“يوم الرئيس غالب غانم” في المهرجان اللبناني للكتاب 2019 دورة المعلم بطرس البستاني

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

احتفل المهرجان اللبناني للكتاب 2019 دورة المعلم بطرس البستاني (2- 17 مارس)،  بـ “يوم الرئيس غالب غانم”  (6 مارس 2019)  ضمن أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي.   قدم الحفل النقيب رشيد درباس   وأداره المحامي هيكل درغام. في ما يلي نص الكلمات التي ألقيت في المناسبة.

المحامي هيكل درغام

” ايمانا منا بان الثقافة ليست مجموعة نشاطات نقوم بها بل هي طريقة حياة لا لنخبة في مجتمع بل للمجتمع ككل . للمجتمع الذي يسعى مفتشا عن معنى وعن تعبير لهذا المعنى لان العلم روح الامة  وحياتها ولان تفوق الانسان يقوم على المعرفة .”

انه نشاط ثقافي آخر من الانشطة الثقافية التي دأبت الحركة الثقافية انطلياس على احيائها  منذ أربع وثلاثين سنة تكرم فيها وجوها ثقافية من وطننا  اعلاء لشأن  القيم الثقافية والانسانية ، وازكاء لها في مواجهة تحدي الجهل ، ولتبقى الثقافة  مشعة في ربوعنا ، واسهاما في اعادة بناء انساننا  ، ولقيام دولتنا المدنية العادلة والقادرة  التي لا تتعدد فيها الولاءات . فدينامية الحياة الثقافية تولد الروح الخلاقة  وتنمي موهبة الحوار والانفتاح والتواصل .

من تقاليدنا الراسخة الحرص الدائم على ان يكون بين اعلام الثقافة احد علماء القانون .

بتكريم الرئيس غالب غانم نضيف على صفحات سجلاتنا الذهبية – موسوعة اعلام الثقافة – اسم واحد من القضاة  القدوة والمثال . مثقف  مقتدر ،ملهم  بوحي ربه وبصواب عقله ، وبراءة روحه والضمير . خصه الله بنعم كثيرة منها ان يبقى القاضي انسانا عاديا رغم تعدد مسؤولياته غير العادية التي تندرج في المهمات والمشقات وصولا الى اخطرها ، وان يتحصن بقيم ومزايا تجعل منه قاضيا نظيف الكف  ،  عفيف اللسان نقي الضمير، هادىء الطباع ، يتمتع بثقافة الابداع وبعلم القانون . مثابر شجاع . محايد متجرد . متواضع حر.  يحمل بيد سيف الحق ،  وبيد اخرى يراع الأدب .

يقول :

” اذا اعترى القاضي شعور بالضعف تجاه القوي مات في نفسه نصف العدالة ، ويموت نصفها الآخر اذا غطى ضعفه هذا بالاستقواء على الضعيف”.

غالب غانم . القلب ، والعقل ، والروح . يشخص ، يقرر ، يعمل بعزم وصدق وتفانٍ . يهز النص ويقول له انت جامد وانا حي .انا انسان يقضي بين الناس ولست آلة مبرمجة . وبهذا المعنى يقول بولس الرسول ” الحرف يميت اما الروح فيحي “.

انه واحد من  صفوة تؤمن بالكلمة ، وبالحق ، وبالحرية ، وبالفكرالخلاق .  توقظ العقل ، والضمير  لان في احياء هذه القيم  احياء للبنان .

هذا اللبنان يجب ان يكون طموحه تحقيق الانسان الكلي فيه بابعاده كافة .

ألهب الكثير من عقول الذين عرفوه او تعرفوا عليه او الذين شاهدوا  الانجازات والابداعات التي تحققت على يده .

ليس المهم ان تعرف غالب غانم ، بل ان تدرك ما يعرفه غالب غانم وما نفذ إليه من خلال رؤيته الشاملة في المسار القضائي  والثقافي . تقاعد بكبر  وبقي السيد المثال في التفاني ونظافة الكف . آمن بالقضاء المهنة الاكثر انتقائية بين المهن – الرسالة . سلك الدرب ايام كانت المنصة تتسع لكل الكبارالشرفاء، والاصفياء .

آمن بان القضاء هو واجهة المجتمع ومعيار رقي الامم وان قيمة الدولة تنبع من قيمة قضاتها

عمل وكتب والف واجتهد  في كل مجالات العدالة والمعرفة  .  اصبح نقطة المحاور القضائية  والثقافية في لبنان . فكره محيط معرفة  ثقافته راقية . لغته اتقنها وسيلة خلق المفردات ، وتوالد العبارات ،  واستنباط المعاني .

للحديث عنه أنتحدث عن المحامي ام عن القاضي ام عن الدكتور في الحقوق ام  عن الاستاذ الجامعي ام عن الباحث ام عن الاديب والناقد  ام عن الؤلف ؟

له العديد من الؤلفات في شتى ميادين المعرفة  كل هذه  الاعمال والسيرة الذاتية منشورة في كراس اعلام الثقاقة المعد خصيصا لهذه المناسبة .

لقد كسب جولات تبوئه المراكز المهام في سلك القضاء واصبح مثالا في عطائه وتحمل المسؤوليات الجسام ليصبح رمزا كبعض من سبقه في هذا السلك من الرجالات العظام . تميز حضوره في قلب العدل والمساواة بين المتداعين  واصحاب الحقوق التواقين الى الانصاف ، وترسيخ مبدأ سلطة القانون بالحق نتيجة سعة علمه ، واخلاقه وترفعه  . حاذر طوال حياته الانزلاق الى الدونية المتفشية في بعض المحاور السياسية ، والتبعية ،  والانغلاق الاعمى  السائد في الزمن المأزوم .

