ناســك زمن الضجيج

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

قَبل ما يبلّش العيد، عْزَمتن يجو

عنّا صُوَر. عنّا حكي عَم ينكتب بْ اللون

عنّا عينين بيعشقو قاماتهن… ما اهتمّو

وصل العيد وما إجو.

والناسك القاعد بفيّة المعرفه، الما بتنعطى إلاّ لـ المختارين، ما سمحلن يتركو مطرحن.

العقل بيتدخّل. انتبهو: مش كّل شي بيلمع هوّي النور الـ بيوصّل لأبعد من شهره، صارت موضه… بتخلص قَبل ما تكون الشمس كمّلت مشوارا، بآخر النهار.

الناسك، من القلال بْ زمن الضجيج، بيرسم، وما بيحكي. بينحت القصايد الـ بتخلّي العقل يقرّب صوب الجمال يوشوشو: ما تكشف كلّ وراقك.

قبل ما تكتمل الدهشه، بيكون الـزْميل ومطرقة الخشب أخدو مطرحن. كمّلو لعبة الخلق الـبتوصّل عَ الزيح المرسوم قدّام عينينا. الزيح البيفصل بين السما والأرض.

… ويا حظ الـ بيوصل قبل غيرو، وبيشارك بْرسم هَـ الزيح. بتنعطالو مفاتيح الدهشه.

بيفتح بواب صومعتو. بيقول لَمستحقين المعرفه:

فوتو، جوّا المدى ما إلو حدود… والفرح ما إلو حدود.

بتغمز المنحوته أختها، وعَ صوت ما بيشبه الحكي، بِسمَع:

قولِك صابيع النحاتين والرسامين إلهن عينين عاشق، بيخلّوكي توقّعي تيابك..؟

لَشو التياب، ما الدفا عم يمشي بعروقك… ردّلك الحياة.

الـ فاتو ع صومعة هَـ الناسك، فاتت المعرفه معن، مشيت حدّن، عرفو كيف الجمال بينده، من اللحظه اللي بيتكوّن فيا… بيوسّع المدى.

***

مين هَـ الناسك؟

كيف سبقنا وقطف من قدّامنا جمالات، كنّا نشوفا، بس ما عرفنا ننغرم فيا، ولا عرفنا نخلّيا تنغرم فينا؟

السؤال مَرَق بِ بالي، متل ما عم يمرق بِ بالكن.

بتقول الحكايه:

بْ ليله، والصيف بْ عزّو، ناصب عرزالو لضوّ القمر… حطّ «المعلّم حبيب» مطرقتو وزْميلو، يرتاحو، بعد نهار من التعب:

بكره في عَتبة بيت رح تنرفع وتاخد مطرحا.

وين؟

قبل ما يمرق بْ بالو المطرح، سمع صرخة طفل جوّات بيتو:

«جانا صبي… مبروك».

رف «المعلّم حبيب» إنّو العتبه التانيه انحطّت مطرحا:

… وينطر الحجر، وتنطر الإيد البدّا تصلّب عَ العتبه… وسكت.

بكره، شو رح يطلع؟ شو بدّو يكون؟

… ويكون البدّو يكونو، «خْلقه كامله نعمه زايده».

سَجّلو بْ دفتر المعموديّه تاريخ: 18 آب 1941.

بلّش الفرح مشوارو.

الفرح هوّي النعمه المقدّسه البيسمّوا مرّات: الموهبه.

***

أوّل ما  سمْعت الأرض دعسات الولد الزغير، خيطولو مريول بْ لون العتم، وبيت لَـ الكتب بيشبهو بْ اللون، بس ما فيه كتب، في لوح زغير أسود وطبشوره، وعروس زعتر وزيت.

انفتح قدّامو أوّل باب، شاف الأبجديه بْ كلّ حروفا ناطره الولاد الزغار، تَ تكون زوادتن بْ المشوار الطويل صوب المعرفه.

«أبجد هوّز»… بلشو الإيدين الزغار يدلو العينين ع المشوار الرح يرافقن كلّ العمر، من مدرسة الضيعه لمدينة الأبجديه الفتحت شبّاك النور للعالم كلّو.

بْ صيدا تعلّم الولد العم يكبر عَ مهل. تعلّم يكون مستعد يروح للأبعد، نقل من مدرسه لأكاديميّه، لَ السَفَر عَ بلاد كرّس الفن مجدها، وصيّرا علامة جمال، بيعجز العقل عن تحديدو.

