مئة عام على رحيل الرائدة النهضويّة مريانا مرّاش (*)

miriana

feather_pen 111 د. كرم الحلو

في العام 1919 رحلت الرائدة النهضويّة مريانا مرّاش بعد مُعاناةٍ قاسية مع الدّاء العصبيّ الذي تمكَّن منها في سنوات حياتها الأخيرة، فأَورثها الضيق والمَلل والانقباض، حتّى أنّها كانت تفضِّل الموت على الحياة، كما روى لي حفيدها الأديب الحلبي فتح الله أسيون في منزله في حلب في العام 1979. فمَن هي هذه الرائدة التي لم تُنصفها الدراسات الفكريّة، حتّى أنّ الأديب اللّبناني مارون عبّود، في كِتابه “روّاد النهضة العربيّة الحديثة”، أغفلَ إسهاماتها النثريّة، الثريّة المضمون والتوجّهات في فِكرنا العربي الحديث؟ في أيّ إطارٍ تاريخيّ جاءت إنجازات مريانا الثقافيّة وأيّ رؤى وتطلُّعات طَرحتها على المرأة العربيّة في زمنٍ كانت لا تزال فيه هذه المرأة أسيرة الجهل والتقاليد، محرومة حتّى من أبسط حقوقها الاجتماعيّة والإنسانيّة؟

في حلب التي لعبت دَوراً مُميّزاً في النهضة العربيّة الحديثة، حيث تتَّفق المَصادِر التاريخيّة على ريادتها في اللّغة والأدب والفكر والانفتاح على الغرب، وُلدت مريانا في العام 1848، ونَشأت في كنف عائلة نبيلة عريقة في الآداب والعلوم، اعتبرها فيليب طرازي في منزلة اليازجيّين والبَساتِنة في لبنان. فوالدها فتح الله كان في طليعة الدّاعين إلى الأنظمة الدستوريّة في العالَم العربي. وأخوها فرنسيس، اعتُبر بحقّ طليعة اللّيبراليّين العرب، ورائد حقوق الإنسان في الفكر العربي، فضلاً عن كونه أديباً وشاعِراً وروائيّاً ومُجدِّداً في اللّغة. وأخوها عبد الله عُرف بمقالاته الثوريّة في الصحف العربيّة في لندن وباريس، ووصَفه الشيخ إبراهيم اليازجي بـ ” كَوكب المَشرق الطالِع في سماء المغرب”. أمّا مريانا، فقد بادَرت، وهي لمّا تبلغ الثانية والعشرين من العمر، إلى الخوض في مُعترك الفكر والثقافة، جَنباً إلى جنب مع الروّاد الأوائل، وكانت أوّل سيّدة عربيّة أَنشأت مقالة في مجلّة أو جريدة، والكاتِبة الأولى التي نَشرت أفكارها في الصحف العربيّة، وفقاً لفيليب طرازي في كِتابه “تاريخ الصحافة العربيّة”.

عندما كَتبت مريانا مقالتها الأولى “شامة الجِنان” في مجلّة “الجِنان” للمُعلِّم بطرس البستاني في عامها الأوّل في آب (أغسطس) 1870، كان العالَم العربي يرسف في ظلامٍ يكاد يطبق على مَشرقه ومَغربه؛ فالكُتب في حلب كانت حينذاك عزيزة الوجود لا يحصل عليها إلّا القليلون، كما يذكر الأب لويس شيخو في كِتابه “الآداب العربيّة في القرن التاسع عشر”. وذَكر جون باورنج، الذي قدم إلى بلاد الشام في العام 1838 لدراسة حالة البلاد، أنّه لم يَجِد بائع كُتب في دمشق ولا في حلب، ولم يكُن للصحف والمجّلات أدنى وجود قطّ. أمّا حياة المرأة، كما يصفها المُستشرِق الروسي ز. ل. ليفين، فكانت كلّها مقتصرة تماماً على الوسط المنزلي، وكان عقلها غارِقاً في أسر الجهل والخرافات، وكانت اهتماماتها الروحيّة فارغة، حتّى بالقياس إلى حياة الرجل الروحيّة الهزيلة. كما أنّ فكرة دونيّة المرأة كانت واسعة الانتشار في كلّ الأوساط الاجتماعيّة والطائفيّة، مقرونةً في بعض الأحايين بنَظرةٍ بالِغة العنف في عدائها للمرأة، إذ لم يكُن مسموحاً لها، على الرّغم من إقرار أكثر مُتنوِّري النهضة بضرورة تعليمها، تجاوُز قدر محدود في التربية المُناسِبة لقصورها، ولكونها المُربيّة. حتّى أنّ دراسة الكُتب المُقدَّسة كانت وقفاً على الرجال فقط.

