“المرأة الأندلسيّة مرآةُ حضارةٍ شعّت لحظةً وتشظّت”… جديد د. دلال عباس

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

“المرأة الأندلسيّة مرآةُ حضارةٍ شعّت لحظةً وتشظّت” كتاب جديد صدر حديثًا للدكتورة دلال عباس (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر)، في ما يلي مقدمة الكتاب بقلم المؤلفة:

هي الأمورُ كما شاهدتُها دولٌ

مَن سرَّهُ زمنٌ ساءَتْهُ أزمانُ

وهذه الدارُ لا تُبقي على أحدٍ

ولا يدومُ على حالٍ لها شانُ

أبو البقاء الرنديّ في رثاء الأندلس

هذا الكتاب هو في الأصل رسالة ماجستير أنهيتُ كتابتها في العام 1974م، وأرجأتِ الظروفُ مناقشتها حتّى العام 1979م، من تلك الظروف ما جعل دراساتي وأبحاثي تتحوّل من أحدِ روافد الحضارة العربيّة الإسلاميّة وآدابها، أي الحضارة والأدب الأندلسيَّين إلى النهر نفسه بروافده ومساراته المتشعِّبة، وبمآلاته.

كانت تراودني، بين الفينةِ والأخرى فكرةُ إعادةِ كتابةِ الرسالةِ ونشرها، كلّما عنّتْ لي فكرةٌ أو قرأتُ تاريخًا، أو عاينتُ حَدَثًا له علاقةٌ برؤية ابن خلدون إلى نشوء الدول والحضاراتِ واضمحلالِها، فأتمثّل الحضارةَ الأندلسيّةَ كوكبًا دُرِّيًّا شعَّ لحظةً في ظلام الغرب، وما لبث أنْ تشظّى واضمحلّ..

أخيرًا قرّرتُ نشرَ الرسالةِ كما هي، وإضافةَ بعضِ الحواشي والتواريخ الضروريّة. أمّا دوافع هذا القرار فتختلف اختلافًا جذريًّا عن دوافع اختيار موضوع رسالة الماجستير في العام 1971م، التي كانت في ذلك الحينِ دوافع شابّةٍ رومانسيّة، مُثقلٌ خيالهُها بما قرأَتْه صغيرةً في الروايات التاريخيّة عن عبد الرحمٰن الداخل، ومعجزةِ وصول العرب إلى إسبانيا، وإلى أبواب فرنسا، وطاولةِ موسى بن نُصَير، وأميرةِ الأندلس، وبلاطِ الشهداء، وسقوطِ غَرناطة، آخر معاقل العرب في الأندلس، وزفرةِ العربيِّ الأخيرة [لفظتا العرب والعربيّ تناسبان المرحلة الزمنيّة التي كتبتُ فيها الرسالةَ، لأنّ الأندلسيَّ عربيُّ اللغةِ والنتاجِ الفكريِّ والأدبيِّ، شاركَت في تكوينهِ أعراقٌ عدّة، أحدُها العرقُ العربيّ]، ومأساة بني سراج، والقصصِ التي تحكي هربَ الأندلسيّين بحرًا وبرًّا إلى مراكش وتونس، ووقوعهم في حبائل المهرّبين، وحمّامات قرطبة الألف التي هدمها الفرنجة العلوج…يخالط ذلك كلَّه وخزاتٌ تؤلمني كلّما قرأت تلميحًا في الأدب الفرنسيّ الكلاسيكيّ عن الموريسك…يُضاف إلى كلِّ ذلك دافعٌ يُناسبُ انخراطي يومها في الجمعيّات النسويّة، لأنْ أبحثَ في الأندلسِ التي أحببتُ عن أسبابِ اختلافِ المرأةِ الأندلسيّةِ اختلافًا جذريًّا عن المرأةِ المشرقيّةِ في عصرها وبعدَه…

