو شارع أو بناية عملاقة، بالرغم من أنّه كان يعيش في قلب مدينة صناعيّة. هنا تكمن قوّة جبران، الذي أنشأ رؤية تخصّه مُبعداً نفسه عن الزمن.”
جبران هو نَفَسُ الحداثة الأول في العالم العربي
سأل طَبَر: هل ظهرت مدارس في الرسم، في العالم العربي ولبنان، تتبع أساليب جبران بنقل الهَمّ الداخلي؟
داغر: “لا أثر كبيراً لجبران في التصوير اللبناني أو العربي. ثمّة أسماء عربيّة لامعة كثيرة لها تأثيرات في هذا المنحى، أمّا جبران فتأثيره كان في الأدب، فهو نَفَسُ الحداثة الأوّل في العالم العربي.”
ثم أشار الى أنّ الفنّ العربي الحديث حاضر مع أنّه لم يؤثر في غيره. وأنّ الفن الحديث اتّجه اتجاهات مختلفة عما سبقه؛ فالفنّان الانطباعي كان ينتظر مرور الريح على سنابل القمح ليرى تأثيرها، أو انعكاس الضوء على إبريق ماء ليصوّر الزمن العابر…
ثقافة الصورة: العرب يبحثون عن بناء معنى للّوحة
طرح طَبَر فكرة الحقل الفنّي قائلاً: الحقل الفنّي له منطق خاصّ وصراعات خاصّة بالرأسمال الفنّي، هل تعتقد أنّه لدينا في عالمنا العربي حقل له هذه الصفات؟
اعترض داغر على هذه التسمية، قال: “أنا لا أستخدم مفهوم “الحقل” في لغتي، بل أسمّيها ثقافة الصورة، وهو مفهوم أوسع. نحن نظن أنّ أهل الخليج والمتموّلين العرب هم المحرّك الأساسي للسوق في العالم العربي، ولكن الصحيح هو أنّ الفضل يعود لدخول الرأسمال العالمي ونفاذه في هذه المجتمعات. فثمّة جهات عديدة تخطّط كيف يمكنها أن تستجلب فائض المال المودَع في المصارف، هذا يعني أنّهم ليسوا مغرومين بالفنّ وإنّما باستثماره. قوّة أوروبا في بناء اللوحة هي قوّة بناء معناها، وتوثيقها: تاريخ فنّها، بناء جامعات تختص بالفن وتدرّسه… هذه هي العمارة وهذا ما يتكلم عنه بيار بوردي Pierre Bourdie. باعتقادي، العرب يبحثون عن بناء معنى للّوحة.
في الختام أجاب داغر على مداخلات عدد من الحاضرين؛ ثم توجّه الجميع الى المقهى في الباحة الأماميّة للمتحف للحصول على الكتاب وتوقيع الكاتب.