…بحثا عن مكانة له في مجتمعه وبين أهله، كرجل هام يشد إليه الأنظار، كأصحاب الفيلات، التي تقابل مسكنه الطيني.. تقام الحفلاتُ والولائم من أجلهم ، يُعرفون بأصحاب ربطات العنق الحمراء، يملؤون فراغ المدينة صخبا بموسيقاهم المرتفعة في أغلب أيام السنة.
من أجل ذلك امتهن لعبة المتاهات والأرقام الصعبة والفواصل المعقدة.
-الغموض هو الوسيلة الوحيدة التي تجعلني رجلا مميزا.. !
احتار أبوه في تصرفاته الغريبة، وهو الذي عرفه الناس بالرجل العاقل، الهادئ.. تنطق الأحجار ولا ينطق هو..
-أي ريح مستك يا ابني.. ورمت عليك هذا الجنون..
هكذا يحدث أبوه نفسه وهو في لحظة شرود..
أخرج دراهم معدودات، هي من أعماله الشاقة لعام مضى، من كيس يتوسده في لياليه الحزينة مع حلمه الكبير، وهو يصارع نفسه اللوامة، محاولا تسلق جبل الشهرة التي يبحث عنها من بدايات صباه، كان يقول لأمه قبل وفاتها:سأصبح رجل أعمال مهماً يشار إليه بالبنان، يقبل الناس يديه !..فتبتسم ضاحكة من قوله وهو لا يكاد يُبين..
اشترى لباسا يليق بالفخامة والتميز، من أرقى محل للألبسة، يدخله لأول مرة، دون أن ينسى ربطة العنق الحمراء.
خرج صباحا رافعا رأسه، مبرزا صدره، يمشي مشية مختلفة ، أخذت وقتا طويلا لتكون كما يريد؛ لا يسلم على أحد، كصاحب المقاولة الذي كان يشتغل عنده، يكثر الناس من تقبيل يديه..
جلس في زاوية من مقهى عصري، وضع رجلا على رجل، طلـب مشروبات غير تقليدية، دفع ثمنها بسخاء، وترك الباقي للنادل الذي تعجب من تصرفه غير المعهود، لكنه انفجر ضاحكا بعد انصرافه مباشرة، وقد ترك سيجارته تحرق نفسها ..منتحرة بعد ذهول !
في منتصف النهار، دخل مطعما فاخرا. اختار طاولة تقابل النافذة المطلة على الشار ع الكبير ، طلب مأكولات غالية الثمن.. الزبائن ينظرون بحسد إلى طاولته التي عليها ما يكفي عائلة كبيرة من طعام. الأطفال ينظرون بلهفة أيضا، يرمي إليهم قطع اللحم. يواصل أكله بنهم. تذكر حين كان يجتمع مع والديه على صحن واحد، يعطيانه قطعة اللحم الوحيدة ، ويغمسان خبزه في المرق ليصبح لينا يسهل مضغه، يأكل بشراهة وهو ينظر إلى عيْنيْ أمه اللتين أطبقتا على الذبول. يتوسد حجرها ليغرق في نوم عميق..
بعدما أنهى طعامه سدد ثمنه وترك قروشا للنادل الذي غضب غضبا شديدا ورمى نقوده على الأرض ،لم يلتقطها،كانت من نصيب المتسول الأفريقي (صداكا) الذي كان يتابع حماقاته باحترافية عالية..
واصل مسيرة البحث عن العظمة رغم اشتداد لهيب الحر في يوم صيفي. والناس ينظرون إليه في استغراب..مشى قليلا ثم توقف ليمسح حذاءه الإيطالي بقطعة قماش، ليزيل غبار شوارع مدينته غير المعبدة. ولكن لا أحد يبالي بحركاته ، حتى أن شيخا جاوز التسعين سقط من الضحك من أفعاله ولقبه بالمعتوه..
-هذا (الطفل) أصابه الجنون..ههه
ضاق صدره مما حدث له ، لكنه أصر على أفعاله المكشوفة رغم محاولات صديقه لمنعه.الذي تمنى لو يعود إلى حالته المعتادة فإنه جميل ومحترم بها ، ولكن للعظمة جنون؛ ينكشف أمرها بسرعة عند الفقراء الذين يحاولون أن يلبسوا لباس الغنى الضيق..
غاب عن المدينة التي تريده أن يكون لونا ثانويا في ألوانها وهي تشكل لوحة الحياة التي يحاول كثير من الناس أن يعبثوا بقوانينها، متمردين على (ابقَ كما أنت، وإلا تموت ميتة الكلاب !)..غاب مدة طويلة.. بحثَ عنه صديقُه في كل مكان دون أن يجده..
في إحدى أصباحها، وُجِد مخموراً .. يركله سفهاء القوم من خلف..و الكلاب تنبح لمشهده المخيف..
بينما غرق أبوه في دموعه لما حل به؛ فمشهد السكر لا يليق به..