وعلى الرّغم من الخطبة التي أَطلقها المُعلِّم بطرس البستاني في تعليم النساء في العام 1849، ظلّت الديار الشاميّة، كما يذكر جورج أنطونيوس في كِتابه “يقظة العرب”، تهمل تعليم البنات إهمالاً يكاد يكون شامِلاً، وبقي تعليمهنّ حتّى سبعينيّات القرن التاسع عشر في نِطاقٍ محدود جدّاً. وعلى الرّغم من انفتاح مصر على الغرب منذ بدايات القرن التاسع عشر، لم تنشأ أوّل مدرسة لتعليم البنات في مصر حتّى العام 1873 .

أوّل صالون أدبيّ في الشرق

في مقالتها الأولى “شامة الجِنان” حضّت مريانا مرّاش بنات جنسها على الاقتداء بالغرب، حيث أقبلت النساء على دراسة العلوم والصنائع كالرجال، وأصبحن يُمارسن الأعمال العقليّة والتجاريّة. فطالبت بالاقتداء بهنّ ” بالقوّة حتّى إذا ما اضطّرنا الحال وساعدتنا الظروف نكون أكفّاء أن نقوم بذواتنا”. وتختم مقالتها مُخاطِبةً هؤلاء: “هلمّ بنا نتسابق في ميدان الآداب والمَعارف ولا نصغي لما اقترف به علينا بعض المُغرضين بنَفيهم عنّا صلاحيّتها. ألم نكُن فطرنا من جبلة الرجال، ولو كنّا أضعف بنية. ففينا نفس الاستعداد لقبول ما يقدَّم لنا وتطبيعنا عليه، فيا لغُبننا إذا لم نَرفع عقولنا ونوسِّع أفكارنا لكي نأخذ رتبة ومَقاماً في الهيئة الاجتماعيّة، ونستميل العقلاء بآدابنا وتهذيبنا”.

وأَتبعت مريانا “شامة الجنان” بمقالة أخرى في “الجنان” بعنوان: “الربيع”، حيث قالت مُخاطِبةً نساء عصرها: “ها شجرة التمدُّن التي يُقدِّمها لنا العصر ذات العلوم والمَعارِف، فلنمدّ لها أيدينا ولنُعانقها مُقتطفين من أثمارها وأزهارها …هذه هي الذخيرة الحقيقيّة التي لا تفنيها السنون”.

ولم تكتفِ مريانا بالكتابة في مجلّات عصرها، بل حوَّلت منزلها إلى صالونٍ أدبيّ هو “أوّل صالون أدبي في الشرق العربي بمفهومه الحديث” كما يذكر سامي الكيّالي. كان أدباء عصرها ومثقّفوه يجتمعون فيه، يتطارحون الشعر ويتكلّمون في الآداب والعلوم والاكتشافات الحديثة. وكانت مريانا في هذه المَجالِس تعزف على القانون وتُغنّي بصوتها الرخيم، فيما كان مطرب العصر باسيل الحجّار يُطرِب الحاضرين بالقدود الحلبيّة .

كان من روّاد صالون مريانا، جبرائيل دلّال شاعر قصيدة “العرش والهَيكل”، وقد وصَفَها بـ” الفريدة اللّطف ذات الصون والحُسن والذكاء والبدائع، والتي زانها الكمال إذا زان سواها الحلي وسدل البراقع”. وكان من هؤلاء نصر الله الدلّال كاتِب رسالة “مِنهاج العِلم”(1865)، والأديب قسطاكي الحمصي، الذي اعتَبرَ منزلها “مثابة الفضلاء ومُلتقى الظرفاء”، واستفاضَ في الحديث عن أوصافها ومزاياها، فهي ” شعلة الذكاء، فصيحة الخطاب، ألمعيّة الجواب، يكاد يعصر الظرف من أعطافها، تحنّ إلى الألحان والطرب حنينها إلى الأدب … وكانت مليحة القدّ، رقيقة الشمائل، عذبة المَنطق، طيّبة العشرة، عصبيّة المزاج”.

