بقلم: د. رفيف رضا صيداوي
الكلام على العلاقة الجدلية المتينة بين الاقتصاد والسياسة ليس بجديد، وأي سياسة اقتصادية، لا تعدو كونها، كما هو معروف، جزءاً من الاقتصاد السياسي الذي يشكّل مرجعية صنّاع القرار السياسي في انتقاء وتحديد أفضل السبل لتحقيق أهدافهم. وبالتالي، فإن الاختلالات ـ بما فيها مشكلة البطالة ـ التي تسود أسواق العمل في العالم بعامة، والعالم العربي بخاصة، لا تتحدد حلولها في الاقتصادي وحده، نتيجة خضوع السياسات الاقتصادية لنفوذ السلطة السياسية، سواء في نطاق الدولة الواحدة أم في نطاق دول العالم قاطبة.
أفاد “التقرير العالمي للأجور (الأجور والنمو العادل) 2012/2013″ الصادر عن منظمة العمل الدولية إلى تراجع اتجاهات نصيب العمالة من الدخل في العالم عموماً، بحيث تراجع متوسط أنصبة العمل مثلاً، في مجموعة تضمّ 16 اقتصاداً من الاقتصادات النامية والناشئة، من نحو 62% من الناتج المحلي الإجمالي في بداية التسعينيّات من القرن الماضي إلى 58% قبل الأزمة الاقتصادية العالمية مباشرة. فيما أشار التقرير نفسه إلى ارتفاع معدلات البطالة على مستوى العالم بمقدار 27 مليون عاطل منذ بداية الأزمة المذكورة، ليصل إجمالي عدد العاطلين عن العمل إلى نحو 200 مليون أو 6% من قوة العمل العالمية، وخصوصاً بطالة الشباب.
في المقابل، يسجل الوطن العربي أعلى نسبة بطالة للسكان العاملين وتحديداً الشباب. وقد ردّ “تقرير عالم العمل 2013″، الصادر كذلك عن منظمة العمل الدولية الأمر إلى معدل البطالة لدى الإناث الذي يبلغ 17.4%. إلا أن تأمل أسباب ظاهرة البطالة هذه في إطارها العربي لا بدّ أن يقودنا إلى تأمل ارتباطها بعدد من المؤشرات ذات الصلة بالاقتصاد الكلّي، منها:
أولاً: تركّز الناتج المحلّي على قطاع الخدمات، حتّى أن حصة الزراعة من الإنتاج تراجعت من نحو 7% خلال النصف الأول من التسعينيات إلى 6.4% خلال النصف الثاني من العقد 2000، فيما ارتفعت حصة الخدمات من الإنتاج إلى 38% خلال الثمانينيات و40% في بداية العقد 2000 ، و43% في العام 2009 (الأرقام مستقاة من تقرير “نظرة جديدة إلى النموّ الاقتصادي”، منظمة العمل الدولية، 2013). لكن مع ضرورة الإشارة إلى أن غالبية الخدمات هذه هي ذات قيمة مضافة متدنية، وأن الاستثمارات غالباً ما تتركّز في عددٍ قليل من القطاعات الاقتصادية، مثل التعدين والطاقة والبتروكيماويات وقطاع العقارات والسياحة وغيرها. بحيث اجتذب قطاعا التعدين والعقارات- بحسب التقرير نفسه- ثلثي إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر بين العامين 2003 و2010 ؛ هذا بالإضافة إلى محدودية هذين القطاعين على صعيد الاستخدام. ويعزو التقرير المذكور فشل المنطقة العربية في الاستثمار إلى “عدم ملاءمة الظروف الاقتصادية الكلية التي أعاقت الاستثمار في الأصول الثابتة وحالت دون نمو الإنتاجية”، فضلاً عن أن القطاعات التي كانت بمثابة قاطرة للنموّ “عادت بالفائدة بشكل أساسي على حفنة من المستثمرين لأن تحويل المنشآت الحكومية إلى خاصة تمّ لمصلحة المقربين من الحكم”.
ثانياً: ميل بنية الصناعات التحويلية في المنطقة العربية إلى المنتجات ذات القيمة المضافة المتدنية، مع تراجع وزن الصناعة عن مستواه كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي (“نظرة جديدة إلى النموّ الاقتصادي”).
