“ميخائيل نعيمة وكمال جنبلاط، شاعران في معراج الصوفية” جديد الدكتورة الدكتورة ناتالي الخوري غريب، (دار سائر المشرق)، كان محور ندوة عقدت ضمن “معرض بيروت العربي الدولي للكتاب” الـ 57، وشارك فيها، إلى المؤلفة، الوزير السابق عباس خلف (رئيس رابطة أصدقاء كمال جنبلاط)، والدكتور محمد شيّا (أستاذ المنهجيات والفلسفة الحديثة في قسم الفلسفة في الجامعة اللبنانية) وقدّم للندوة وأدارها الدكتور وجيه فانوس (الأمين العام لاتحاد الكتّاب اللبنانيين)، بحضور نخبة من الشخصيات الروحية والسياسية والثقافية، وفي مقدمها ممثل شيخ العقل الشيخ سامي أبو المنى. يذكر أن الكتاب يقع في 490 صفحة من القطع الوسط، ومستند إلى أطروحة أعدتها المؤلفة وحصلت بموجبها على شهادة دكتوراه.
بداية عبّر فانوس عن سروره كون هذه الندوة فاتحة لنشاطات عديدة يقوم بها اتحاد الكتّاب اللبنانيين ضمن فعاليات الدورة 57 للمعرض، واعتبر أن “هذه الندوة ليست سوى فعل تقدير واحترام للجودة الكتابية والجهد الأكاديمي اللذين قامـت بهما المؤلفة في وضعها لهذا العمل، معتبرا إيّاه أنّه يقترب من العمل الكامل في جمعه بين الشعر والفكر. إنه كتاب يدرس الأبعاد الصوفية بمعارجها وآفاقها عند اثنين من كبار الذين تركوا بصمات واضحة على مسيرة الفكر الحضاري في لبنان”.
منبع روحي
الكلمة الأولى كانت للوزير السابق عباس خلف الذي أكد أن “المنبع الروحي عند كمال جنبلاط لا ينفصل عن مدارك الحواس والعمل السياسي والاجتماعي، إنه بمثابة اللب من الثمرة، والروح من الجسد”، وشدّد على أن هذا “التكامل والتوحّد في نظرته يتعداه إلى الوحدة، ومدى الكون والأشياء. فلا عجب، بعد ذلك، أن ترى كمال جنبلاط في خضم المعترك السياسي اللبناني والعربي والعالمي، وفي الوقت عينه، تراه الرجل المتصوف الذي يعشق الحكمة ويستقيها من مصادرها المختلفة والمتنوعة”.
خلص إلى أن كمال جنبلاط سيبقى “نموذجاً فريداً في هذا الجزء من العالم، في ظاهره وباطنه، وفي ما يتعدّى ذلك الى “العقل الأرفع” عبر مسيرة تحققه وتطلعه نحو الحقيقة الأخيرة للوجود في توحيده وتوحده، وسيبقى تراثه الضخم مرجعاً للباحثين والسالكين دروب المعرفة”.
من جهته، رأى محمد شيّا أن كتاب د. ناتالي الخوري غريب “جديد مميّز للكاتبة الشابة الواعدة بكل ما هو جاد وثمين للمكتبة العربية، وأنه مهم ومتقن، في الشكل والمضمون”. واعتبر أنه “في الشكل تقدّم المؤلفة دراسة لغوية – فلسفية منهجية مقارنة وافية للتراث الصوفي في شعر كل من المفكرين والأديبين العالميين الراحلين، ميخائيل نعيمة وكمال جنبلاط، ووفق أكثر المناهج التفكيكية والتحليلية حداثة وعمقاً. وفي المضمون، وجد الموضوع من يفهمه حق المعرفة في جانبيه، نعيمة وجنبلاط، وفي أبعاده الأدبية والفكرية والصوفية كافة”.
ضاف شيّا: “وعليه لا أبالغ إذا قلت إن الكتاب يبلغ في الموضوع الذي عمل عليه درجة متقدمة من الاتقان الشكلي والتوفيق المنهجي والإحاطة والغنى على مستوى المادة والبحث واستخلاص النتائج. باختصار، الكتاب إضافة نوعية للمكتبة العربية، نرجو أن يحالفه الحظ لجهة استقبال النقاد والجمهور. كل التوفيق للكتاب ومبروك للمؤلفة وللناشر”.