فضلاً عن إنجازاتها الصحافيّة والثقافيّة، أَصدرت مريانا ديوان شعر في العام 1893 بعنوان “بنت فكر”، حدَّدت في مقدّمته مَقاصدها التنويريّة بقولها: ” بِنت فِكرٍ قد خَرجَت من الخباء وعلى وجهها برقع الحياء تلتمس من مُطالعيها أن يحيّوها بالسلام، لأنّها تروم التعاضُد والتساعُد مع بني جنسها لتسرح وإيّاهنّ في هذا الميدان للوصول إلى شجرة الفوائد التي تحمل دُرراً فيلتقطن الفرائد ويحلّين جيدهنّ بها”.

هذه الإنجازات الثقافيّة التي اضطلَعت بها مريانا تؤكِّد التزامها بقضيّة المرأة العربيّة في عصرها وتطلُّعها إلى إخراجها من جَهلها وضعفها، وتحريرها من القيود المفروضة عليها، وحثّها على الانخراط في حركة الحداثة والتنوير. وهذا بالذّات ما يشي به تكرار كلمات الغرب والعصر والتمدُّن والتهذيب والعلوم والآداب في مقالاتها، وهي كلّها كلمات مفتاحيّة تُعبِّر عن روح العصر الذي كان يُلهِم روّاد النهضة العربيّة الحديثة .

على الضدّ من مارون عبّود

خلاصات واستنتاجات يُمكن الخروج بها على هامش السيرة الثقافيّة لهذه الرائدة النهضويّة التي لا تزال شبه مجهولة، حتّى لدى شريحة كبيرة من المُثقّفين العرب والمُهتمّين بفكر النهضة العربيّة. وليس أدلّ على ذلك ممّا ذكره أحمد أصفهاني، في كِتابه “روز أنطون، كاتِبة نهضويّة مجهولة” (2018)، في أنّ المرأة الأولى التي كَتبت مقالاً في مجلّة “الجنان” في العام 1871، هي السيّدة وستين مسرّة، مع أنّ مريانا سبقت مسرّة إلى الكِتابة في “الجنان” في العام 1870 .

أوّل هذه الخلاصات والاستنتاجات أنّ المرأة العربيّة لها إسهاماتها الإيديولوجيّة في فكر النهضة العربيّة، وأنّ الجانب الشعري لا يشكِّل سوى وجه من هذه الإسهامات، على الضدّ ممّا ذَكره مارون عبّود من أنّ أدب الرائدات كان شِعراً فقط .

وثانيها أنّ ثمّة دَوراً تنويريّاً لا يُمكن إغفاله، لعبته المرأة العربيّة في الحضّ على التعليم والتثقّف والمُساواة الإنسانيّة في الحقوق والواجبات، من مريانا مرّاش إلى وردة اليازجي ووردة الترك وروز أنطون وميّ زيادة، ما يُدرِج المرأة العربيّة في عداد بُناة نهضتنا الحديثة .

وثالثها راهنيّة ما طرحته الصحافيّة العربيّة الأولى مريانا مرّاش في سبعينيّات القرن التاسع عشر، في العقد الثاني من هذا القرن الحادي والعشرين؛ إذ لا تزال أميّة النساء العربيّات هي الأعلى في عالَمنا، ومُشاركتهنّ في النشاطات الاقتصاديّة والثقافيّة هي الأدنى، فضلاً عن تعرُّض المرأة العربيّة للعنف والتمييز في الحقوق في المجالات كافّة. الأمر الذي يؤكِّد أنّ المَعركة التي فتحتها الرائدة النهضويّة والصحافيّة العربيّة الأولى مريانا مرّاش لا تزال مفتوحة وراهِنة .

****

(*)كاتِب في الشؤون الفكريّة والنهضويّة- لبنان.

(*) نشرة أفق الإلكترونية – 90 -مارس 2019.

اترك رد