الكتب المطبوعة تتكدّس إلى أي مصير؟

Nouhad Hayek-Jan 2019 (1)    Tnnn

يفرح القلب لدى انعقاد معارض الكتب، وتنتشي العين لرؤية عشرات الآلاف من الكتب معروضة على أرفف عشرات دور النشر. فهذا دليل على ازدهار صناعة الكلمة، حاملة عصارات الفكر والقلب والخيال والعلم، دراساتٍ وأبحاثاً ورواياتٍ وشعراً وغيرها من المؤلفات. ولكن هل هذا دليل على أن سوق الكتاب مزدهر أيضاً؟ هل هذا يعني أن إنتاج الكتب يزداد لأن توقعات المبيع مرتفعة وأن الناس يزداد إقبالهم على شراء الكتب والقراءة؟

بما أن نشر الكتاب عادة يقوم على طبع 1000 نسخة على الأقل وما فوق، وبما أن عدد النسخ المباعة بشكل عام لا يتخطى 100 نسخة (ما عدا استثناءات قليلة)، وبما أن عدد الكتّاب يكاد يفوق عدد القراء(!!!)، وبما أن إصدار الكتب أصبح أسهل بكثير من بيعها وبالتأكيد أسرع من قراءتها(!!!)، ما هو مصير الكتب غير المباعة؟ ماذا يفعلون بكل تلك الأعداد الهائلة من الكتب؟ كذلك أسأل ما هو مصير الكتب المباعة، وتحديداً المباعة في حفلات إطلاق أو توقيع الكتب، حيث يكون شراء الكتاب من باب المجاملة الاجتماعية أكثر مما هو رغبة فعلية في القراءة (مع بعض الاستثناءات طبعاً).

image4

لا أحاول هنا إجراء بحث ميداني عن هذه المسألة، خصوصاً وأنني لا تتوفر لدي إحصاءات عن الكتب التي تصدر والكتب التي تباع، ولكنني أطرح أسئلة تقضّ بالي، علماً بأنني على علمٍ بالفعل الذي يسمى “إتلاف”، ويُرهبني أن يكون هو الجواب.

وأكتفي بطرح نصٍ يتطرق إلى هذه المسألة بسخرية مُرّة، هو قصة قصيرة للكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار، بعنوان “نهاية عالم النهاية” نُشرت في عام 1962، ويمكننا أن نستوحي منها أفكاراً لمشاريع قد يصلح استخدام الكتب في تنفيذها!!!

image1 (1)

ولد الكاتب الأرجنتيني عام 1914. انتقل إلى باريس عام 1952 ليقيم فيها حتى وفاته عام 1984. عمل مترجماً في منظمة الأونسكو وسافر إلى مختلف أقطار العالم. كان كورتاثار في أدبه كما في نشاطه السياسي ثورياً. أسلوبه ساخر ذكي غرائبي ومرهف. تناول ظواهر من الحياة قد تبدو قليلة الأهمية لكنه كشف فيها عن عناصر خَفيّة تُكسبها بُعداً إنسانياً قلقاً. كتب أيضاً عن مآسي الظلم في الأرجنتين بأسلوب خرافي رمزي يصلح لوصف كل مآسي الأرض. تُرجمت كتبه إلى لغات عدّة ومنها العربية. من كتبه التي تعدّت العشرين: الأسلحة السرية؛ كل النيران النار؛ جولة حول اليوم في ثمانين عالَماً؛ لعبة الحجلة؛ الجولة الأخيرة؛ الرابحون؛ كتاب مانويل؛ الملوك؛ ديار.

