من ألمانيا إلى سيناء رحلات عشق لاهوتي!
“النهار” 17 شباط 2019.
في الخامس من شباط الجاري، أقفل معرض القاهرة الدولي للكتاب أبوابه، وكان افتَتَحَ في 23 كانون الثاني 2019 سنتَهُ اليوبيليّة، لمناسبة مرور خمسين سنة على انطلاقه. وقد شهدنا قبله بقليل، من 6 حتى 17 كانون الأول 2018، افتتاح معرض بيروت العربي الدولي للكتاب في دورته الثانية والستين. وقبله الصالون الدولي للكتاب في الجزائر. ومعرض تونس، ومعرض الدوحة… كما لا يزال معرض بغداد الدولي للكتاب قائمًا حتى الثامن عشر من الشهر الجاري.
بمعزل عمّا يُسجَّل من اعتراضات حول ما يواجهه أحيانا روّاد هذه المعارض من تقصير… لا يمكننا أن ننكر دورها الإيجابي في خلق حركة ثقافية ناشطة، تعكس الوجه الحضاري لبلداننا العربية، بالرغم مما تعانيه جرّاء الحروب والأزمات السياسية والأوضاع الاقتصادية السيئة. فهي تزوّدنا كل سنة بإصدارات جديدة في مختلف المجالات الثقافية: في السياسة والمجتمع والدين والفنون على أنواعها…
من بين الإصدارات الجديدة التي أُطلقت هذه السنة في معرض القاهرة للكتاب للعام 2019، تسنّى لي الاطلاع على دراسة دينيّة قيّمة، توثّق لمرحلة مهمّة جدّا في تاريخ الكنيسة، كما تروي سيرة شخصيّة من الشخصيات البارزة في التاريخ، وذلك ضمن كتاب: “فريدريك تشيندروف والمخطوطة السينائية (1815- 1874)”، للدكتور ماجد عزت إسرائيل، الصادر عن دار غراب للنشر والتوزيع – القاهرة، الطبعة الأولى 2019، عدد صفحاته 216 صفحة.
الكتاب مؤلّف من أربعة فصول وخاتمة. قدّم له كل من الدكتور عاصم الدسوقي، والأسقف العام الأنبا مارتيروس، لتأتي بعدهما مقدّمة الكاتب نفسه، المقيم في مدينة باخوم – ألمانيا، كما يذكر في ختام مقدّمته، والتي يشير فيها الى أن المخطوطة السينائيّة “تتميز بين المخطوطات الإنجيلية بأنها أقدم كتاب مقدس في العالم باللغة اليونانية، فضلاً عن أنها تتضمن الأجزاء الكاملة للعهد الجديد، وما يقرب من نصف العهد القديم”. (ص 18).
من هو فريدريك قسطنطين تشيندروف؟
إنّ عناوين الفصول، بديهيًّا، تختصر لنا مضامينها. فالفصل الأوّل المعنون “فريدريك قسطنطين تشيندروف 1815- 1874″، وهو أصغر الفصول جميعًا، يضيء على حياة اللاهوتي فريدريك تشيندروف، الذي “وُلد لوالدين مسيحيين لوثريين مؤمنين، فربياه تربية مسيحية حقيقية.” (ص 31). أجداده من موقدي الفحم وصانعي الورق. تميّز بموهبته الشعرية والأدبية. درس اللاهوت والفلسفة بجامعة لايبزيج Leipzig Univrsitat، فحصل على درجة الدكتوراه في اللاهوت عام 1840م.
تمتّع تشيندروف بشبكة علاقات اجتماعية ساعدته على اكتشاف المخطوطة السينائية؛ ولعلّ أبرز معارفه “ملك بروسيا “فريدريش فيلهلم الرابع” Friedrich Wilhelm IV (1795-1861م) الذي ساهم في تمويل رحلاته لدير سانت كاترين بسيناء” (ص 35)، حيث عثر على المخطوطة السينائية (نسبة الى مكان اكتشافها: دير سانت كاترين في سيناء)، التي خوّلته الحصول على العديد من الجوائز والميداليات والأوسمة والألقاب (أنظر الصفحتين 37 – 38).