الحديثُ عن المرأةِ الأندلسيّة تاريخيًّا واجتماعيًّا وأدبيًّا، حتّمَ العودةَ إلى مصادر التاريخ الأندلسيّ الأساسيّة- ولم تكن متوافرةً في الأسواق- ممّا أجبرني وأنا معلِّمة مقيمةٌ في الجنوب أنْ أنتظر يومَ الجمعةِ، لأعودَ إلى تلك المصادر في مكتبات الجامعات في بيروت…وبما أنّ القراءة كانت، ولا تزال، بالنسبة إليَّ هدفًا بحدِّ ذاتها، قرأتُ كثيرًا. وعشتُ الأحداثَ التي قرأتُها، ونَسجْتُ في خيالي قصصًا وحكايات لم تكتمل. هوسُ القراءة، جعلني أقرأ كلَّ ما له عَلاقة بالأندلس تاريخًا وثقافةً وأدبًا وفلسفةً: وفي تلك المرحلة قرأتُ- لغير الامتحان- ابن عربي وابن رشد وابن طفيل وابن مسرّة…

الآن، وأنا أكتبُ هذه السطور بعد أربعين عامًا ونيّف، أذكرُ أنّني كنتُ في تلك الأيّام أذرف الدمعَ حين أقرأ ما ألمَّ بالأندلسيّين من فواجع، ومدُنُهم تتهاوى الواحدةُ تلوَ الأخرى بأيدي الفرنجة، وهم عنها لاهون. كان الواحدُ من أمراء الدويلاتِ المتنافسةِ المتناحرةِ، حين تسقط المدينةُ المجاورةُ له، يُتابع نمطَ عيشه الرغيد، يعيشُ ليومه، غيرَ آبهٍ بما يجري، ولا مكلّفٍ نفسَه عناءَ التفكير بغدِه، أو يعتقدُ-غباءً أو جُبنًا وتخاذلًا- أنّه سينجو إنْ هو هادنَ المغيرين، وحينَ يجيءُ دورُه، لا تنفعُه مهادنتُه في شيء، ولا يشكّلُ سقوطُه درسًا لحاكمٍ آخرَ مجاور، يدفعُه ليستعدَّ للدفاع عن نفسه وعن أهلِه ومدينتِه، ليبكيَ في نهايةِ المطاف- إن بقيَ على قيد الحياةِ ذليلًا- مُلكًا لم يُحافظْ عليه كالرجال، أو يصيبه ما أصاب المعتمد صاحب إشبيلية، الشاعر المثقّفِ المترفِ، حلَّ به ما حلَّ بإمبراطور الصين، الذي كانت بلادُه في أوجِ مجدِها العمرانيّ والفكريّ والثقافيّ، وهو يعيش وبطانتَه حياةَ ترفٍ ودِعةٍ، يومَ بدأ جنكيزخان، جارُه، رحلتَه الدّمويّة، استعانَ به، فابتلعَه في نهايةِ المطاف، كراكبِ الأسدِ ظنَّ أنّه فرسُه، فإذا هو فريستُه، أو كالحملِ الذي صادقَ ذؤَيْبًا، حين استذأبَ أكلَه. لقد استعان المعتمِدُ بالمرابطين [من البربر الصحراويّين المتزمّتين]، لردّ غارات الفرنجة، ففعلوا، ومن ثمَّ استولوا على إمارتِه وأودعوه السجن. سقطتِ المدنُ الاندلسيّة- التي كانت كلُّ واحدةٍ منها تُشكّل إمارةً مستقلّة- الواحدةُ تلو الأخرى بأيدي الفرنجة، كما سقطت ممالكُ المسلمين في المشرق، المتراميةُ الأطراف، واحدةً تلو الأخرى تحت سنابك المغول. لقد استغرق سقوطُها عقودًا، ولم يجدِ المغول من يقفُ في طريقهم سوى قلّةٍ قليلة، والذي استشعر من حكّامها وعقلائها الخطرَ قبلَ وصوله إليه، لم يجدْ مَن يأخذ برأيه، أو يقف معه، أو يساندُه، وعامّةُ الناس كأمرائهم، يسمعون أنباء المجازر التي يرتكبها المغول، فيُصابون بالرُّعب والرُّهاب، ولم يُفِدهم رفعُ الراياتِ البيضِ والاستسلام، فقد قُتلوا في الحالَين، وكُوِّمَت جماجمهُم أهرامًا؛ قُتلوا جبناءَ متخاذلين، بدلًا من أن يُجنّدوا ليستشهدوا دفاعًا عن أنفسهم وأهليهم.