سَفْرتو عَ روما ما انعطت بْ بطاقة ترضيه. أخدها بْ أوّل نجاح كان العلامه اللي انضافت عَ سجلو الصيّرو بْ مدّه قصيري «المعلّم»… تعمّد مرّه تانيه بْ التواضع.

وحدن الكبار، بيعرفو غِنى التواضع ومجدو.

التفت ع مطرقة «المعلّم حبيب» مَسَح الغبار عنّا، نَقَلا لـ خزانة الأمانات، علامة إحترام، متل كلّ الـ ربيو عَ خبز مَعجن البركه.

***

أخدني الحكي عْ الماضي؟ لأ.

الحياة بتضجّر بْ السكوت، قدّ ما بتضجّر البشاعه.

رحت صوبو؟

رحت صوب الناسك القاعد بفيّة السكوت بْ زمن الضجيج.

دقّيت باب المحترف… بْروس صابيعي دقّيت، انفتح قدّامي بابين.

بْ الأوّل استقبلني، وبالكاد سمعت صوتو.

النسّاك ما بيحكو كتير، دفا حضورن وحدو اللي بيحكي.

بْ أوّل فشخه للباب التاني وقفت.

فْركت عينيي، فْركتن منيح.

أف … صرخت:

حابس الشمس جوّا؟ ليش؟

مين قلّو الشمس إلو… إلو وحدو؟

وكلّ هالقامات الموقّفا نواطير ما بتتعب؟

تَ تضل مطرحا بشو عم يغريا؟

اتطلّعت بْ كفوف إيديه، بْ صابيعو الما بيضجرو:

من وين بدّي بلّش؟

أيا منحوته بحكي معا بْ الأوّل؟

… وهوي؟

واقف، عم يتطلّع، وما يقول شي. ابتسامتو تومي: ما بَقَى تسأل.

رجعت فركت عينيي بْ صابيع الإيدتين. اتطلّعت بْ صابيع إيديه… متل الـ كأني سمعت أصوات جايي من غابات بعيده:

السجره أقوى من اللي زَرعا، بتعيش أكتر منّو، حتّى بعد ما تختير، بتمرق عليا إيد عاشق، بيوقعو تيابا، بتصير الرغبه لحياة جديده مِلْك هَـ العاشق.

وحدو بيعرف كيف، باسم الحب… بتقدر الموهبه تشارك الله بْ الخلق.

دقّات عقارب القلب بتصير دقات عقارب لحظة الإبداع.

الإبداع هوّي النعمه البتنعطى لأصحاب الموهبه.

هنّي وحدن قادرين يقتلو وحش البشاعه. يوسّعو بْ هالأرض مساحات الجمال.

***

قرّبت أكتر. مدّيت إيدي:

عَ مين بسلّم بْ الأوّل؟

رَجّعتها… وما سلّمت.

شفت الحكي مكدّس فوق بعضو. قسم كتبو العقل، وقسم كَتَبتو لهفة القلب.

الشفّتين اختلفو مع بعضن، وسوا صرخو: آه.

… والناسك الواقف جوّات ابتسامتو قبالي، ترك الحكي لعينيه.

سمعتن قالو: قرّب. هون إذا ما بتخلق من جديد، ما بتستحق نعمة التمتّع بْ الجمال.

من دون ما اترك الكلام جوّاتي يروح للأبعد، مشيت بين القامات ومش مصدّق… هنّي العم يغروني، أو اللهفه التوّجتني عاشق؟

بْ عمركن شفتو عاشق، بيعرف لوين رح يوصل بْ موعد حبّ؟

***

يا هـ الناسك، أنا من لحم، ودم، من حبر ولون.

مرّه تانيه، اتطلّعت بْ عروق العرايس الحابسن جوّات الحبّ، واتطلعت بْ طرف عينيي بْ عروق إيديه.

كلّن بيقربوك؟

مين حكّمك فين؟

مين علّمن هالقد ينغرمو فيك… ويضلّو خاضعين لطاعتك؟

شي من جوّا شَدّ بْ صوتي:

ما بقى تسألو… النسّاك ما بيحبّو الحكي… هنّي بس، بيعرفو يحبّو.