ثالثاً: فشل الإصلاحات (المواكبة للخصخصة)، في حالات عدّة، في ضمان تكافؤ الفرص في الاستخدام أو الوصول إلى الأسواق والموارد والبيئة التنظيمية المحايدة لصالح الأفراد والأعمال.
رابعاً: المعوقات التي تواجه القطاع الخاص، والتي تتجلّى بشكل عام في عدم استقرار الاقتصاد الكلّي وعدم الاستقرار السياسي وانتشار الفساد وارتفاع الضرائب، ناهيك بتضخّم القطاع العام، والذي جعل حصة الأجور من الناتج المحلّي الإجمالي في الدول العربية الأعلى في العالم (9.8 %) مقارنةً بالمتوسط العالمي وقدره 5.4%، وارتفاع حصة القطاع العام من إجمالي الاستخدام مع بداية هذا القرن إلى نحو الثلث في سوريا و22% في تونس و35% في الأردن ومصر، مقابل ارتفاع حصة القطاع العام من الاستخدام في القطاع غير الزراعي وبلوغها 42% في الأردن و70% في مصر.
خامساً: العجز الغذائي، بحيث أشار خبراء عرب في مجال الأمن الغذائي، خلال مؤتمر “الاستثمار في الأمن الغذائي العربي: ما هي متطلبات تعزيز دور القطاع الخاص”، الذي استضافته الخرطوم خلال الفترة 20-21 أيار (مايو) 2013، إلى إن الدول العربية بحاجة إلى استثمارات بنحو 144 مليار دولار في إنتاج الأغذية حتى العام 2030، حتى تكون قادرة على توفير المتطلبات الغذائية لشعوبها، في ظل الارتفاع الكبير المتوقع للسكان العرب خلال العقدين المقبلين، وإلى أن تدنّي المساحات المخصّصة للمحاصيل الزراعية في الوطن العربي، والافتقار إلى مياه الري، وغير ذلك من المتغيرات ستؤدّي إلى رفع معدلات هذه الفجوة، مع العلم بأن استيراد المنطقة العربية لاحتياجاتها من الغذاء يتراوح ما بين 50 و90%، فيما توقع خبراء في المؤتمر نفسه أن ترتفع فاتورة استيراد الأغذية للمنظومة الخليجية فقط، بنسبة 105% ( 53 بليون دولار) بحلول العام 2020؛ وهذا مع ضرورة الإشارة إلى أن تقرير “مراقبة أسعار الغذاء” للبنك الدولي كان قد أشار في ربيع العام 2011 إلى أن حدوث زيادة بنسبة 10% في الأسعار العالمية للمواد الغذائية يمكن أن تدفع 10 ملايين شخص آخرين تحت خطّ الفقر المدقع البالغ 1.25 دولار أميركي للفرد في اليوم. أما لو ارتفعت الأسعار بنسبة 30% فقد يؤدّي ذلك إلى سقوط 34 مليون شخص آخر تحت خطّ الفقر.
لعلّ هذه المؤشرات المذكورة وغيرها، بالإضافة إلى تبعية الاقتصادات العربيّة واعتماد نموّها اعتماداً كبيراً على متغيّرات خارجية، تشكّل عوامل أساسية، لا بل بنيوية، في عدم تحوّلها- أي هذه الاقتصادات- من اقتصادات مبنيّة على الريع إلى اقتصادات ذات قدرة تنافسية في الأسواق العالمية. وهذا ما يعيق بالتالي تأثير الاستثمارات على النموّ الاقتصادي تأثيراً إيجابياً واستحداث فرص العمل.