بقي كبيرا في مربع منصة الكبار حسبي انه مدرك عظمة القضاء في لبنان . هذا اللبنان الفريد في تنوعه التكويني  وتراثه الحداثي  وحركته المجتمعية والثقافية  يمكنه ان يكون مصنعا للقضاة الرجال الرمز على مستوى المشرق .

يقول :

” في غمرة هذه المسؤوليات  رسمت لنفسي خطا لم احد عنه قيد انملة  . كنت قاضيا لكل الناس قاضيا حرا مستقلا حريتي هي حق لي واستقلالي حق لغيري ”

لم تصرفه المسؤوليات وما توجب عليها من التزام تام بأداء الواجب عن ايفاء الريشة الادبية بعض حقها وهو الآن يوليها مزيدا من الاهتمام تعويضا عما فات

الرئيس المكرم رجل ثقافة وعلم . الثقافة عنده تجلت بشموليتها وبغزارة التأليف  اذ ترى في كل قرار اوحكم سطّره وفي كل مداخلة اومحاضرة او درس ألقاه اطروحة ادبية علمية قانونية اين منها كثير من المؤلفات .

الرئيس المكرم ربيب الثقافة هو من الدوحة الغانمية آمن بها فعل مشاركة في توزيع العدل والمعرفة واداة تثاقف واصلاح .  يقول : ” كان الواحد منا ينمو على حليب الام وعلى محبرة الاب وكان العلم قبلتنا .

وقبل ان اختم اود ان استشهد باحد اركان هذه الدوحة الغانمية الاستاذ رفيق غانم  الذي يقول فيه :

” انت قاض  ترتدي الحلة الموشاة وصدرة القضاة المرصّعة بالقيم . لك وجه واحد في القضاء وفي الحياة .  انت قاضٍ على القوس بكل بساطة وكل مهابة وانت قاض على قوس الحياة اليومية بكل عفوية وبكل براءة، فيك طفل يداعب الزهر ، وفيك رجل يواجه الحياة بأمان وصلابة ، وفيك انسان ممتلىء مشاعر جياشة عندما تنزف الجراح .

وختاما استشهد واقول :

” غالب غانم سلمت يداك

انت انشودة جميلة في حديقة الشعر

وصوت مدو في ساحات العدالة في الوطن وفوق منابر الكلمة .”

النقيب رشيد درباس

صِنِّين، جبينُ لبنان، ثلجاً وخضرة، صخراً ودهراً، ذروة ومنحدراً، منزهاً ومنسكاً، أَوَتْ إلى حضنه الفلسفة ُوانتبذت من زبد الدُّينا عزرالاً في الشُّخروب، فامتصتها الطبيعة الجبلية وأعادت إطلاقها أدباً متنوعاً، وإبداعًا سرى في أوصال الصقيع دفئاً فنيًّا، أَفْعَلَ مما يبثُّه الكانون ويثرثر به الحطب.

عِشْرة الرأس للغيوم زرعت في التضاريس شرايين المياه، فالطود إذن، خزان هائل لا تعرف قراه العطش، وبسكنتا روضة من جلول وحقول وعقول، ونفوسٌ أدنت الجبل من البحر بِمُتَّصل الأبيض بالأزرق، حيث اغتسل الفكر البكر بالأمواج المترحلة، فأضفى على المالح ملاحةً، وصان العذوبة من طعم الملح الهجين.

” من الشائع إلى الأصيل، من سهل الأول ووعر الثاني،

“من السير مع القافلة إلى الشرود الخلاق” كانت رحلة غالب غانم، وما زالت، تسعى إلى غير مستقَر، فليس العمر عنده مسيرةً نحو هدف، بل هو الترحل في الحقب والمعارف والمجاهل، لذته في وعره كما يقول، ومتعة التحليق حين الجناح لا يبغي الوصول، كما أنا أقول، فالريش النابت من الزغب، حين يطلق لخوافيه والقوادم عِنان الطيران، يطلق للعينين عِنان الرؤية، فتنكشف الدنيا أمامه صغيرة، فإذا ما حنَّ إلى عُشه وعاد إليه، وجده أرحب موئلًا من ذلك الامتداد الـمَهيب.

أبوه المعلم عبدالله، اقترض من العلم التقليدي، ديناً محدوداً فآلى على نفسه إيفاءه أضعافاً مضاعفة، مع فوائده المركبة وعوائده المشبعة بالعبقرية وحب الناس. فإنه، بعد قرنة شهوان الثانوية انتسب إلى جامعة التحصيل الذاتي متنزهاً بين اللغات، متعمقاً في العربية والفرنسية وآدابهما، وفي المعارف الميتولوجية، وبقي، برغم هذا التحصيل الذي يحتاج إلى أعمار طولى تتجاوز عمره القصير، منصفاً في توزيع حياته بين داعي الشاعرية وداعي العائلية فكان زوجًا محبًّا لملهمته، وأبًا أنشأ أولاده السبعة على صورته ومثاله.

لم يحجب الضباب القروي عن المعلم نفاذ البصيرة حين دعا الأثرياء اللبنانيين عام 1929 إلى تأليف شركات وطنية يشترك الشعب في أسهمها، ولم يُسَلِّمْ روحه لجليد الشتاء، حين دعا عام 1930 إلى الثورة على من يستغلون الأزمات ويملأون جيوبهم بإفراغ جيوب غيرهم من دون أن يشعروا أن الدم الذي يستنزفونه هو من دمهم. ولم يَدَعْ للثلج أن يحول بينه وبين أصله الرملي الصحراوي المنتسبِ إلى قبيلة غانم اليمنية، حين رأى منذ العام 1929، بمقلة جدته زرقاء اليمامة، ما يحاك لفلسطين وأطلق نداءه الشهير: “ليصبر أصحاب الحق”.