دير سانت كاترين في سيناء
عند انتقالنا إلى الفصل الثاني، نشعر ونحن نطّلع على مضمونه، أنّنا ابتعدنا كلّيًّا عن شخصية تشيندروف، الذي لا نكاد نلمح له أثرًا فيه، بالرغم من أنّ هذا الفصل يحمل عنوان “رؤية فريدريك تشيندروف لدير سانت كاترين”. فقد خصّص القسم الأخير فقط من هذا الفصل للحديث عن رؤية تشيندروف، أما الأقسام الأولى من الفصل، فتتحدث عن شبه جزيرة سيناء، وتاريخ نشأة الرهبنة فيها (مطلع القرن الرابع الميلادي)، كما عن كيفيّة تأسيس دير سانت كاترين والطرق المؤدية إليه، وعن المكتبة التي تضمّتها جدرانه، والتي منحته هذه الشهرة.
أيضًا يضيء في هذا الفصل على الإيقونات والهدف من استخدامها، كما جاء تفصيله في رسالة وجّهها القديس نيلوس السينائي الى “أوليمبيو دوروس”، يقول فيها: “املأ الهيكل المقدس وكل جوانبه بالأيقونات التي تصور كل حوادث العهد القديم والعهد الجديد، واستخدم في ذلك أمهر الفنانين المصورين حتى يتعرف الإخوة المؤمنون الذين لا يعرفون القراءة والكتابة على فضائل الرجال القديسين الذين خدموا الله بأمانة، عندما يتأملون في هذه الأيقونات فيتذكرونها باستمرار.” (ص 70)
ثم يسرد لنا تاريخ دير سانت كاترين، الذي وضعت أساساته الإمبراطورة هيلانة، فكان تأسيسه ما بين (342-357م) على سفح قمّة جبل في سيناء، قريبٍ من جبل موسى المعروف بطور سيناء، فصار يُعرف بجبل كاترين؛ يبلغ ارتفاعه عن سطح البحر نحو 5012 قدمًا. كما يخبرنا عن سبب تسمية الدير باسم القديسة كاترين، التي قَطع رأسها الإمبراطور الروماني ماكسيموس في مدينة الإسكندرية، يوم 25 تشرين الثاني 307م (ص 72- 73).
بعد ذلك يقوم بتفصيل النظام الداخلي للدير، وعدد رهبانه جيلا بعد جيل. ثمّ ينوّه بزيارة نابوليون بونابرت له، حيث يقول: ” ونذكر للتاريخ أن نابليون بونابرت (15 آب 1769 – 5 أيار 1821 م) وهو في طريقه لغزو الشام أمر الجنرال كليبر برتميم سوره الشرقي، وكتب مرسومًا بشأن حماية للدير ورهبانه.” (ص 77) كما يشير الى بناء جامع داخل سور الدير “لتلبية متطلّبات خدم الدير المسلمين”. (ص 80)
أمّا عن مكتبة الدير فيقول، استنادًا الى التقرير الذي كتبه ألكسندر دوماس Dumas) (Alexandre سنة 1830: “تحوي مجموعة نفيسة من مئات الكتب الدينية، والأدبية، والتاريخية، مرتبة على رفوف خشبية، وليس هناك أدنى شك في أن تاريخ المخطوطات التي توجد بالمكتبة أقدم من تاريخ الدير نفسه، وهناك براهين تثبت أن الرهبان جمعوا مخطوطات قديمة منذ تشييد الدير، وبذات المكتبة تم اكتشاف المخطوطة السينائية التي جاء (كذا) تسميتها من الدير المشيد على جبل سيناء على يد اللاهوتي فريدريك تشيندروف 1859م” (ص 84). كما يفصّل أعداد وأنواع المخطوطات الموجودة في المكتبة، وذلك وفق الإحصاء الذي أجرته ما بين عامي (1949-1950م)، جامعة الإسكندرية بالتعاون مع جامعة واشنطن (ص 84-85).
في ختام هذا الفصل، يعود ليتناول موضوع عنوانه: “رؤية فريدريك تشيندروف لدير سانت كاترين”. وذلك استنادًا الى الرسائل التي كان تشيندروف يوجهها الى خطيبته – التي أصبحت زوجته، واستمرّ يراسلها خلال سفره – بدءًا ممّا ولّده لديه هذا الدير من أحاسيس، وصولا الى الانطباع الذي تركته تصرفات الرهبان وإهمالهم للمكتبة في نفسه، والذي يعطيه الكاتب صفة “الحقد على الرهبان” (ص92).
