وهل يحيا وطن يُطمَس تاريخه؟!

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

وسار بنا قطار تحديث المناهج التّربوية إبّان خروجنا من آتون الحرب المقيتة، فحُمِّلت المقصورات بما استلّذ واستطيب التّربويون من أكوام المعرفة؛ على أمل اللّحاق بركب حضارة الشّعوب التي سبقتنا على دروب التّحضّر، فاستُقدِمت المناهج وأُترعت الكُتب بمحتوياتها من غير أن تُطوّع أو يُسلَسُ قيادها، في معظمها، لمعلّم أَم لمتعلِّم على حدٍّ سواء… وما بقاء الكثير من كتب المنهجيّة «الجديدة» خارج دائرة التّدريس ومتناول المدرّسين والدارسين، إلاّ دليلاً دامغًا على صحّة ما نقول. بالرّغم من كلّ ما سلف، إن الدّخول في هذا الخضمّ يتشعب ويطول. ولكن، ما يهمّني في هذه العُجالة، الإضاءة على وجعي كمربٍّ، وقد بات وجع وطنٍ بأسره!

إنّ شعبًا يا سادة، بات يُربّي أبناءَه على ما علق في ذهنه من حكاياتٍ وصلته مبتورةً، أو برواياتٍ، على عورتها، يجد الآباء أنها تتناسب ورغبتهم بتسويق ما يطابق ميولهم أو يتوافق وآراءَهم، فيستعينون بها، على تجسيد أضغاثٍ تمنّوا أن تتحقّق لهم أو معهم… على دروب واقع: نحياه مريرًا ونرقب تفاصيله ظُلمًا، ظلامةً وتظلُّمًا!!

خجلي من أجداد وجدّات أخوات رجالٍ كنَّ، أورثونا بعرق الكفاح ودماء الشّهادة الطّاهرة وطنًا: أسكنّاه العيون والقلوب، موطّنين النّفس على افتدائه بالمهج… وها نحن اليوم، نربّي أطفالنا، أولادنا كما أحفادنا، في بلدٍ لم يعُد بمقدورنا إقناعهم به وطنًا: إن استودعوا أرضَه الأحلامَ ستُنبتُ من بين أكفّهم أغراس مآتٍ أم أنصاب إنجازاتٍ تسمح لهم بالتّمسّكِ بوطنهم والإعتزاز بمواطنيتهم، كما كان لآبائهم والجدود من قبل!!

أليس ما صرنا إليه، غدا من المحزن  المخزي، الذي تنفطر له القلوب، في يومنا، لتراجع مُذرٍ في الرّوح الوطنيّة الحقّة؟! أيُعقلُ أن يحيا وطنٌ في قلوب مواطنيه؛ وأجياله تُربّى من غير تاريخ واضح الخطوط صريح الملامح؟؟

فيا سادة، إنّ أجيالاً تنمو، تترعرع وتضطرد على أرض لبناننا، من غير تاريخ ٍفي المدارس يدرسونه؛ ليجمع بينهم: فيُجمعون على صونه، ويضنّون بتضحيات الأهل من آباءٍ وأجداد! فكيف لكم أن تُسلِّموهم شأن سَوس شؤون ومصالح وطنٍ، لا يعرفونه ولا يعرفون سيرة وصوله إليهم إرثًا ثمينًا، لنطلب إليهم من بعدها، أن يسخّروا قدراتهم والمعارف، في سبيل إعلاء شأنه ورفع إسمه بين دولٍ، لا تحترم أصلاً مَن كان بِلا تاريخ… ولذلك تميتُ نفسها لتلقين أبناءَنا تاريخها!!

فالسّواد الأعظم من شبيبتنا، يشعرون وكأنّهم نزلاء فندقٍ، ينتظرون بفارغ الصّبر موعد حزم حقائبهم مُنهين رحلةً سياحيّةً غير موفّقة، وقد فُرضَت عليهم زيارة مواقعها الأثريّة من غير دليل! فهل تجوز معاتبة شعبٍ على مغادرة وطنٍ، لم يُقدّم له سوى الأوجاع والمفاجع بأطباقٍ ذهبية، على صَوانٍ مُذهّبة وفوق صِوانٍ من خشاب النّعوش، قد مُدّت موائده؟!!

الكلّ يذهب إلى هارفرد، أو يقصد السّوربون بغاية نوال شهادةٍ في اختصاصٍ، فيلقاه من الدكاترة وجهابذة العلم والمعرفة أرتالاً مستعدّين لتوقيع جواز سفره إلى دنيا الأعمال والإقتصاد والطّب… ولكنّهم لا يحظون بمختارٍ واحدٍ على استعداد لإثبات مواطنيهم أو هوّيتهم الوطنيّة: لأنّ الجامعات لا تَمنح الجنسيات مهما علا شأنها في عالم المعارف والتّقنيات!

علينا أن ننحّي ميولنا والرغبات جانبًا. لأنّي بغياب كتاب تاريخٍ يجمع أهل الوطن فيجتمعون على محبّته ويضحّون عن وعيٍّ من أجله… لأنّ وطنًا- في المستقبل- من غير تاريخ ٍصريح- لن يكون لأهله أن ينعموا بخيراته. فقطار منهجيّة «جديدةٍ» أراه انطلق من غير أُمرة القيادة… وبقي مُسمّرًا عند محطّة انتظار رقيٍّ حقٍّ نتمنّاه ولن نناله إلاّ إذا اكتمل عقد تربيتنا بكتاب تاريخ ٍ يليق بِمَن يدّعون أنهم أسياد حضارات العالم.

إنَّ قطار المنهجيّة «الجديدة»، قد علا زعاقه صفيرًا، ولوّث فضاءَنا انبعاث دخانه في عقول أبنائنا عنوةً، لأنّه من الصّعب أن يُدفئ الإنسان ثوبٌ، ليس من حوكِ نوله، ولا من خيط نسجه.

 

اترك رد