معلم المحتفى به ومعلم الأجيال تخطى بقدراته الذاتية صعوبة المسالك، وانعزال القرية وندرة الاختلاط، وقلة المراجع، فصار فقيهًا لغويًّا وعالمـًا ميتولوجيًّا، ورأسماليًّا وطنيًّا واشتراكيًّا يكره الاستغلال، وعروبيًّا يحذر من نكبة فلسطين قبل وقوعها بعشرين سنة، فلماذا نحار إذًا في صفات الابن الباذخة؟ أما هو سرُّ أبيه؟ وهل يُسْتَغْرَبُ الشيء من مَعْدِنه؟ وكيف لا يكون غالبٌ، على ما هو عليه وقد جمع إلى أدبه ودأبه وجديته ورصانته وموهبته وحصافته، امتياز التلمذة على أيدي مُعَلِّمَيْن، عَبْديِن لله، هما المعلم عبدالله غانم الشاعرُ الأديبُ العالم، والمعلم عبدالله لحود، المحامي وأستاذُ القانون الذي كان يلقي الحروف حبراً من أنامله، فتستحيل شبابيكاً من الذهب، على ما قال ابن الرومي، ويُخْرجُ الألفاظ من اللَّهاة، فتدخل الآذان والقلوب جملاً من موسيقا راقية أخاذة.

هنا أستمحيكم عذراً، وأستأذن الغالب الغانم في الدخول إلى شخصيته الملتبسة وهويته المتعددة، ونوازعه المتأججة، علَّني أستطيع في هذا الوقت المحدود تظهيرَ أنواع الزهر النابتة في حديقته التي تختلف خواص تربتها في كل سنتمتر مربع منها. لكأن سيمفونية الألوان تعزفها أنامل الكيمياء الخفية، لكأن العطر يفوح من قوارير كثيرة، في مصنع واحد، ورثه حضرة الرئيس الأول عن مُعَلِّمَيْه فحافظ على أصالته، ثم أدخل إليه ما أعطته الدنيا من المهارة والحداثة، وما أتقنه من أدوات العصر.

لكنْ، ينبغي لي أن أقر بأن مغامرتي هذه، جعلتني أنا الآخَرَ ملتبساً، تتنازعني الآراء، وتتجاذبني المشاعر، فيتعددُ مذاق المرج في جوع البصر، ويغرد العندليب على شرفة الزمان، حتى لأحارُ أيُّ الغالبين كان غانماً من ذلك الاشتباك الحميد، أهو المحامي فالقاضي فكبير القضاة، أم الأديب الباحث والناقد والأستاذ؟

لم يقرض الشعر كوالده، ولم يَبْلُغْني أنه حاول، لكنني أعلم أنَّ على كل من يركب هذه المخاطرة، قبل جراءة الجهر بها، أن يرصُد ملاحظاته التي قد تُرْدي القصيدة من شطرها الأول، أو تحييها وتحيي صاحبها، كما فعل في مقدمته لمجموعتي الشعرية (شبابيك ليل)؛ من غير أن أسقط من حسابي أنه، وربما بسبب متانة المودة بيننا، أصدر حكمه في تلك المقدمة لمصلحتي من غير أن يَنْسُبَهُ للشعب اللبناني كما يفعل عادة، حتى لا يتهم بالمحاباة القانونية، مكتفياً ببعض منها أدبيًّا، جبراً لخاطري ودفعاً لي على الالتزام بما أشار إليه حول علاقة الأصالة بالحداثة.

هنا لا بد من عودة مرة أخرى إلى المعلم عبدالله غانم الذي كان ابنًا بارًّا من أبناء التراث العربي واللغة الفصحى، وفي الوقت نفسه أبًا فذًّا من آباء اللغة المحكية والشعر العامي، ارتفع به من الرديات إلى الفنيات العالية، ودليلي على هذا ما أشار إليه الناقد المصري الكبير الدكتور غالي شكري والمثقف والشاعر الهائل يوسف الخال، ودليلي أيضاً أنه فتح صدور اللبنانيين عندما دق عليها منذ عشرات السنين، فغردت له فيروز ونبه النيروزُ أوائلَ طير كن بالأمس نوَّماً.

ولربما حزَّ في صدر المكرم، أن أباه المعلم لم يعش ليراه مرتقيًا معارجَه التي تنقل بينها، ومتمثلاً الروحَ التي بثها فيه، لكنني أطمئنه إلى أن التظَنِّي طليعة عَيْن الذكي، ولا بد أن قلب الراحل رأى ما صار غدًا، كما قال المتنبي.

أما بعد، فأنا ما زلت على الضفاف، لا أدري إلى أي مدى يقودني المجذاف في بحيرة الحبر، وكيف أقاربُ بعدلٍ رجلًا هو في حقيقته دائرة معارف فيها من كل فن ومطلب، وكيف لا أُسرعُ إلى إعلان فشلي عن الإحاطة الوافية، التماساً للعذر المـُحِلِّ والأسباب التخفيفية، لأن الرفوف التي يئن خشبها من وزن الموسوعة وغناها، تشهد على تعذر الحديث عن الرئيس بصورة مبسوطة أو حتى وجيزة، بحيثُ لا يُتَاحُ لأحدٍ تناولُهُ إلّا مفهرساً. والفِهرس كلمة أعجمية معربة، فهل يجوز للعجمة أن تتحدث عن هذا العربي الأصيل؟ أم هل يجوز لمن قَدِمَ مثلي من هامش الهواية أن يتحدَّث في المتْنِ عن المتْنِ؟ وهل لثلاثة أرباع قرن خصيبة من سِنيها حتى ثوانيها، أن تُنْصَفَ بربع الساعة أو ما يزيد قليلاً؟

إنَّ طاقتي وطاقة الوقت تستعصيان على إمكانية تقصّي محتوى الموسوعة الغالبية، سيرة ومقامًا وإنجازاتٍ، لهذا أكتفي بعبورٍ خاطفٍ على الفهرس الذي يحتوي عادة خلاصاتِ الكتاب، مقدمةً وفصولًا.