كلمة المؤلفة
وفي الختام، شكرت المؤلفة الدكتورة ناتالي الخوري غريب المنتدين والحضور، وقالت في كلمتها: “قلادتان من فكرْ على جيدِ الشعرِ، ميخائل نعيمه، وكمال جنبلاط، ودعوتا تفكّرٍ إلى ولائم حبٍّ وتقديسٍ وتكريس، وشاعران في معراج الصوفيّة.
تقرأ شعرَهما، فترقب رقصةَ قلبيهما بين قبضٍ وبسط، وقصّةَ اتّحاد بين عبدٍ وربٍّ، وأنتَ من مرْقِبِ الشاهدِ في لعبة الوهمِ والكشفِ والفهم.
تقرأ شعرهَما، فتجنحُ بالخيالِ بين المعقولِ والمحسوس، وإدراكُ الرؤيا تحوجُه إرادةٌ نابعةٌ من باطنٍ يتجاوز ُكلَّ ظاهر، بعد تحقق وعي الذات نقصَها في عالم الممكن سعيًا الى اكتمالها بما حصّلته من مكاسب عرفانيّة.
تقرأ شعرَهما، فتدخلُ في تصوّرِ التكوين، وتنتقل إلى ديمومته، وهنا خطرُ الفصلِ والوصلِ بين الناسوت واللاهوت، بين الاعتراف بمحدوديّة الكثيف والاضمحلال الحتمي للأنا وبين توهّجه باحتوائه العقل اللطيفْ، شعلة قدسيّة تمثّل أسرار التجليّ الإلهي.
لماذا العمل النقديّ في شعر ميخائيل نعيمه وكمال جنبلاط معا من دون أدبيّاتهما الكثيرة؟
لأنّ الشعر الصوفيّ بشكل عام يخاطبّ كلَّ إنسان مهما كان دينه وجنسه وعمره وعرقه وثقافته، ويلقى صداه في مناجاة كل إنسان ربّه، لأنّه يحرّك لديه توقَ العودة الى المحبوب الاوحد.
ولأنّ النصَّ الشعريَّ الصّوفيّ لديهما، تحديدًا، هو صلاةُ وجدٍ لحظةَ تجلٍّ وسجدةُ عقلٍ آن تعالٍ، وشطحُ خيالٍ بين حضور وغياب، عند حافّة المرتجى والمنتهى…وما قول- النفّري:”كلّما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة”، إلّا عجز الوصف عمّا- يفوق الوصف، أوان انخطافٍ لا تجسّده لغةٌ رسمًا ووسمًا…بل طلب عون بألغاز وأحاج ورموز، تبقى دون تحليق النفس ويبقى الخوف من الوقوع في خطأ المستوى الكينوني للفهم، من هنا قول -الحلّاج، “من لا يفهم إشاراتنا لا تعنيه عباراتنا” ومن هنا تأسرُ الأحوالُ الأقوالَ كما يأسر العارفون ذوي الخَسارة بقلوبهم ويدركون العرفانَ كي لا تقع الحقيقةُ في غير موضعها..
والشّعرُ في هذا المقام، جبّةٌ…جبّةٌ لا وجود فيها لغير الله مقال،…ومرآةٌ يجد الناظرون اليها في ذواتهم فناءهم، يسبقها جنوح الرغبة إلى الحركة والحركة إلى اتّحاد الذات الفرديّة بالكليّة فتنعدم الأشكال ويتحقّق الوعي.
لتصبح قراءةُ هذا الشّعر حمّالةً أنفسًا إلى دنى من نور، وتساؤلَ ذات عن مسيرها ومصيرها في نطاق العودة من باب مصونيّة الروح إلى من منه جبلت .
وروعة هذا الشعر أيضًا في عالم التحوّلات والعصبيّات والتعدّديات، أنّه يغوص على الجوهر لسحب عصارة الفكر الوحدوي، قولًا بوحدة الأديان، وايمانًا بمبدأ التجلّي الإلهي في الأسماء والصفات.
وتتحوّل المغامرة النقديّة إلى فعل صلاة عقليّة، يهرب منها شكٌّ ليتّحدَ فيها يقين، يتبعه توكّل وتسليم، ويصبح العمل البحثيُّ بطاقةَ سفر وترقٍّ لسالكين الى جناب الحق من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام و تصويرَ مكاشفةٍ استبصاريةٍ عند شاعرين في حالٍ عرفانية قادتهما إلى رؤية الكون بعد تمزيق الحجب والأقنعة في تجاوز لحدود الحس بعد انعدام آلة الحواس، وكلّ منهما له طريقه وطريقته يجمع بينهما غنى بالله وفقر إليه”.