arton

الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار
1984-1914

نهاية عالم النهاية

خوليو كورتاثار

ترجمة: نهاد الحايك

بما أن عدد الكتّاب ينمو باطراد، فإن القراء القليلين الباقين في أنحاء العالم سيغيِّرون مِهنَتهم ويصبحون هم أيضاً كتّاباً. وستصبح الدولة تابعةً أكثر فأكثر للكتّاب ولمصانع الحبر والورق، الكتّاب نهاراً والآلات ليلاً لطبع عمل الكتّاب. في البداية، تفيض المكتبات من المنازل، وتقرر البلديات (هنا بدأت تسوء الأشياء) التضحية بساحات اللعب لتوسيع المكتبات. ثم تتخلى عن المسارح ودُور الأمومة والمسالخ والمطاعم والمستشفيات. الفقراء يستعملون الكتب بمثابة حجارة. يجمعونها بواسطة الإسمنت، يَبنون جدراناً من الكتب ويعيشون في أكواخ من الكتب. ثم يحدث أن تفيض الكتب من المدن وتجتاح الأرياف، ساحقةً حقول القمح ودوّار الشمس. بالكاد تتمكن دائرة الجسور والطرق من إبقاء الطرقات سالكة بين حائطين من الكتب هائلين. أحياناً ينهار حائط وتقع كوارث طريقية رهيبة. الكتّاب يعملون من دون هدنة لأن البشرية تحترم المواهب، وتنتهي المطبوعات بالوصول إلى شاطئ البحر. رئيس الجمهورية يتحدث تلفونياً مع رؤساء جمهورية آخرين ويقترح بذكاء رميَ فائض الكتب في البحر، على أن ينفَّذَ ذلك على كل شواطئ العالم في آن معاً. وهكذا يرى الكتّاب السيبيريون مطبوعاتهم مرمية إلى المحيط الجامد، والكتّاب الإندونيسيون إلخ. وهذا ما سمح للكتّاب بزيادة إنتاجهم إلى حين، نظراً لظهورمساحات جديدة على الأرض لتخزين كتبهم. لم يخطر في بالهم أن للبحر قعراً وفي قعر البحر بدأت المطبوعات تتراكم، أولاً على شكل عجينة لزجة، ثم على شكل عجينة لاصقة، وأخيراً مثل سَطيحة متماسكة رغم كونها لزجة ترتفع يومياً بضعة أمتار إلى أن تلامس سطح البحر. حينئذ، بِحارٌ كثيرة ستجتاح أراضي كثيرة، ويكون توزيعٌ جديد للقارات والمحيطات، ورؤساء بعض الجمهوريات يرون أرضهم أصبحت بحيرات وشبه جزر، ورؤساء جمهوريات أخرى يرون مساحات شاسعة من الأراضي تنفتح أمام طموحهم، وهكذا. مياه البحر، المُلزَمة على الانتشار، تتبخَّر بسرعة أكبر حتى أن ربابنة بواخر الخطوط الكبرى يلاحظون يوماً أن مراكبهم تتباطأ في التقدم، ومن ثلاثين عقدة تهبط سرعتهم إلى عشرين ثم إلى خمس عشرة، والمحرِّكات تلهث، ومراوح السفن تعوَجّ. أخيراً كل السفن تتوقف في نقاط مختلفة من بحار مختلفة، عالقةً في العجينة المطبوعة، وكتّاب العالم كله يكتبون آلاف النصوص الجذلة لشرح الظاهرة. الرؤساء والربابنة يقررون تحويل البواخر إلى جزر وكازينوهات، الجمهور يذهب سيراً على الأقدام فوق بحار من كرتون نحو الجزر والكازينوهات حيث تُبهج الأوركسترات النموذجية والشعبية الجوَّ المكيَّف، وحيث يدوم الرقص حتى ساعة متقدمة من الليل.

مطبوعات جديدة تتكدَّس على الشواطئ، ولكن هذه المرة مستحيل رميُها في العجينة الرطبة، فتعلو أسوار وتولد جبال على شواطئ البحار القديمة. الكتّاب يفهمون أن مصانع الحبر والورق ستُفلس فيكتبون بخط أصغر فأصغر ويستعملون أضيق الزوايا في كل ورقة. وعندما ينتهي الحبر يكتبون بقلم الرصاص، وعندما تنتهي الورقة، يكتبون على البلاطات وألواح الأردواز إلخ. وتدرج عادةُ حشر نصٍ داخل نصٍ آخر لكي لا يضيِّعوا المسافات ما بين الأسطر، أو محو الصفحات المطبوعة سابقاً بشفرة الحلاقة، لإعادة استعمالها. الكتّاب يعملون ببطء لكن عددهم مرتفع للغاية بحيث أن المطبوعات تفصل الآن نهائياً ما بين الأراضي والبحار القديمة. على الأرض، سلالة الكتابة تعيش بشكل مؤقت، مهدَّدةً بالزوال، وعلى البحار، هناك الجزر والكازينوهات، أي عابرات المحيطات حيث لجأ رؤساء الجمهوريات وحيث تقام حفلات كبرى ويتم تبادل الرسائل من جزيرة إلى جزيرة ومن رئيس إلى رئيس ومن رُبّان إلى رُبّان.

bookn

اترك رد