أبدأ بالمقدمة، فهي جبين صنين كما أسلفت، أو هي فعل الأنامل بَعَصيِّ الصخر، ونفاذُ العقل الرائي إلى عمق الأخدود، وفتح المسارب في التضاريس، “وذروة اللَّيان بذروة العصيان، والمهادنة بالمعاندة، ونسائم القلب العليلة بالملامس الصخرية العنيدة، وملامح التلميذ الرخي الخلق بطوالع الفتى الذي يقتات من خبز الكرامة”.

(الجملة الأخيرة له)

وأما فصله الأول ففي كنف أبيه المدير الذي كان يخرج معه صبيحة كل يوم سيراً على الأقدام، فإذا وصلا إلى المدرسة، تحولت رحمة الأب الرقيق الحاشية إلى رحمة المدير المموهة  بخشونة الوقار، كأن المسافة الفاصلة بين البيت والمدرسة برزخ ُالعبور من الطفولة إلى اليفاع، أو كأنَّ العلامة الكاملة التي كان ينالها بسبب الجدارة حتمًا، لا تُغَيِّبُ دور الأبوة في الغرس والتلقين. وكان ختام هذا الفصل في ” فرير دي لاسال” حيث تأسست ثقافتة الفرنكوفونية.

وأما الفصل الثاني ففي المدرسة الرسمية في الاشرفية، ثم مدرسةِ فرن الشباك حيث ظهرت مواهبه في علم الرياضيات خلافاً عن مألوف العائلة، ثم مدرسةِ الحكمة الشهيرة بانضباطها وانفتاحها، وتوغلها في عمق اللغة العربية. هناك فاز في شهادتي الفلسفة اللبنانية والفرنسية التي أحرز فيها المرتبة الأولى على مستوى لبنان، فكان باستطاعته الحصولُ على مِنْحة دراسة جامعية في فرنسا، لكن الحياة حملته إلى خيارات أخرى كما يقول.

ويبدأ الفصل الثالث حين أخذته نزعته الفطرية إلى دراسة الحقوق بدلاً من الطب والهندسة رغم تفوقه المشار إليه، ثم إلى دراسة الأدب العربي بالتوازي، فأحرز الإجازتين معًا، ونال أعلى درجة في كلية الآداب أهلته لمنحة الدكتوراه في فرنسا، لكنه رفضها مرة أخرى لأن شروط المنحة كانت تقتضي عودته للتدريس في كلية الآداب، فيما شغفه بالحقوق كان غلاباً. وهو رغم تفوقه، كانَ مُبِّرَزاً في نشاطه الطلابي، وربما ذاق طعم العمل السياسي من غير تمادٍ، بعد أن أيقن، على حد ظني، أن مُرَّه طاغٍ على حلاوته، فانصرف بأخلاقياته ومناقبياته إلى ممارسة المحاماة، لدى المعلم والمفكر الطليعي عبدالله لحود مزاملاً الرئيس بري، فكان قدره كما وصفه، ألا يكون من الأدب مفر، ولو كان القانون هو المقر.

في فصله الرابع اختار القضاء، وكان طليع الدورة على جري عادته، فقبضت عليه المنحة هذه المرة، بعد أن تملص منها سابقاً، فاستفاد من وجوده في باريس إلى جانب مهمته الأصلية، للحصول على دكتوراه في الأدب العربي بأعلى درجة؛ فلما بلغ الفصل الخامس ترجَّحَت نفسُه بين المساكنة والتنازع أَهْوُ رجل قانون مسكون بالأدب، أم أديبٌ مقونن؟ أناثرٌ وصاحبُ نظرية في الفكر النقدي الأدبي أم رحالة في سهوب القانون، لم يترك فيه باباً إلا فتحه، ولم يفُتْه منصب إلا تولاه، ولا عصى عليه اختصاص إلا رَوَّضَه، فهو قاض مدني وجزائي، ورئيس لدائرة التنفيذ، ومؤلف في هذا الباب، وضع مع الرئيس سرياني مصنفاً من أربعة أجزاء هو دليل المحامين والقضاة، ورئيسٌ لمحكمة التجارة، ولهيئة التشريع والاستشارات، ونائبٌ عامٌّ في جبل لبنان، ضرب أداؤه المثل على أن أداة السلطة العميقة هي لمسة الرحمة، وحرارة الاتصال والمعرفة بقضايا الناس، كما تولى رئاسة محاكم الاستئناف إلى أن حصلت انعطافة جوهرية في حياته تمثلت بترؤسه لمجلس شورى الدولة، خليفةً للعالم الجليل جوزيف شاوول، فانبرى لهذه المهمة ممسكاً بطرف المسيرة، واضعاً مشروع قانون نظام مجلس شورى الدولة، ومشروع قانون تنظيم السلطة القضائية، وكان قد وضع سابقاً مشروع قانون الزواج المدني الاختياري بتكليف من فخامة الرئيس الراحل الياس الهراوي، وكان فكره في كل هذا في سباق مع سرعة المطابع، التي يتدفق حبرها في قنوات كثيرة التنوع، جزيلة الرِّي والاحترام.

تجدر الاشارة قبل الخروج من هذا الفصل، إلى أن مؤلفاته القانونية كلَّها، كانت الوسائل الميسرة والدقيقة لرجال القانون وأهل التقاضي.

فلما عاد من مجلس الشورى إلى القضاء العدلي، كان كمن يعود إلى داره الأصلية بعد رحلة أزال فيها حائطاً فاصلاً مع الجيران، فسمح للهواء بأن يتنقل حرًّا بين الأروقة، بل أنشأ جسراً غير منظور لتعبر فوقه القضايا الدقيقة، والمميزات الحساسة التي تربط أو تفرق بين الدولة المتخاصمة مع الأفراد، ودولة ما فوق الخصوم، فالأحكام كلها ستصدر في النهاية باسم الشعب اللبناني، والدولة هي التي ستنفذها انصياعًا منها لإرادة الشعب، ولو كان هذا التنفيذ على نفسها ومالها وإداراتها.