ليس التاريخ هو الذي يُعيد نفسَه، بل البشر هم أنفسُهم، وإنْ تغيّرت سحنُهم، وأزياؤهم، وأسنّتهم…دويلاتُ الأندلسِ، والدولُ المستقلّةُ عن الإمبراطوريّة العبّاسيّة آونةَ شيخوختها، ودويلاتُ المشرق في هذه اللحظة، هي هي، إمّا لاهيةٌ عن الأخطارِ المحدقةِ بها، وإمّا معاونةٌ للفرنجة والمغول والتتار والترك والبدو واليهود و… والقلّةُ هي التي تستشعِر الخطرَ، وتُحاول أنْ تتصدّى له، قبل أن يصل إليها…

ما علاقةُ هذا الكلام بموضوع “المرأة الأندلسيّة”؟ هنا بيت القصيد؛ دوافعي هذه المرّة، حينَ قرَّرتُ أن أطبع الرسالة كتابًا، لم تَعُدْ دوافعَ رومانسيّة، أو نسويّة، بل حضاريّة: النساء نصف المجتمع، وأُمّهاتُ النّصف الآخر، وعلى كفِّ الأمِّ تدورُ الكرةُ الأرضيّة [كما كانت تقول أمّي رحمها الله]. كيفَ تستقيمُ دورةُ الأرضِ إذًا إنْ كانتِ الأمّهاتُ كلُّهنّ أو معظمهنّ من الجواري؟

المرأةُ مرآةٌ تنعكس على صفحتها صورةُ المجتمع: أهيَ حرّةٌ أمْ جارية؟ [لا يظنَّنَ أحدٌ أنّ عصر الجواري قد انقضى].

أحدُ مَقاتلِ الحكومات التي حكمت بلادَ المسلمين في الشرق والغرب، منذ تحوّل نظامِ الحكم إلى ملكٍ عَضوض، نظامُ الحريم، وتاليًا صراع الأخوة الأشقّاء وغير الأشقّاء على الحكم، وإن كان صراعُ غيرِ الأشقّاء أمرَّ وأدهى وأشدَّ عنفًا؛ ولمـّا أقامَ عبد الرحمٰن الداخل وخلفاؤه دولتهم في بلادِ الإسبان، لم يكن في ذهنه، ولا في أذهانهم نظامُ حكمٍ مختلِفٍ عن نظام الحكمِ الذي وُلدوا من رَحَمِه في دمشق أوّلًا، او نظام الحكمِ في بغداد، الذي أفنوا أعمارهم محاولين تقليدَه في كلِّ شيءٍ: في اقتناء الجواري والغلمان، والتفنّن بمظاهر الترفِ ووسائلِه، والاهتمام بالعمران، واقتناء المكتبات [صورة مصغّرة باهتة وقِشريّة لما يجري في بغداد]… وقد أسرفوا كما أسرف الملوك-الخلفاء في الشرق، في اقتناء الجواري، وغالوا في أثمانهنّ، وبلَغَ إسرافُهم مَداه في ما أغدقوه على أولئك الجواري من أموالٍ وأعلاقٍ نفيسة؛ فهذا عبد الرحمٰن الداخل يُهدي واحدةً من جواريه عقدًا ثمنه ثلاثة آلاف دينار، وحفيده عبد الرحمٰن الناصر يُهدي جاريتَه عقدًا جيءَ به من المشرق [كان لزبيدة زوجة الرّشيد، نُهبَ مع ما نُهبَ من القصر آونةَ الفتنة بين الأمين والمأمون]، اشتراه الناصر بعشرة آلاف دينار، في الوقتِ الذي كان فيه العاملُ المجدُّ يعملُ أيّامًا ليُحصِّلَ دينارًا واحدًا؛ وهذه الجاريةُ نفسها سعت في ما بعد لقتله وقتل وليِّ عهده، علَّ ابنها الطفلَ يصيرُ الحاكمَ وهي الوصيّةَ عليها، وهذا الأمرُ نفسُه [أي الصراع على الحكم بين نساء القصر –حرائرَ وجوارٍ- لمصلحة أبنائهنَّ- ظلَّ يتكرّر، من بداية دخول المسلمين إسبانيا إلى لحظةِ خروج آخرِهم منها: فحين كانت غرناطة آخر معاقل المسلمين في أوروبا على وشك السقوط في أيدي الفرنجة، كان الأميران الأخوان غير الشقيقَين، يتقاتلان على الحكم [هذه اللحظات المفصليّة صوّرها أمين معلوف بدقّة في روايته “ليون الأفريقيّ”]…