… وبيحبّو وسع عَقلن وقَلبن.

قدرتن عَ الخلق ما خَضَعت لـ «حكاية التفاحه والمرا» الما كان إلها وظيفه إلاَ: تعلّم آدم يدوق… وداق.

بعدا؟

تتخربط اللعبه… أو تبلّش… ما بتفرق.

يبسو عروق الحكايه، وبعدن عم يخبروها ويجرّبو يقنعونا فيا.

هَـ الناسك، عطيو «المعلّم حبيب» اسم، في شي من عطر حكاية «المرا والتفاحه»: نعيم.

… وعطيو هويّه.

أوّل حرف فيا، كان ضربة «زميل»، رافق صوتو صوت نَبْض إيديه وقلبو وعقلو.

راح صوب المعرفه. تْعلّم وعَلّم. وحَفَر ملامحو بْ الما بينمحى.

بْ البساطه الصعبه اشتغل الشكل. بْ دِقّه زادت توهّج الجمال الحافظ ع الجوهر، وترك كلّ شي برّاتو يوقع عَ التراب… يلمّو النمل، وما بيتعب.

لغة التجريد أصعب من اللغة الـما قدرت تنضّف حالها من الثرثره، تَ ينلهفلها العقل، ويوسّعلها المطرح البيليق فيا.

التجريد هوّي السرّ البيقدّم حالو لأصحاب المعرفه، ولو قلال.

مطرحو؟ وحدو الـ بيقررو.

أكيد، مش عَ الرصيف العم يجمع الورق اليابس، تَ يبرطل الهوا، وينغرم فيه.

بين المنحوته واللوحه في قرابه. الزيح ما بيفصل بينن، تَ تضلّ المقدره نُصّا موهبه، والنصّ التاني معرفه غنيّه بْ الثقافه والعلم… وتتبارك لعبة الخَلق.

المخلوق الـ توّجتو الموهبه، بيقدر يشارك الخالق، يجسّد الحركه، يصيّرا قامه، وقيمه، لمواضيع فيا شي من روحانيّه بتخلّي الحياة تفتحلها الباب الواسع. تفوت… وتاخد مطرحا.

***

الدخول لـ «فرح النسّاك»، صعب كتر ما فيه دفا.

بين الرسم والنحت بتلبس الموهبه تياب شفافه، وما بتستحي، لأنّو مش أي إيد بتنمد لعراويها بتقدر تفكّ زرّ من زرار قميصها المعرّق، تَ تشوفها متل ما العقل والقلب شافوها.

بْ عزّ هالبساطه عِرف الناسك إنّو للتواضع أكتر من صِفَه. هوّي جزء أساس من الموهبه المشغوله عَ نول التجارب.

وقّع التفاصيل الزغيري، الما بتضيف شي، وزاد عَ الجوهر بْ صياغة حِرَفي متميز، زاد من موهبتو، ومن تكرّسو لروحانيّة الإبداع.

***

عم إحكي… وإحكي… والناسك؟

ولا كلمه قال.

ما عرفت قبلو ناسك بيتنسّك بْ المدى، وبيترك عينيه وعقلو وقلبو دوّارين عم يفتشو عن خطوط ومسام، بعد ما أخدها تَ يغريا… تقبل تصير فردوس جديد هوّي خلقو، وسيّجو بْ زوغة الفرح المقدّس.

بيعرفوه كلّ اللي داقو طعم الموهبه.

الجمال بيوجّع. صدقوني: بيوجّع.

… وبساطة النور الـ بيندهنا، منلاقي جوّاتا مسافه، ما كنّا قادرين نشوفا من دونو، مش بْسهوله منقدر نوصل لعندو.

***

قبل ما اترك المحترف، ويتسكّر الباب خلفي، حسّيت بْ الفرح محاوطني. حسّيت بدقات قلبي راكضي، متل وقت اللي انفتح الباب قدّامي عَ صوت الناسك هوّي وعم يقلّي: فوت.

فتت… وشفت ع صوتو مكتوب اسم: نعيم ضومط.

****

(*) ألقيت في “يوم تكريم نعيم ضومط”، ضمن المهرجان اللبناني للكتاب “دورة المعلم بطرس البستاني” الحركة الثقافيّة – أنطلياس، 4 مارس 2019.

 

 

 

اترك رد