حين بدأ عهد رئاسته الاولى لمحكمة التمييز ولمجلس القضاء الأعلى زرناه للتهنئة وعرض المطالب فاختصر الأمر ببيت أبي الطيب:

” إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً

مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم”

معلناً بذلك عن إرادته بتحديث العمل القضائي وتأكيد استقلالية السلطة القضائية وَفقاً لفكره الذي أفرغه في مشروع قانون؛ وهو لم يكن يوماً ما طوباوياً، كما لم تتمكن منه البراغماتية إلى حد التهاون، بل كانت رصانته تقوده إلى إنجاز الممكن عملاً بالمبدأ القائل: ” ما لا يدرك كله، لا يترك جله”.

أما بعد،

فكلما أَوْغَلْتُ في الفهرست، انفتحت الآفاق أمامي بلا حدود، كأني في رهان مع دنانير تفر من البنانِ، ولهذا فإن التنويه بتفعيل المجلس العدلي، وإصدار الأحكام في القضايا الخطرة، يختصر تلك المسيرة، التي خرج منها برأسه المرفوع ورأيه المسموع.

أفتكون الخاتمة هنا إذًا، أم أكون متعسفاً إن لم أفِ الأديب، نَزْراً من حقه، وهو الذي وجد في فكره ووقته متسعاً لأن يكتب أدبًا كثيرًا عن شعر اللبنانيين باللغة الفرنسية حيث جال في المشهور وكشف عن المغمور، وقام بتعريب نماذج من تلك القصائد بنفس شعري، كما كتب في النقد الأدبي فأبدى شجاعة الابن في تناول آثار أبيه، وكان بارًّا وعادلاً في آن، كما بر ببلدته بسكتنا القامات وبسكتنا القيم. وهو في هذا كله بطبعه الهادىء وحركته المتناسقة، أشبه بقائد الفرقة الموسيقية، يحرك آلاتها على وَفقِ الألحان، فتتداخل الأصوات والأنغام بانسجام الـ Harmonie، وحساب  الـ Polyphonie، وذلك في خدمة الأداء السيمفوني.

أيها الأصدقاء….

في حمأة احتدام الحرب السيئة الأوصاف، وفي ظل تقطع الطرقات، وانحشار الطوائف في المتحدات المرضية، كانت أبصار الثقافة دائمة الشخوص إلى الحركة الثقافية في انطلياس، التي كافحت الحرب بالسَّلْم، وتصدت للتوحش بالسماحة، واتخذت مقراً لها في حمى كنيسة أعارتها أجراسها لتدق في أسماع الملأ دونما تفرقة، فطوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض، وطوبى لهذا البستان بثمره الحلال، ورونقه، وظلاله ينشرها تكريماً لمن يستحق التكريم، كهذه الجبهة العالية التي تنحني خفراً، وليست سوى واجهةٍ لمعارفه المنسقة بدقة متناهية فوق رفوف المادة الرمادية، وَفق نظام فوق إلكتروني، يستدعي الفكرة فتجيب، ويدعو المعلومة فتلبي بسلاسة ويسر وهدوء ورباطة جأش وثقة نفس.

وتكريمه الآن، يتعداه إلى أمثاله من الأفذاذ الذين جمعوا المعارف المتنوعة بيادر مهيَّأةً لأرغفة الثقافة، وأَخَصُّهم، أولئك الذين كانت مدارسهم حيطانُها ظلالُ سنديانةٍ وألواحُها أفياءُ جوزة، فإنَّ غالبًا، مع فارق الزمن الذي أتاح له العلمَ الحديث، ينتمي إلى تلك الأرومة لحَّاً وقحاً. لهذا استبدل السنديان بمركز المعلم عبدالله غانم الثقافي فجعله واحة فكر تمتد من ضلع الجبل الأبيض إلى ألوان العلوم والثقافة.

أتراني شاهداً لا يحق له حلف اليمين، مستمَعًا فقط على سبيل المعلومات، لأنه غير خالي العلاقة بما هو مدين لصديقه من شهادة كتبها في بعض قصائده؟ أمَ انني أقدم له بعض قمحٍ رششتُه في سهول الورق على حد تعبيره، لينقُدَه مرة أخرى من زؤان دخيل، فيمرَّ بأمان من ثقوب غرباله؟ أمَ انني جاحد يذكر له أشياء قليلة ويغفل الكثير؟

هذه أسئلة، أنتم عليها تجيبون. أما أنا فعلى سؤال آخر:

هل المكرم الدكتور غالب غانم، نموذج ملتبس جمع المختلف، والمتعدد، فأبلى قاضياً وحَلَّقَ مؤلفاً وسطع أديباً وما زال على ابتسامته الوديعة وخطوته الثابتة وقلمه الخصيب؟

أشهد أمامه وأمامكم بالحق كل الحق بلا زيادة ولا نقصان بأنه القاضي الذي كتب الأحكام منداة بطلاوة اللغة ورهافة الحس الأدبي، والناقدُ الذي تناول النص بمعايير قاضي الأذواق، الذي في عرفي الرئيس الأول شرفًا لمحكمة التمييز الثقافية الدائمة… ليس غالب غانم ملتبساً بل هو الغواص في بحر الكامل… إنه أبعد من المنبر… أبعد من القوس..

الرئيس غالب غانم

في ظلّ شجرةِ النّهضة، وشجرةِ الشّرف

يطيبُ للمرء أنْ يحفُوَ به أصيحابُهُ الأقربون، ويزيد في الطّيب أن يكون هؤلاء فرسانَ الحركة الثقافية-انطلياس. ذلك أنّهم حملَةُ موازين، وأربابُ مَعايير، يَقيسون ولا يُخطئون، يرصُدونَ ولا يضِلّون، يُكرِّمونَ ولا يُمنّنون… غيرَ أنّ قلوبَهُم، لِمرّةٍ، قد تكونُ مالَتْ مع هواها، فاختاروني لوَشائجَ طغتْ على المقاييس… فلهُم منّي، على أيِّ حال، آياتُ عِرفانٍ وأغمارُ محبّة. ولنا عليهم أنْ يظلّوا الريحانةَ وقمحَ القيمِ العُليا، وَسَدنَةَ الثقافةِ وأجراسَها وأعراسَها.