من مظاهر الترف قصّة الرميكيّة التي لم تكن قبل أن يهواها المعتمد بنُ عبّاد سوى جاريةٍ من الغسّالات اللواتي يغسلن الثياب للناس على النهر بأجرٍ معلوم، رأت مرّةً وهي سيّدة القصر في دار الإمارة في إشبيلية نسوةً من العامّة يطأنَ وهُنَّ حافيات، فاشتهت المشيَ فيه، فأمرَ المعتمدُ، فسُحِقتِ الطّيوبُ وذُرّتْ في ساحةِ القصرِ حتّى عمّتْه، ثمّ نُصِبَتِ الغرابيلُ، وصُبَّ فيها ماءُ الوردِ على أخلاط الطيب، وعُجنتْ بالأيدي، حتّى صارت كالطين، وخاضَتْه مع جواريها…

إذا تركنا السياسةَ والصراعَ والمؤامراتِ، ونشوءَ الدولِ وسقوطها، وإذا تجاوزنا الحديثَ عن الترف والدّعةِ، وما يستتبع ذلك، فإنّ المرأةَ الأندلسيّة في تلك البلادِ الجميلةِ البعيدةِ، مختلفةٌ اختلافًا جذريًّا عن المرأةِ المعاصرةِ لها في المشرق، التي ظلّت على الرّغم ممّا أعطاها إيّاه القرآنُ الكريمُ من حقوق، وعلى الرغم من كلِّ ما وصل إليه العربُ والمسلمون من رقيٍّ وحضارةٍ في العصر العبّاسيّ، خاضعةً لأعرافِ البداوةِ وتقاليدِها الممسِكَةِ بأعناقِ العربِ، والقابعةِ في تلافيفِ أدمغتهم، والمسيطرةِ على عقولهم.

الأندلسيُّ والأندلسيّة، نتاجُ أعراقٍ متباعدة، فرجالُ الجيلِ الأوّلِ من العربِ الفاتحين تسرّوا أو تزوّجوا إسبانيّاتٍ أو بربريّاتٍ، فوُلِدَ جيلٌ ليس عربيًّا محضًا، ولا بربريًّا ولا إسبانيًّا، فضلًا عن أهل البلادِ الذين أسلَموا، وانخرطوا في المجتمع الجديد، وتوالَتِ الأجيالُ المختلِطةُ الأعراقِ، تعيش في مجتمعٍ لا تُعشعِشُ فيه أعرافُ البداوةِ وتقاليدُها، التي حَجَبَت وجهَ الإسلامِ الحضاريّ. رجالُ الطبقة الأرستقراطيّةِ وحدَهم كانوا يحاولون تقليد الأرستقراطيّةِ العربيّةِ في المشرق، أمّا الطبقة الوسطى وعامّة الناس فأمرهم مختلف…

التعليم هو الذي جعل الأندلسيّةَ مختلفةً عن المشرقيّة. لقد كان تعليم البنات شائعًا لدى الأندلسيّين بمختلِف طبقاتهم، وكان يُسمح للبنات أن يتعلَّمن في تلك المدارس كالصِّبية: القرآن الكريم، واللغة، والخطّ، والأدبَ والشِّعر، والحساب…

