داخل النص الشعري وخارجه

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

النص الشعري هو متن الكلام الذي يعبر به الشاعر عن موقف أو فكرة أو خبرة أو حادثة ، وهو عروس يقدمه الشاعر الذي أنجبه وأبدعه وزينه للقارئ المتلقي أو المستمع المستقبل لهذا النص ، وحينما يقترن القاريء بالنص مثل اقتران الزوج بزوجته عقليا وفكريا وروحيا ، يصبح النص من الحاجات الأساسية للمتلقي.

وقد تكون الزوجة جميلة لكنها لا تحمل أفكارا ، وقد تكون صاحبة أفكار ولكنها تخفي جمالها ، أو حظها من الجمال لا يتناسب مع أفكارها المتعددة ، فكثرة الطموحات لا تتحقق بتواضع القدرات ، حتى النسور تحتاج إلى تدريبات مريرة لتتمكن من التحليق على ارتفاعات لا يستطيع غيرها أن يصل إليها .

هذا يعني أن الشاعر الحق قد خلقه الله بقدرات خاصة تفوق غيره من عامة الناس ، هذه القدرات تعني تفضيله في الشعر ، وهذه القدرات أعني بها الموهبة التي خلقه الله بها ، أما التدريب وكثرة الإطلاع ، ومحاولات الفهم المبتكر والمتجدد فهذه مكاسب شخصية يحرص عليها الشاعر الحقيقي ليطور من مفاهيمه العقلية والنفسية والفكرية .

وحينما يدلف الكاتب بين المفردات ليختار ما يعبر عن تجربته فهو يدخل في غار المفردات ليتفهمها من جديد ، ويختبر قدراته وقدراتها على الإتيان بما ليس مكرورا ، ولذا فهو يحاول أن يحملها بدلالات جديدة ، سواء كانت من أصول اللغة أو من العلوم الأخرى ( قديمة أو حديثة ) ، فيذهب إلى مفردات العلوم الأخرى ، ليجعل الشعر مزيدا من المعرفة ومزيدا من الإبهار ، يقول نزار قباني _ رحمه الله تعالى رحمة واسعة _ :

لا سلطة في الحب تعلو سلطتي

فالرأي رأيي والقرار قراري

وأنا أُرتِّبُ دولتي .. وخرائطي

وأنا الذي أختارُ لونَ بحاري

كلمات من علوم السياسة بنسبة كبيرة ، ويطبقها على المشاعر الإنسانية في القصيدة.

وأنا أُقرِّرُ مَنْ سيدخُلُ جنَّتي

وأنا أُقرِّرُ منْ سيدخُلُ ناري

كلمات من علوم الدين حيث يتحدث عن دخول الجنة ودخول النار.

ويمكن ملاحظة ذكاء الشاعر في اختياره للسلطات المناسبة لقوة الحب الذي تجتاحه ، فقد اختار السلطة العليا على جميع الكون وهي السلطة الدينية العقدية عند الناس جميعا ، واختار سلطة السياسة العالمية وهي سلطة نظام الحكم باعتبارها البناء الفوقي للمجتمع ، والذي يتحكم في سلوك الشعوب .

يقول عبد العزيز جويدة:

يا نوحُ قد كانتْ لديكَ حبيبةٌ وتُحبُّها

مثلي أنا

ولأجلها

ربُّ العبادِ

قد كانَ استجابَ لكَ الدعاءْ

أدخل الشاعر هنا قصص الأنبياء في نصه الشعري وقصص الرسل والأنبياء يوحي للمتلقي بالتصديق ، فهو يمزج صدق أخبار الرسل بصدق حبه لمحبوبته ، فهنا سلطة دينية كذلك في النص ، ولكنها تختلف في مفهومها عن السلطة الدينية في نص نزار قباني السابق ، حيث استخدم نزار قباني السلطة الدينية لإثبات القوة والقدرة على الحب ، بينما يستخدم عبد العزيز جويدة السلطة الدينية للوثوق والتصديق ، كما يستخدم عبد العزيز جويدة العلوم في شعره حيث يقول في ذات القصيدة :

إن انحصارَ الشوقِ شقَّقَ أضلُعي

مَن قالَ للينبوعِ زُمّ

هنا يستخدم الشاعر العلوم الزراعية وعلوم التربة في نصه الشعري ، بغرض أن يبين للمتلقي معاناته في حبه كمعاناة الأرض من العطش ، وأن هناك من صدقت حينما قالت للماء ( زُمْ ) ، وهناك من أتعبت من يحبها حينما قالت للماء ( زُمْ ) .

ويقول عبد العزيز جويدة في نص بعنوان ( العشق بلد من بلاد الله ):

أنا ذائِبٌ فيكِ..

لآخِرِ قَطْرَةٍ

مُتَوَحِّدٌ فيكِ أنا

حتى تُفارِقَنا الحَياةْ

مِثْلَ الرَّحيقِ بِزَهْرَةٍ

مِثلَ الشَّذا ..

إنْ ذَابَ في الكَوْنِ

وتاهْ

قد صارَ صعبًا تَفْصِلِينَ عَناصِري

مُتَكَوِّنٌ مِنكِ ..

أنا

أنتِ العَناصِرُ كُلُّها

وأنا المِياهْ

فالشاعر يستخدم علوم النبات في نصه الشعري مثل ( التقطير ، الرحيق في الزهرة ، الشذا يذوب في الكون ، العناصر المذابة في الماء ) ، وما يميز الشاعر في استخدامه للعلوم هنا أنه يجعل هذه العلوم سهلة التلقي في النسق المعرفي حتى لا تؤثر على النسق الجمالي في النص الشعري ، وهنا تظهر قدرة الشاعر على أخذ ما ليس شعريا ووضعه في النسق الشعري الخالص .

وليس استقدام العلوم الدينية والعلمية أمرا جديدا في شعرنا العربي ، ولا هو بدعة يختص بها شاعر دون شاعر ، فقد استخدم قيس بن الملوح ( مجنون ليلى ) السلطة الدينية في إثبات حبه لمحبوبته حينما قال:

أراني إذا صليت يممت ُ نحوها

بوجهي و إن كان المصلى ورائيا

و ما بيَ إشراكٌ و لكن حبنا

عظيم الجوى أعيا الطبيب المداويا

فقيس هنا يقول إن سلطة حبه لليلى أقوى على نفسه من سلطة الدين ، فهو يتذكرها ويتعلق بها أكثر من تعلقه بغيرها ، ولم يقل أحد عنه انه كفر ، بل قالوا عنه أنه صادق في حبه .

وقد يكون الشاعر عظيما وكبيرا وحينما يستقدم ما خارج الشعري لا يحسن استخدامه كما أحسن استقدام غيره سابقا ، ويتضح هذا في قول العظيم المتنبي حينما قال مستخدما ألفاظ التجارة:

لا تشتر العبد إلا والعصا معه

إن العبيد لأنجاس مناكيد

ورغم أن الموضع موضع ذم إلا أنه أفشى عن طبع غليظ في نفس الشاعر ، الذي يدعو دوما للإنسانية وعلو الهمة ، فمن قرأ البيت السابق لا يصدق أن قائله هو من قال:

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير

كطعم الموت في أمر عظيم

هذه تقدمة أظنها جيدة ومناسبة للموضوع الذي أصر على تناوله بشكل مفصل، حيث إن هذا الموضوع غير مسبوق في التناول في أدبنا العربي على وجه التحديد .

اترك رد