كما يزيدُ في المسرّة، وفي مقام البهاء، أن يشدَّ إزركَ في لحظاتِ الارتباكِ هذه، قلمٌ من الأقلامِ التي طيّبتِ الرُّبى… قلمٌ يُفحِمُ إذا أُعوِزْتَ إلى الحجّة… يُلهِمُ إذا أُعوِزتَ إلى الرّؤيا.. يخوض الميادينَ طلّاعاً ونقيّاً إذا انتُدِبَ لمسؤوليّة.. يُتقنُ لعبةَ الأنامل والمغازل إذا أصاب القصيدة ركود. قلمٌ أفيَحُ كالفيحاء… أبلجُ كالعربيّة الحسناء. جميلُ الطلعةِ كلبنان… صديقي وأخي، معالي النقيب الاستاذ رشيد درباس.

ومن أعماق القلب تحيّةُ ودٍّ والتفاتةُ تقدير للمحامي هيكل درغام الذي يدير هذه الندوة بحضوره المميّز.

***

      تسارعتْ…تسارعتِ الأيّام، منذُ كانتْ الحبيبةُ بسكنتا سريريَ الأوّل وحصاني وجنّتي… إلى أنْ غدَتْ بيروت قِبلتي وضفّتي وشراعي… وإلى هذه الفَينةِ من العمر، وهذه الإضمامة من طبقاتِ الذكرى، حيثُ اختلطتِ الأريافُ بالضّفاف، وثقافةُ الأعالي بثقافةِ المدى، وعشقُ الأرض بعشقِ المغامرة… كما اختلطتِ الرؤى بحاجبيها، والأحلامُ بمعتقِليها… فرُحتُ أبحث في هذه الغمرات عن مواطنِ البهجةِ والظّفر، والخيبةِ والانكسار، وأستعيدُ بعضاً من صبواتٍ أو مُثُلٍ لازمتني منذ الغضاضة، في صدارتها الكلمةُ، ولبنانُ، والحقُّ، والحريّة… رباعيّةٌ ما فتِئتُ أجولُ في حدائقها ولا أمَلّ. رباعيّةٌ سكنتِ الثنيّاتِ والجوارح، وصارتْ رايةً وعلامةً من علامات هُويّتي… فما عسايَ أقولُ الآن عن الكلمة، ولبنان، والحق، والحريّة!

***

     دَعَتني الكلمة، إلى مغانيها منذُ الصِّغَر. في ظلال شجرة عبدالله غانم الوارفة نشأت. في البيت الذي كان الشعر يرشحُ من شقوقِ حجارتهِ، وكانت أدوات الكتابة وثمارُها من غالياتِ رموزه. كم وقعتِ الأعين على أوراقٍ خطّها الوالد بالأخضرِ الخضيب والأزرقِ اللّماح والبنفسجي الفوّاح. وكم وجّهَنا، منذ فجرِ ثقافتنا، إلى صحبةِ الكتاب الذي انعقدت بيننا وبينه عُرىً وُثقى هيهاتِ أن تنحلّ. وكم من مُتذوِّق ناشده أن يُلقي على مسامِعِهِ، بصوته الآتي من الأعماق والذاهب الى أعماقٍ أخرى، قصيدةً جديدة. وما أثار دُهشتي مرّةً، أنّهُ، غِبَّ إلقائه حديثاً –أدبيّاً- على أثير الإذاعة اللبنانية، تناول أحد القرويين المتحمسين مسدّسه الرابض بجوار كأس العرق، وأطلق بعض العيارات النارية ابتهاجاً.

وأظن أنّ الوالد، وإن دغدغ مشاعرهُ امرؤٌ يطلق النار بهذه الصورة من أجل الكلمةِ لا عليها، لم يكن يزكّي ما حصل، لأنّه أمضى عمره في حمى القانون، ولأنّه من الأبراج المائيّة لا الناريّة، ومن الدعاة الى نبذ العنف.

أخبرني أنّه، في أواخر الحرب العالميّة الأولى،  رافق زمرةً من الشبّان طاردت فارّين من فلول العسكر التركي المهزوم، في جرودِ صنّين. ولمّا تبدّى له أنّ أحدهم  صوّب على جنديٍّ هارب، نهاهُ وعارضَهُ، وترك المجموعة لينضمّ إلى فَيْلَقهِ الخاص: ريشاتٍ ودفاتر، محابرَ ومنابِر، صحفاً ومكتباتٍ وخزائنَ حكمة، عنادلَ وجداول، ومشاهِدَ مشاهد ممّا سكبهُ العليّ العظيم على تلك الرُبيّ… تشهدُ كلّها لفرح الحياة وسلام الروح.