نساءٌ يبرزن في مجال التعليم ويكونُ من تلاميذهنَّ رجالٌ مشهورون، وأخريات يُنشئنَ مدارسَ خاصّة بهنَّ لتعليم الفتيات والنساء؛ وأُجيزت نساءٌ بالإفتاء والتدريس، ومنهنّ من علَّمنَ في بيوتهنّ، ومن شاركن في السباق المحموم لاقتناء المكتبات، فكان لبعضهنّ مكتباتٌ خاصّة عامرةٌ بالمصنّفات… نساءٌ تعلّمن الطبَّ والتمريضَ ومارسنَه مهنةً، [فالزهراوي 325-404هـ/836-1013م، الطبيب الجرّاح الذي كان يقول إنّ “العلم مشاعٌ وحقٌّ لكلِّ إنسان، ولكلِّ الأجناس، وفي كلِّ الأزمان، ومَن حَجَبَ علمًا فهو في النار، ومَن احتكر علمًا أو سرًّا من أسرار العلمِ فهو في النار”، كان من بين تلاميذه نساءٌ أتقنَّ جراحةَ التوليد، وممرّضاتٌ أعدّهنّ لرعاية المرضى…[مارس بعضُ تلاميذه الجراحةَ في أوروبا سرًّا لأنّ الكنيسة يومها كانت تحرّم إجراء العمليّات وتعدّها اعتداءً على الجسد الذي خلقه الله تعالى]. ونساءٌ تبارَيْنَ في إتقانِ الخطّ، وعملنَ كاتبات في قصورِ الحكّام، أو في بيوتهنّ يقصدهنّ الناسُ ليكتبْنَ لهم العرائضَ لقاء أجر…

أمّا الفقيهات وحافظات القرآن الكريم، فكنّ كثيرات، وقد بولغَ بتعدادهنَّ حتّى قيل إنّ ستّين ألف حافظةٍ كنّ في أنحاء الاندلس، ترفعُ كلُّ واحدةٍ منهنّ قنديلًا فوقَ بيتها في الليل إشارة إلى أنّ هنالك حافظةً، تمييزًا لها من غيرها.

ليس من حقِّنا أن نقارن على سبيل السخرية بين هؤلاء النسوة وبين صاحبات الرايات في العصر الجاهليّ (ومنهنّ سميّة أمُّ زيادِ بنِ أبيه)، لكنْ من حقِّنا أنْ نقارن بينهنّ وبين المسلماتِ العربيّات في المشرق قديمًا وحديثًا، اللواتي لم ينعَمْنَ بالحقوق التي منحها لهنّ القرآن الكريم عمليًّا، لأنّ العلاقاتِ الاجتماعيّة بمعظمها كانت وظلّت خليطًا من الفهم القِشريّ للدين، ومن التقاليد والاعرافِ السابقةِ على الإسلام.

إنّ كثرةَ الفقيهات والمكانةَ التي بلغتها المرأة في مجال الفقه وحفظ القرآن الكريم وتعليمه، هي التي نبَّهتِ الأندلسيّين إلى التساؤل حولَ عَلاقةِ المرأةِ بالنّبوّةِ، وأوقعتِ الجدلَ بين الفقهاءِ القرطبيّين في هذه المسألة، وهذا ما أشار إليه ابنُ حزم، الذي يعترف هو نفسُه أنّ النساءَ هنّ اللواتي علَّمنَه القرآن الكريم واللغة، وأبى أنْ يقبل إطلاقَ الحديثِ القائل بنقصانِ الدين والعقلِ في المرأةِ في كلِّ الأحوال، وقال: “…إنّنا بالضرورة ندري أنّ في النساء مَن هنّ أفضلُ من كثير من الرجال، وأتمُّ دينًا وعقلًا، غير الوجوه التي ذكر النَّبيّ”.

في الأندلس، كان النساء يشاركن في الصلاة في الجوامع في مقاصيرَ خاصّة.

