تحيّة لكِ أيّتها العروس الحاملة همومنا بمباهجها وآلامها والأفراح، على مدى الأعصر والـحقَب والأيّام. يا حافظة تاريخنا وفكرنا بشتّى ألوانه وفنونه. من رحمك خرج الينا الشعراء والأدباء والزّجالون والمبدعون، بشتّى الميادين التي يتبارى فيها الفكر الإنساني. فكنت السّفينة المحمّلة نورَ فكرٍ للعالم، من أهرائكِ يعبّ معرفةً ومن طيّ خفق أشرعتكِ يلوّحُ لاكتشاف أسرار الدّنيا، بعيونٍ تتوقُ إلى ملاقاة الفهم واستنباط مكنوزات المعارف، تنويرًا وهُدىً من بعيد!
لقد غدوتِ أيّتها العروس، بعد ردح ٍمن الانحطاط والاهمال، على أيدي مَن جلوكِ وحفظوا نضارتكِ من اللبنانيين، سمةً بارزةً من سمات مواطنيّتنا والكرامة، ليس فقط للبنانيّين، بل لشرقٍ بأسره، بواسطتك يتفاهم وبالاستناد إلى قاموس مفرداتكِ يتداول أهلُه ويلهجون، بمختلف شؤونه وشجونه والهموم.
وسندًا إلى سُنن التّطور، لقد أصابت كلّ المكتشفات ووسائل العيش الأفضل للإنسان تطوّرًا ورقيًّا. غير أنّ هاتين السّمتين أضرّتا بمفاهيم وعقول الأجيال الجديدة، يوم صاروا يعتقدون بعدم الجدوى من السّهر على لغتهم واستمرار حفظها، كي لا تطالها براثن لغات الأرض، بنهش وقضم حتّى الاندثار، جراء السّعي خلف تطوّرٍ موهوم، وهواجس تَحضُّرٍ لا يرحم ولا تُحمَد عُقباه!
فإن كان اكتساب اللغات خير سبيل للتّواصل بين مختلف شعوب المعمورة، وأمرٌ يسهّل تفاهمنا معهم، فلماذا نُفسِح لهم المجال بإهمال لغتنا وازدراء قدرتها، على مواكبة الحياة واندثارها لتراخ منّا، ما دمنا نحن مَن قيلَ فيهم «إنّهم معلّمو معلّمي العالم»!
فالهوّيـة الوطنيّة، كما يُلقّنُها المتعلّمون في التّربية الوطنيّة، سندٌ مكين للمواطن، عِماده النّسبة لأرض الميلاد، وحدة اللغة ووحدة التّاريخ. فالشّعب الذي ينتسب لأرض يصنع تاريخها. ولغة هذا الشّعب تَحفظه للأجيال ولكافّة أبناء الأرض من بعدهم، والذي مع العناصر السّابقة، يجعل من الأراضي ذات الحدود المعروفة كيانًا مُستقلاً ذات سيادة. فلماذا نطعنُ بأسمى سمات هوّيتنا، بخنجرٍ مقبضه في قبضتنا ونصلُه يُبيح دمها لأوطانٍ ليست بأعرق منّا تاريخًا ولا بأسخى منّا منابع نورٍ وتنويرٍ للفكر العالمي؟
إنّ الخطأ القاتل لحاضرنا والغد، هو الاستهتار بقدراتنا وقدرة لغتنا، على تقريب أفكارنا والقلوب، بكلّ ما تصخب به من معارف وما تضجّ من إبداعاتٍ ومشاعر! فاللّغة برأيي ركيزةٌ تشدّ أواصر التّقارب بين النّاس أكثر من الجنسيّة. لأنّ الجنسيّة إن قاربت بين مواطنٍ ومواطنٍ آخر، فاللّغة توثق وشائج القلوب وتُدني تواصل الأفكار، مِمّا يجعل دائرة التّفاهم والإفهام، تنداح من بحر البلد لتغمر محيط العرب! أوَلسنا نُميت النّفس مُجاهدةً لنعمّم معارفنا ونزيد من قدرتنا على التّواصل؟ فليكن لنا من حبّ لغتنا والعمل على انتشارها، والتّمسّك بقدرتها على نشر معارفنا، ملاذًا مبدئيّاً يودي بنا إلى الحفاظ على كرامتنا، والاعتزاز بشرف الحفاظ على لساننا العربي، انتسابًا وتداولاً، كتابةً وحديثًا، يزيد اصالتنا نقاوةً. لأنّهُ، إن تبلبلت ألسنتنا واعتورت لغتنا تأتأة ولكنات لإهمالٍ منّا، فلات ساعة مندم!
إنّ أوجع ما يضني النّفس والفكر، اعتبار معظم متعلّمينا أن اللغة العربيّة، لغةٌ بات يُمكنُ الاستغناء عنها، في زمن انتشار التّواصل العصري وطغيان لغات الشّعوب والبلدان الّتي تحترم نفسها، فتميت نفسها وراء نشر لسانها! فلماذا نعمل بأنفسنا على قطع ألسنتنا الّتي عَمرت فصاحةً وبلاغةً، لنستعيض عنها بلغاتٍ لا تحمل همومنا ولا تعبّر عن آمالنا؟ جميلٌ أن ننمو ثقافةً ونطرح أفكارنا ثمار معارف نغني بها أبجديّات الإنجازات للعالم وأهله، لكن من غير أن نتنكّر لذاتنا اللبنانيّة العربية. فلماذا لاندفع الأجنبي إلى استقدام مترجم ليفهم مقاصدنا وغاياتنا من حديثنا معه؟ كما يصرّ علينا باستقدام مترجم ينير مداركنا حول آرائه، التي بِمعظمها يفرضها علينا لنحيا عورًا إن لم نكن عميانًا عن مصالحنا وما فيه خير وطننا.
باللّه عليكم، تعالوا نحفظ عروسنا، لغة الضّاد، مجلوّةً بهية الطلّة كتابةً ونطقًا وسماعًا، إن شئنا ترسيخ الكرامة الوطنيّة في نفوس وعقول الأجيال القادمة، التي نُميت النفس لنعلّم شعبها، ونتركهم جهّالاً لأبجديّة كرامتهم!