رحلات تشيندروف الثلاث
قد يكون الفصل الثالث “رحلات فريدريك تشيندروف لدير سانت كاترين 1844- 1859″، من أهم فصول الكتاب، إذ ينقل لنا تفاصيل رحلات تشيندروف الثلاثة الى دير سانت كاترين: الرحلة الأولى 1844م، الرحلة الثانية 1853م، الرحلة الثالثة 1859م. وينقل لنا بدقّة كيفيّة إيجاده للمخطوطات، وذلك أيضًا من خلال مراسلاته التي ذكر فيها تفاصيل ما جرى معه خلال رحلاته.
إنّ هذا الفصل يتميّز بالإثارة، بخاصة عند ذكر الرحلة الثالثة، حيث يصف بدقّة كيف اكتشف قبل نهاية شهر كانون الثاني 1859م، بطريق المصادفة، بعض المخطوطات الموجودة بالدير. الى أن جاء السابع من فرباير 1859م، فيما كان مرافقو تشيندروف البدو يتهيؤون لمغادرة الدير للتوجه إلى القاهرة، قام مع أمين الدير، وهو شاب يوناني الجنسية، بجولة في الدير. يقول: “في نهاية الجولة عند الغروب دعاه الأمين لتناول شيء من المرطبات (المشروبات) داخل قلايته، فدخل معه وفي تلك الأثناء أكملا حديثهما فقال أمين الدير (الربيتة)، أنه شاهد وقرأ النص اليوناني من العهد القديم أي الترجمة السبعينية، ولوقته قام وأخذ من إحدى زوايا كهفه رزمة مربوطة بقامش أحمر، وطرحها أمامه، وما إن فتح اللفافة حتى تأكد “تشيندروف” أنه وجد ضالته المنشودة، فتمالك مشاعره لكي يخفي فرحته عنه، وطلب مدّعيًا عدم الاهتمام، أخذ المخطوط لغرفته ليتصفحه، وهنا عرف قيمة الكنز الذي بين يديه… فسمح له الأمين بأخذها إلى غرفته للاطلاع عليها، فوجدها عبارة عن الصفحات الستة وثمانين من المخطوطة التي شاهدها عام 1844م، وكان مجموع الصفحات التي بين يديه 346… وجد أنها بالحجم نفسه ومكتوبة بالخط نفسه. (ص 114)
وهنا تبلغ الإثارة ذروتها، فنجد أنفسنا متشوقين لمعرفة النتائج. فيخبرنا أنه اضطر للسفر للقاء رئيس الدير في القاهرة، فوصل بسرعة قياسية، قبل أن يغادر الأخير الى القسطنطينية. ونجح في إقناعه بالموافقة على أخذ ثماني صفحات من المخطوطة في كل مرّة لاستنساخها، على مدى شهرين… وقد استغل علاقته بقيصر روسية ليقنع الرهبان بأخذ المخطوطة الى روسيا لاستنساخها وليس لإهدائها الى القيصر، فنجح في ذلك بعدما كتب رسالة يتعهّد فيها “بإعادة المخطوطة الى الجمعية المقدسة في جبل سيناء بهيئة جيدة عند طلبهم” (ص 118).
ثم يشير في الصفحة 119 الى أن قيصر روسيا وافق عام 1862 على عرض المخطوطة في وزارة الخارجية الروسية، “كإشارة على مجهولية ملكيتها”. ثم نُقلت عام 1869م – أي بعد تمويله لطباعتها – الى المكتبة العامة، “بعد أن منحها رهبان دير سانت كاترين بسيناء من خلال وثيقة رسمية لقيصر روسيا”. وهذا الأمر هو، برأي الكاتب، أكبر دليل على براءة تشيندروف من اتهام البعض له بسرقتها. كما يتوقف عند كيفيّة تجليد المخطوطة على ألواح من شجرة البلوط، التي غُلّفت بجلد الماعز (ص 122).
