بعثَ المؤرّخ الدكتور حسان حلّاق، في 6 تشرين الأول 2017، برسائل علنية إلى الرؤساء الثلاثة، عون وبرّي والحريري، يرفض فيها الاحتفالية المئوية للبنان الكبير التي ستجري العام 2020، معتبرًا أنّ الدولة الوليدة كانت صنيعة دولةٍ استعمارية هي فرنسا، وكيانًا مرفوضًا من قبل المسلمين. وشدّد حلاق على أنّ ولادة لبنان حدثت يوم استقلاله العام 1943 (جريدة اللواء)، بمعنى أنَّ “لبنان الكبير” وتاريخه تحت الانتداب الفرنسي غير شرعي،لأن أحدًا لم يأخذ برأي سكانه المسلمين الرافضين لكيان مسيحي يحصل على دعم دولة استعمارية.
وبعد شهور قليلة من تصريح حلّاق، صدرت الطبعة الخامسة لكتاب الدكتور لويس صليبا بعنوان: “لبنان الكبير… أم لبنان خطأ تاريخي!”، الذي حدّدَ المؤلف فيه هذا الخطأ بتوسيع حدود متصرّفية جبل لبنان إلى ما وراء المناطق المسيحية، وادخالِ مسلمين ومناطق إسلامية (بيروت ومدن ساحلية أخرى: صيدا وطرابلس، والبقاع، والأقضية الأربعة) ضمن الدولةِ الجديدة. فخسر المسيحيون الموارنة، بذلك، سيادتهم الديموغرافية السابقة في الجبل التي كانت قد بلغت 58% من مجموع السكان؛ لكن معظمهم اعتبر أنّ الدولة الجديدة تحقّق أمانيهم القومية، بينما رأى المسلمون الملحقون بلبنان الكبير أنّها تنتزعهم من فضائهم العربي – الإسلامي الأوسع، وتحوّلهم إلى أقلية كباقي الأقليات. فنشأ منذ ذلك الحين صراع بين مشروعين وهويتين.
وإذا كان المؤرّخ حلّاق يرى وجود “كذبة تاريخية” في إنشاء “لبنان الكبير”، أو حصول “خطأ تاريخي” في ولادته بالشكل الذي ولد فيه، وفق الدكتور لويس صليبا، فهل فكّر أحد منا يومًا، على الأقلّ خلال أزمات لبنان الكثيرة المتلاحقة وعدم الاستقرار السياسي والسلم الأهلي وسلبه سيادته على مدى قرن كامل، كما يظهر ذلك في الرسم البياني، في أنّه كان من الأفضل الإبقاء على متصرّفية جبل لبنان منفصلة عن محيطها العربي – الإسلامي، وترك المسلمين حيث كانوا في فضائهم العربي – السوري؟ وإذا كان هذا الخيار صائبًا، كما يرى البعض، فهل كان بإمكان “لبنان الصغير” أنْ يعيش من دون ضمّ السهل والمنافذ البحرية الحيوية إليه، وهو حاجة اقتصادية حيوية تكرّرت المطالبة بها منذ إنشاء المتصرّفية، خصوصًا بسبب هِجرة اللبنانيين المتواصلة، ومعاناة المقيمين منهم المجاعة خلال الحرب العالمية الأولى؟ ألا يتحمّل النظام الطائفي السياسي الذي يتغذّى من الطائفية المجتمعية أو يغذّيها ويجري التعايش في ظلّه، مسؤولية الاختلاف والاحتراب، وما آلت إليه الأوضاع وعدم تماسك “لبنان الكبير” لكي يكون، عن جدارةٍ وطنًا لجميع أبنائه، وفق نظام جديد غير طائفي؛ فيرتفع بذلك مؤشّر الاستقرار والسلم الأهلي إلى أعلى درجاته؟
تقوم فرضية البحث على أنّ لبنان الذي تأسّس العام 1920، في سياق التسويات لولادة نظام إقليمي جديد كنتيجة للحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية، لم يعرف الاستقرار والسلم الأهلي ولا السيادة الكاملة، على مدى قرن كامل، بسبب نظامه الطائفي السياسي وطائفيته المجتمعية، وتبعيّة طوائفه الخارج، وبالتالي عدم تحوّله إلى وطن حقيقي؛ فينتظره مستقبل خطير قاتم. إشارة إلى أنَّ العرض سوف يتلازم مع المؤشّر البياني لتبيان التذبذب الشديد والخطير وعدم الاستقرار في مسار لبنان حتى الوقت الراهن.