كان الواحد منّا، في ذلك الزمن الوادع، يعتزّ بأنّه ابن صاحب “العندليب” و “فوق الضباب” والمأثَراتِ وطوالعِ الرؤيا وربيعِ العربيّة. وكان يخالجهُ شعور بأنّه لن تزِلَّ به قدم لأنّه  يتوكّأ على عصا ذلك العبقري الذي أنصف في توزيع العمر بين داعي الشاعريّة وداعي العائليّة. وكانت الكلمة عندنا الرفيقةَ والوليمةَ والمطرَ الآتي، وقُلِ الحزبَ الذي انتمينا اليه، لا مُثيري فِتَنٍ ولا مدجَّجين ولا مدجَّنين…

الكلمة… ما أُحيلاها كذلك في ظلال شجرة لبنان النهضويّة. ما وطنٌ بهذه المساحة ترك ميراثاً بهذا المدى. أينما كان.. على امتدادِ الحِقَب.. في دنيا العرب وفي رحباتِ الدنيا.. بكلِّ الألسنة.. في الوِجهاتِ والأصوابِ جميعاً.. في الآداب والفنون والعلوم المتلوّنة.. أفواجُ مبدعين تليها أفواج، ولبنانيّون في أعلى الذُّرى. أينَ أنتم منهم يا شباب لبنان! عودوا إلى مغاني الكلمة تروا أنّ قراباتٍ تترسّخ، وتنفتحُ أبوابٌ موصدة!. عودوا إلى مغاني الكلمة تَعُدْ بيروت كَرْماً وديمةً ومنتدىً وبساطاً ممدوداً… تَعُدْ ربّةَ الشّعراء وكعبةَ العلماء ورئةَ الأحرار وضالّةَ البحّارة… وكتابةً وريشةً ومزماراً… وملتقى العرب ومشتكاهم، وواحتهُم وصفحاتِ حبرِهم الطَّلق… وفاتِنَةَ الهُيامى بالشّرق الجميل، ومرفأ حضارةٍ ونضارة، وناسجة أحلام.

***

  وعن لبنان… الحبيبُ لبنان. بعدَ عقودٍ من العِشق والعشقِ المضادّ، وعهودٍ من السجال، وخطيئاتٍ كثيرةٍ اقترفناها..  بعد ذلك كلّه، ماذا فعلنا حتى يكونَ وطناً للحياة، وللغد؟ حتى يكونَ وطنَ جدارةٍ لا وطنَ “شطارة”. واحةً ديمقراطيّة تشِعُّ فيها سياساتُ كبيرة لا “بُرجاً بابليّاً”  تتزاحمُ فيه سياساتُ صغيرة. ملاذاً للبنانيين لا مَفْزعا وبلسماً للغرباء لا مطمعاً. مجتمعاً بأفرادٍ أعِزّة لا جماعةً لتعزيز أفراد. ملتقى رسالات روحيّة لا محطَّ هندساتٍ طائفيّة. حاضناً القوى الحيّة لا مبدّداً إيّاها في كلّ صوبٍ وفي كلّ يأس. مانحاً المرأةَ الدورَ والمشاركة سواءٌ بسواء.دولةً علمانيّةً أو دولةَ مواطنةٍ على الأقلّ. ماذا فعلنا؟ أجل ماذا فعلنا؟ قتلناهُ آناً بحبّنا والمغالاة، وآناً بصدودنا واللّامبالاة. آناً بخوفنا عليه وآناً بخوفنا منه.

لا حياةَ للبنان، ولا غدَ مُشرقاً، إذا استفحلتِ الأنانيّات، وترسّخت ذهنيّات التقاسم، ونزعاتُ التطيّف والانعزال. ما هذا لبنان الروّاد، ولا لبنانُ الأنقياء، ولا لبنانُ الشهداء، ولا لبنانُ حكمِ القانون الذي لا يستقيم إلّا إذا بات المسؤول يخشى محاسبة الشعب بديلاً من أن يطمع بالتهليل له كلّما أساء. يُخطئُ بعضهم فيعود. يكبو فيُحملُ على الأكتاف. يطعنُ النّاس فيفتدونهُ بدمائهم.

لا حياةَ للبنان، ولا غَدَ مُشرقاً، إن لم يكن لبنانَ الملتقى، والموئِل، والرسالة، والعقل، والإبداع. ولبنانَ الأخوّةِ اللبنانية الصادقة النبيلةِ السمحاء. تحبّون لبنان؟ أحبّوه معافىً لا سقيما. أحبّوه كلّهُ لا نصفَهُ. أحبّوه لكم وللبنانيين الآخرين.

***

   وعن الحقّ… الحق بذاتِهِ، وبروافِدِهِ: نظُماً وعدالةً وإنصافاً ورحمةً، كان له الأثر الجليّ في مواقفي وفي تحديد مساري.

منذ نعومةِ الأظفار كنتُ أطمئنُّ إلى الصّواب وأستطيبُ الإقناعَ لا التخبّطَ الأعشى أو سُبُلَ القسرِ والفظاظة والتضليل. كنتُ أتعاطفُ مع الأرقّ والأضعف. مع المنسيّ والمغمور. مع الطّافر والمستوحش. مرةً، انتصرتُ بقوّةِ السّاعد لفتى مجهول آذاهُ بعضُ الصبية، فتفرّس بي دونما شكران إلّا من بريق عينيه. ولعلّي في ذلك، حاكيتُ، بغيرِ قصد، ما فعله في مستهلّ الأربعينات أحد أنسبائي عندما صادف في سدّ البوشريّة عساكر أوستراليّين يهزأون بصاحب مطعم متواضع ويمتنعون تجبّراً عن أداء ما استهلكوه ساعة الغداء، فانتصر له من دون معرفةً سابقة، ونازلهم واحداً واحداً على طريقتهم، وهزمهم جميعاً. وحينَ علم قائد الفرقة ببطولته النادرة أرسل في طلبه، وكافأه على ما فَعل. باستثناء حكايات النخوةِ اللبنانيّة هذه، لا أخفي أنّي أعود بالذاكرة إلى أيّام الشباب الأوّل نادماً على كلّ عنفٍ -ولو كلامِيّ- شاركتُ فيه، مع أنّ ذلك لم يحدث إلّا في النَّدرى.