وما ارتباط البطالة بعدم تنوّع القطاعات الاقتصادية ذات القيمة المضافة العالية، وبمعدلات الفقر المرتفعة، والخلل القائم في في مجال الإنفاق العام، وارتفاع نسبة التشغيل في القطاع غير المنظّم، والتي تقدّر بحسب المصادر المختلفة ما بين 61% و70% من إجمالي التشغيل في الدول العربية، والبطء في نشر التطبيقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يقدّمها مجتمع المعرفة…إلخ، وما ارتباط البطالة بهذه المؤشرات كلّها إلا دليل على اختلالات في استراتيجيات التنمية- في حال توفّرت مثل هذه الاستراتيجيات- المرتبطة ليس بالسياسات الاقتصادية القائمة فحسب، بل بالنهج الذي تستند إليه هذه السياسات، وهو النهج السياسي الخاضع لفرضيات الليبرالية الغربية وأحكامها ولمؤسسات التمويل الدولية التابعة لها، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ومن هذه الفرضيات أن الخصخصة هي الحلّ السحري لكلّ المشكلات الاقتصادية بما في ذلك مشكلات القطاع العام والمديونية وما شابه، وأن تحفيز القطاع الخاص وإشراكه في العملية الاقتصادية من شـأنه النهوض بالاقتصاد الكلّي، وأن تخفيض الضرائب يشجّع الاستثمار الداخلي، وأن الحدّ من الفقر يكون عبر توفير الحدّ الأدنى من الحماية الاجتماعية للفئات الأكثر فقراً…إلخ؛ قد تكون هذه الفرضيات وغيرها، والتي لم تعد بفرضيات نتيجة ترجمتها إلى سياسات اقتصادية، ذات فعاليّة، غير أن تبنّيها الآلي، كيقينيّات، من قبل البلدان العربية في إطار “عولمة عبثية”(والتعبير لجورج قرم)، وبما يلبّي أهداف السياسة النيوليبرالية، هو الذي يجعل من تلك العناصر المذكورة معيقة للنهوض الاقتصادي والتنموي، ولاسيما بعدما أنتجت “الشمولية الفكرية النيوليبرالية” ديكتاتورية السوق العالمي الخالي كلياً من الضوابط(جورج قرم، حكم العالم الجديد).
فمع أهمية دور القطاع الخاص، قد لا ينبغي التغاضي عن سلبياته الناتجة عن علاقة مزدوجة تتحدّد أولاها بدوره التبعي للشركات المتعددة الجنسيات، فيما تتحدّد ثانيتها بإشكالية عامة تتمحور حول مدى شمولية تقديمات القطاع الخاص في ظلّ التكتلات الاحتكارية وسيطرة عامل الربح، ناهيك بأن التجربة قد أثبتت أهمية القطاع العام، ولاسيما في الأزمات، في إنعاش الاقتصادات المحلّية.
ومع أهمية تخفيض الضرائب لتشجيع الاستثمار الداخلي لا بدّ من تأمل أحوال البلدان التي استمرت سياسات الضرائب المرتفعة لديها (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا مثلاً) في اجتذاب كم من الاستثمارات الأجنبية بلغت قيمتها بين عامي 1990 و2008 على التوالي 2557 مليار دولار و1205 مليارات و883.5 ملياراً، فيما لم تتجاوز هذه القيمة في بلدانٍ ذات الضرائب المنخفضة أو في تلك التي أزالت إلى حدّ كبير الضرائب عن الاستثمارات الأجنبية (مثل مصر والمغرب وتونس)، بضع عشرات البلايين من الدولارات كل سنة (الأرقام مستقاة من كتاب حكم العالم الجديد)؛ ومع أهمية الحدّ من الفقر عبر توفير الحدّ الأدنى من الحماية الاجتماعية للفئات الأكثر فقراً، لا بدّ من التساؤل عن جدوى هذه التأمينات في ظلّ استمرار عدم ضمان وصول مختلف أنواع الخدمات الاجتماعية إليها، وفي ظلّ عدم المساواة القائمة بين المناطق والطبقات والأفراد، والتي لا تعوق الحدّ من الفقر فحسب، بل النموّ أيضاً…
أسئلة كثيرة تقودنا من الاقتصادي إلى السياسي إذاً، حيث يغرق الجميع، من سياسيّين وصنّاع قرار وأصحاب نفوذ وما شابه، في نعيم السياسة النيوليبرالية وسياساتها غير المشجّعة على بناء قدرات إنتاجية بل المشجعة على مزيد من الريع والاحتكار لجني الأرباح الكبيرة، ودائماً في إطار اقتصاد ريعي يستند إلى المساعدات الخارجية، والخضوع خضوعاً شبه مطلق للمتغيّرات
****
مؤسسة الفكر العربي ، نشرة أفق
كلام الصور
1- مؤتمر “الاستثمار في الأمن الغذائي العربي:
2- البطالة في العالم العربي
3- نقص الغذاء