مدخل: جبل لبنان قبل العام 1842 … لا طائفية سياسية … نظام المتصرّفية
لم يعرف جبل لبنان قبل العام 1842 الطائفية السياسية، ذلك أنّ أبناءه ابتكروا معادلة اجتماعية – سياسية فريدة، قامت على الحفاظ على الطائفية المجتمعية، أي ببقاء كلُّ طائفة في قراها وبلداتها على دينها، تمجّد قيمها وتاريخها، وتطوّر ثقافتها بحرّية وبمعزل عن الأخرى، حتى في المناطق ذات الاختلاط الديني. وفي الوقت نفسه، جرى اعتماد “نظام سياسي” غير طائفي يلبّي المصالح المشتركة في ما بين الطوائف على أساس العلاقات الوظيفية والتعاون في المجالين العسكري والسياسي، أي أنّ الانقسامَ كان حزبيًا – سياسيًا وليس طائفيًا (شرف، الايديولوجيا المجتمعية، 365-376). لكن هذا النظام الاجتماعي – السياسي سقط بعد حربين داخليتين العامين 1841 و1860؛ فبقيت الطائفية المجتمعية وترسّخت، فيما حلّ نظام طائفي – سياسي تحميه الدول الكبرى محلّ النظام السياسي السابق فوق الطائفي الذي قام على النسبية الديموغرافية للطوائف في ما يتعلّق بتوزيع المناصب والسلطة، وضَمِنَ أمن المسيحيين في متصرّفية جبل لبنان وشخصيتهم وسيادتهم الديموغرافية فيه بنسبة 80%.
صحيح أنّ تلاقيًا حصل عشيّة الحرب العالمية الأولى بين المسيحيين والمسلمين من قيادات الجمعيات العربية والطلاب في باريس (المؤتمر العربي في باريس 1913)؛ من بيروت وجبل لبنان والولايات العربية ضمّ، ضمن ما ضمّ: عبد الغني العريسي ومحمد محمصاني، وشارل دبّاس وشكري غانم، وندره مطران، وعوني عبد الهادي، وجميل مردم…)، على أساس جعل العروبة قاسمًا مشتركًا للفريقين للتخفيف من وطأة الحُكم العثماني على بلاد الشام، أو على الأقل اعتماد اللامركزية في الولايات العربية (كوثراني، المؤتمر العربي)، إلا أنّ المسلمين فهموا اللامركزية بأنّها عدم الخروج عن “الرابطة العثمانية” الإسلامية، وخلطوا بين العروبة والإسلام، فكرًا وممارسة، في حين أراد المسيحيون التخلّص من الحُكم العثماني (Dawn). ثم تضافرت جهودهم معًا خلال الحرب العالمية الأولى للتحرّر من الحكم العثماني؛ فكانت ثورة الشريف حسين بن علي أبرز معالمها.