اللافتُ بالنسبة إلى مكانة المرأةِ في الاندلس، أنّ “المرابطين” و”الموحّدين” على الرّغم من تعصّبهم الدينيّ والمذهبيّ، كان للمرأةِ لديهم منزلةٌ خاصّة بسببِ أصولهم البربريّة، وفي عصرهم ظهرت قصائدُ في مدحِ النساء، تدلّ على ما كان لهنّ من سلطةٍ واسعةٍ في الحياة الإداريّة والاجتماعيّة؛ يقول الأعمى التطيلي مادحًا إحداهنّ:

مليكةٌ لا يوازي قدرَها مَلِكٌ

أنثى سما باسمها النادي وكم ذكرٍ

وقلّما نقصَ التأنيثُ صاحبَه

كالشمس تصفرُّ من مقدارِها الشُّهبُ

يُدعى كأنَّ اسمَه من لؤمِهِ لَقَبُ

إذا تُذُكِّرَتِ الأفعالُ والنَّصَبُ

***

ويقول ابن خفاجة في مدح أخرى:

تُنمى إليه من الحرائر حرّةٌ

مشهورةٌ في الفضلِ قِدمًا والنهى

تُغني بسؤدُدِ ذاتِها أن تنتمي

والجودِ شهرةَ غُرَّةٍ في أدهمِ

وكما حاولتِ المرأةُ أنْ تخرج من تبعيّتِها الاقتصاديّةِ المفروضة عليها مستغلّةً ثقافتها للعملِ في الكتابةِ أو التعليم، أو الإفتاء، استخدمَتْ موهبتها الشعريّةَ سببًا من أسباب الرزق: تعمل في القصر معلّمةً للنساء، أو كاتبةً للأمير، وفي الوقت نفسِه تمدحُه مطالبةً بحقٍّ لها، أو مطالبةً برفع الحَيفِ عن بلدتها، أو إقالة والي بلدتها المرتشي [فصل الشواعر].

بلغت إحدى الشواعر من الشهرة والاحترام، انْ صار الناسُ يقصدونها لتسطّرَ لهم شيئًا من شعرها على أوراقٍ يحملونها ويحتفظون بها. وشاعرةٌ يتمنّى والدُها أن يكونَ أخوها مثلها… وأخرى تناظرُ الشعراءَ وتهاجيهم، وولّادة تجعل صالونَها الأدبيَّ مجمعًا للأدباء وللشّعراء…

مع ذلك فإنّ المادّة الشعريّة التي جمعناها من مختلِف المصادر، لا تفي بالغرض، وإنّما تُعطي فكرةً عامّةً عن كثرة الشواعر، وعن المواضيع التي تطرّقنَ إليها في أشعارهنّ. والسبب؟

إنّ مؤرّخي الأدب، المرتبطين بالأرستقراطيّة الحاكمة في معظمهم، لم يدوِّنوا شعرَ النساء كلَّه أو بعضَه، كما أنّهم لم يدوّنوا الأدبَ الأندلسيَّ الشعبيّ، الذي لم تصلنا منه سوى الأزجال القليلة…