خُلِقتُ ألوفاً مع الحق، على صورةِ والدي ومِثالهِ. ومع أنّه رحل عن هذه الدنيا عندما كنتُ في السادسة عشرة، كان له الأثرُ الأكبرُ في ترويضِ طباعي وفي حضِّ نفسي على الهدوء إذا ثارتْ، وعلى الحكمةِ إذا غضِبَتْ، وعلى العدالة والاعتدال، في كلِّ الأحوال. ذلك أن تكويني الشخصي، إذا صحّت قراءتي، جمع ذروةَ اللّيان بذروة العصيان، والمهادنةَ بالمعاندة، ونسائمَ القلبِ العليلة بالملامس الصخريّة الصنّينيّة الصَّلدة، وملامحَ الفتى الرخيّ الخُلُق بطوالع الفتى الآخر الذي يقتاتُ من “مخابز” الكرامة.

ويدور الزمانُ دورته، وتُشاركُ الوالدةُ القدَرَ في تقرير المصير، فترغبُ إليّ، بحرارةٍ تعادلُ حرارة حبّها، وبنظرتها العالية إلى أصحاب القوس والميزان، بأن يكونَ القضاء خياري، فتتلاقى رغبتُها مع رغبتي، وتفتح لي قصور العدل أبوابها.

أيّها السيّدات والسّادة… أيّها الأصدقاء … ويا أيّها اللبنانيّون أيضاً…

أظنّ أنّكم تعرفون من كان غالب غانم في القضاء… منصرفاً الانصراف الكليّ إلى مهنتِهِ الرسوليّة. شجاعاً… عنيداً… متصدّياً لكلّ من حاول غَزوَ “حرَمِ” القضاء وحُرمَتِهِ، كائناً مَنْ كان.

أستمحيكم عذراً إذا خرجتُ، للحظات، من شرنقةِ التواضع، وفاخرتُ بذلك. وإذا أضفتُ أنّي، في غمرةِ المسؤوليات التي تولّيتُها، رسمتُ لنفسي خَطّاً لم أَحِدْ عنه قيدَ أنملة طوال تسعة وثلاثين عاماً.

كنتُ قاضياً لكلّ الناس، ولأولئك الذين لا سندَ لهم على الأخص.

وكنت قاضياً حرّاً، مستقلاً، حرّيتي هي حقّ لي، واستقلالي حقّ لغيري. جئت إلى المراكز التي تشرّفت بتولّيها طليقَ اليدين، وغادرتها مرتاحَ الضمير.

وكنتُ قاضياً رضِيَ بالكفاف، وببركةِ الله التي هي أغلى من كلّ مقتنىً أرضي. وما المال أمام شمخة الرأس، وأمام الاختيالِ في ظلّ شجرة الشرف؟

وهأنذا، في نهاية التطواف، ألتفتُ إلى ماضيَّ ولا أخاف منه.

أمّا التعاطف مع الأقلّ حظوةً والأرقّ حالاً، ومع صاحب الحق بعامّة، فتزكيةً له، أطلقتُ شعاراً كان عُصارةً تجربتي القضائية المديدة:

إذا اعترى القاضي شعورٌ بالضعف تجاه القويّ ماتَ في نفسهِ نصفُ العدالة، ويموتُ نصفها الآخر إذا اغَطّى ضعفهُ هذا بالاستقواء على الضعيف.

***

   وعن الحريّة… أخيراً… مَنّتْ عليَّ اليدُ العليا، لا بالحريّة وحسب، بل بتمكيني من ممارستها. لم يقيّدني رأيٌ مسبقٌ أو مفروض. شخصٌ أو جماعة. ظرفٌ أو حدث. داخلٌ أو خارج. طائفةٌ أو حزب. ولم يقيّدني يمينٌ أو يسار. من أعمقِ الأعماق كنتُ أهتف للسّاعين إلى مناهضة الظّلم والاستبداد، وإلى مناصرة كلّ حركةٍ تتصدّى لمستبيحي كرامات الشعوب ومعتقلي أحلامهم. هتفتُ لغاندي.. لغيفارا..لجميلة بو حيرد.. لباسترناك وسولجانستين.. لعبد الناصر.. لديغول..لنلسن مانديلا.. لمحمود درويش وسميح القاسم.. لماريو فارغاس ليوزا حين صوّر في روايته (La fête au bouc) التي نالت جائزة نوبل انهيار الديكتاتورية في جمهوريّة الدومينيك. ليوحنا بولس الثاني. لشعراء أرمينيا الذين استبسلوا في ردّ الضيم عن أرض الجدود. لناظم حكمت الذي استضافته الندوة اللبنانية منذ أكثر من نصف قرن، وقد صفّقتُ له طويلاً مع روّاد الندوة عندما ألقى قصيدةً بالتركية لم نفهم منها كلمةً واحدة ولم نعرف عنها إلّا أنّها تمجّد الحريّة!.

الحريّة… مهّدتْ طريقِي، في حالات، لتولّي مسؤولياتٍ ومواقعَ عليا. وفي حالاتٍ اخرى، جعلتني في عدادِ غير المرغوب بهم لأنّني صاحب قرارٍ حرّ… وسواءٌ أسهمتْ في تقديمي أو في تأخيري، أو في إقامة الحواجز بوجه تطلّعاتي، فهي تبقى أسمى وأثمن من كلّ هدفٍ عارضٍ ومجدٍ باطل.

الحريّة… ذكّرتني بالأجدادِ ومعاقلهِم، بالعشّاق ومعازلهِم، بالمغامرين الذين يحملونَ أقدارَهُم على أكتافهِم، بالعصاةِ في وجهِ العتاة، وبالأبوابِ المفتوحةِ والعقولِ المنوّرة.

الحريّةُ هي الجناحان، وهي الطريق الى نجمة الليل، وإلى جوهرةِ الأعماق.

لا ثورةَ فكريّةً بلا حريّة… لا يقظةَ إنسانيّةً بلا حريّة.. لا كلمةَ مجنّحةً بلا حريّة..

الحريّة بابٌ إلى الراسخ، وإلى المطلق، وإلى الخالد..

الحريّة تفكّكُ سلاسل، وطوفانُ روحٍ على النص، وعلى الجسد… وعلى الوطن..

 

اترك رد