قيمة المخطوطة السينائية
خُصّصَ الفصل الرابع والأخير للحديث عن “المخطوطة السينائية (1844-1859)”، هذه المخطوطة التي جعلت تشيندروف من الأسماء التاريخية اللامعة. يتضمّن هذا الفصل العديد من الأحداث التاريخيّة ومواقف بعض الكتاب، من خلال ما أعلنه الناقد “هنري كراب روبنسون” حين قال: “إن عمل الروائية ماريان إيفانز… صاحبة الاسم المستعار “جورج إليوت”، قد هدم جميع العقائد التي تدور حول الخطأ والصواب والحق والباطل.” أو ما قاله الروائي جارلي كينجلسي: “لقد سلب بعض الكتاب أمثال “شتراوس” من الفقراء منقذَهم.” ليخلص الى القول: إنّ تشيندروف “كان عازفًا على تكذيب الأشخاص الذين دمّروا العالم المسيحي.” (ص141-142) ذاكرًا أسباب اكتشاف المخطوطة السينائيّة، بدءًا من اجتهاد تشيندروف وصولا الى الدعم المالي لقيصر روسيا (ص152).
أيضًا يتوقّف عند كشف تشيندروف لمزوّر شهير كان يتاجر بالوثائق والمخطوطات اسمه “قسطنطين سيمونيدس” (1820-1867)، الذي حاول أن يبيع ما زوّره (مخطوطة راعي هرماس) الى جامعة لايبزيغ، فكشفه تشيندروف (ص 167). كما يتحدّث عن بيع المخطوطات الذي كان يتم بين دولة وأخرى، معطيًا مثالاً بيع “ستالين في 1933م، المخطوطة السينائية لرئيس وزراء بريطانيا “رامزي ماكدونالد” Ramsay MacDonald 1935-1929)م) مقابل مئة ألف باوند، ونُقلت المخطوطة إلى لندن في27 كانون الأول 1933م ووُضعت في المتحف البريطاني ولا تزال حتى يومنا هذا” (ص 168).
تبريء تشيندروف من تهمة سرقة المخطوطة السينائيّة
في الخاتمة يدعو الكاتب الى “وقف الاتهامات الباطلة” ضدّ تشيندروف، متحدّثًا عن فضله في تجهيز ونشر المخطوطة السينائية المحفوظة حاليًّا بالمتحف البريطاني منذ عام 1933″، متمنيًّا “عودة هذه المخطوطة إلى دير القديسة كاترين بسيناء مرة أخرى، أو وضعها في مكتبة الإسكندرية باعتبارها أقدم مكتبات العالم.” (ص 176) مشيدًا بـ “ما قدمه تشيندروف للبشرية كلها بشكل عام وللعقيدة المسيحية بشكل خاص”، ومؤكّدًا “أن تشيندروف لم يسرق المخطوطة السينائية عام 1859م، كما اتهمه أعداؤه والمنافسين له.” (كذا) (ص 175- 176).
إنّ هذا العرض التاريخي للمخطوطة السينائيّة ولسيرة مكتشفها اللاهوتي لوبيجوت فريدريك قسطنطين تشيندروف Lobegott Friedrich Constantin Tischendorf، مع ملحق الصور الموجود في آخر الكتاب، كلّها تشكّل وثيقة حقيقيّة يمكن اعتمادها لمعرفة أبرز الأحداث المحيطة بالمخطوطة؛ كما تعكس عشق تشيندروف للكشف عن تاريخ كان ليمحى لو بقيت المخطوطة قابعة مهمَلة على رفوف مكتبة دير القديسة كاترين أو في إحدى قلاياته.
كل هذه الأمور تدفعنا للاعتراف بقيمة ما قدّمه ماجد عزّت إسرائيل، من خلال دار غراب للنشر والتوزيع. فهذا النوع من الكتب يشكّل تحفة فريدة، وثمرة مغذية للعقل والروح، تقدّمها لنا في كل موسم حدائقُ المعارض العربية للكتاب. لذا من الضروري والجيّد أن نولي كتبنا العربية العناية اللازمة، بحيث تخرج للقارئ بأبهى حلّة، فلا تشوبها شائبة؛ بالأخص أن العديد من كتبنا العربية تُطبع وتنشر أحيانًا على علاتها، من دون إيلاء أي اهتمام لأسلوبها ولغتها.