إنّ ذوق مؤرّخ الأدب وذوق الذين احتفظوا بكتابهِ مخطوطًا طيلةَ قرون، أو نسخوا عنه نسخةً خاصّةً بهم، هو الذي ساهمَ في حفظ النصوص أو ضياعها. هذا بالنسبة إلى الأدباء بصورة عامّة، أمّا بالنسبة إلى النساء بصورةٍ خاصّة، فقد كان للمؤرّخين الذين ألّفوا كتبَهم بعد سقوط الأندلس جزئيًّا أو كلّيًّا، أيْ في مرحلة الإحباط، والتقوقع على الذات، والتعصّب الدينيّ مقرونًا بالجهل موقفٌ خاصٌّ جدًّا. يقول أحدهم عن ابن الأبّار صاحب كتاب التكملة لكتاب الصلة لابن بشكوال: “إنّه أكثرُ المؤرّخين تورّطًا في الخطأ، لأنّه ذكر في كتابه نساءً تُنزَّهُ الصحفُ عن تسويدها بذِكرِهنّ مع أهلِ العلمِ الذين هم خواصُّ عبادِ الله، نستعيذُ باللهِ مِن إعمالِ القلمِ في ذكر واحدةٍ منهنّ، ونرى الإعراضَ عنه دِينًا… إنّها لعثرةٌ لا تُقال، وزِلّةٌ لا تُغتفَر، وسيّئةٌ لا تكفير لها، وكبيرةٌ يجب المتابُ منها والإقلاع عنها” [فصل الشواعر]. وبعضُ المؤرّخين الذين ذكروا الشواعرَ، لم يذكروا كلَّ ما قالته الشاعرةُ، فالضبّيّ المتوفّى سنة 599هـ/1203م، حين يذكر إحدى الشواعر يقول: “أنشدني بعضُ أصحابنِا لها شعرًا، لا أذكره الآن”. وفي معظم الكتب ذُكرت أسماء شواعر أو نسبتهنّ من دون أنْ يُذكرَ بيتٌ واحدٌ لهنّ. حتّى القليل الذي وصلنا من شعر النساء، نقله المؤرّخون بعضهم عن البعضِ الآخر، من دون إضافات، وأحيانًا مختصرين الأخبارَ الأولى. وهنالك عددٌ من الشواعر ذُكرت لهنّ بعض الأبيات، من دون ذكر انتمائهنّ أو تاريخ ولادتهنّ… من اللافت أنّ المصادرَ القديمة متّفقة كلّها على أنّ الشاعرة حفصة بنت حمدون الحجاريّة، إحدى شواعر القرن الرابع الهجريّ/ العاشر الميلاديّ، أوّل أندلسيّةٍ تقول الغزلَ، وأنّها شاعرةٌ مكثرة، مع ذلك لم يذكر صاحبُ المـُغرِبِ الذي قال عنها “إنّ لها شعرًا كثيرًا، وإنّ بلدها يفخرُ بها” سوى أربعة أبيات، أمّا ابنُ الأبّار فقد اكتفى بالقول “إنّها كانت أديبةً عالمةً شاعرةً” ثمّ ذكرَ لها بيتَين فقط.

الشاعرتان اللتان وصلنا من شعرهما أكثر من غيرهنّ من الشواعر هما ولّادة وحفصة الركونيّة، وذلك لأسبابٍ أوّلها أنّ عددًّا من الذين ذكروا ولّادة، قد ذكروها في سياق الكلام على حبيبها الشاعر ابن زيدون، وذكروا من شعرها ما كان موجّهًا إليه، وما وصلنا من شعرها يقلُّ عن مدى شهرتها. أمّا حفصة الركونيّة فقد أحبّها الوزير الشاعر أبو جعفر بن سعيد، أحدُ الذين ساهموا في كتابة المـُغرب في حِلى المـَغرِب، أحد أهمّ مصادر الشعر الأندلسيّ – وقد دوّنَ أخباره وأخبارها – وعنه نقلَ المؤرّخون الآخرون الذين تحدّثوا عنها.

آخر الكلام أنّ النساء الأندلسيّات اللواتي كان الفرنجة يسبونهنّ كلّما سقطت مدينةٌ من المدن الأندلسيّة، حملنَ معهنّ إلى أوروبا بعضَ مظاهر الحضارةِ العربيّة-الإسلاميّة في الأندلس. أمّا العائلات التي هربت إلى مدن السهل التونسيّ ومراكش، على الرّغم من أنّهم كانوا لا يختلفون في مظهرهم الخارجيّ عن السكّان الأصليّين، ظلّت عاداتهم داخل منازلهم أندلسيّة، لا سيّما احترامهم للنساء اللواتي كنّ كما يقول المؤرّخون يشاركنَ في المناقشات العائليّة.

أحببتُ أن أضعَ هذه المادّةَ في متناول الطلّاب والباحثين والباحثات، تغنيهم عن العودة إلى بطون المؤلّفات، وفي الوقت نفسه، تتيحُ لهم إجراء مقارنات واستنتاجات وتحليلات، وربّما تأليف رواية أو روايات، أو مسرحيّة أو مسرحيّات، يتداخلُ فيها الماضي والحاضر والتاريخ والأدب وغيرهما من العلوم الإنسانيّة.

اترك رد