لكن نهاية الصراع الكوني شهدت افتراقًا بين الجانبين: زعامات إسلامية منشدّة بشغفٍ إلى عروبتها، تسعى إلى مشروع قومي لتوحيد بلاد الشام بقيادة الملك فيصل بن الحسين، يرى بعضها – مع قواعده الشعبية – أنّ الإسلام هو أساس العروبة، حيث اعتبر المفكّر شكيب أرسلان أنّ “العروبة وعاء الإسلام، وأنّ الإسلام روح العروبة” (ناجي). أما المسيحيون، وغالبيتهم موارنة يتلقّون الدعم من قبل فرنسا، فكانوا يريدون، وفي ذاكرتهم 400 سنة من الاحتلال العثماني كأهل ذمّة، تحقيق حلمهم الاستراتيجي القديم بإنشاء دولة قومية لبنانية منفصلة عن محيطها العربي – الإسلامي بمساحة أكبر من متصرّفية جبل لبنان، تحت شعار “الضرورات الاقتصادية”، وذلك بسبب الخوف من إسلام يزحف عليهم برداء العروبة. وكان هذا مؤشّرًا على تخلّي غالبية الموارنة عن عروبة كانوا هم جزءًا من روّادها منذ منتصف القرن التاسع عشر. فكان إعلان فرنسا إنشاء “لبنان الكبير” في الأول من أيلول 1920 يحقّق أمانيهم التاريخية في دولة مستقلة عن الدولة العثمانية ومنفصلة عن محيطها.
لبنان الكبير: تداعياتها الولادة العسيرة – انخراط إسلامي تدريجي
جعلت المتغيرات العميقة التي أتينا على ذكرها، المسيحيين والمسلمين يقفون وجهًا لوجه في الكيان اللبناني الجديد؛ فاعتبره الموارنة أنه يصون ثقافتهم وهويتهم التي رأوا أنها تتغذّى من روافد حضارية عديدة (الفينيقية والعربية قبل الإسلام، والبيزنطية والمتوسطية والغربية…)، بينما رفض المسلمون المقولة تلك، معتبرين أنّ “لبنان الكبير” يسلبهم هويتهم العربية الفريدة ويُضعف شخصيتهم الإسلامية. لذا، تطلّعوا في حينه إلى محيطهم العربي، وبخاصّة إلى سورية. ومن أسباب رفض مسلمي بلاد الشام “لبنان الكبير” والانتداب الفرنسي عليه، هو أنّ دولة الاستعمار فرنسا كانت مسيحية ومكروهة من قبلهم، لصيتها الدموي ضدَّ الثورة الجزائرية وفي المغرب العربي، وقيامها بالقضاء على الحكومة العربية في ميسلون العام 1920، وعلى الثورة السورية بين الأعوام 1925 و1927؛ فكيف إذا كانت تريد إقامة كيان مسيحي يخدم مصالحها في خاصرة سورية العربية؟ هكذا، حصل انقسام طائفي على ولادة لبنان الكبير، ما جعل نقاط انطلاقته لا تتجاوز 50 نقطة، وفق الرسم البياني.
ومن جهتها، عملت سلطة الانتداب الفرنسي على دمج الطوائف اللبنانية في الكيان الجديد لتعزيز التماسك المجتمعي – السياسي، وقامت، في الوقت نفسه، بإصلاحات تنموية في الإدارة وتعزيز قطاع الخدمات والبنى التحتية لا تزال معالمها واضحة حتى الوقت الراهن؛ حتى أنها وافقت، عشيّة الإحصاء السكاني الأول العام 1922، على أنْ يَقصّ المسلمون الراغبون الشطر الأدنى من تذاكر الهوية التي كانت ستُعطى لهم؛ حيث ذُكر نصّ على أنّ حاملها من الرعية اللبنانية (بيهم، لبنان 24). وجرى وضع دستور طائفي للجمهورية اللبنانية الناشئة، العام 1926، قيل إنّه “مؤقت”، وتعيين الأرثوذكسي شارل دبّاس، غداة إقراره، أول رئيس لها، وسط امتعاض الموارنة كونهم يمثّلون الأكثرية المسيحية. وفي العام 1934، كان الماروني حبيب باشا السعد ثاني رئيس للجمهورية. وجاء تعيين دبّاس من قبل سلطة الانتداب لرئاسة الجمهورية كونه مقبولًا من قبل الطوائف الدينية الأخرى، والأقلّ استفزازًا لها. إشارة إلى أنّ هذا الطائفي “المؤقت” في الدستور، ظلّ أساس النظام الطائفي الموروث من المتصرّفية العثمانية، واستمر خلال العهود اللبنانية، عبر “اتفاق الطائف” حتى الوقت الراهن.
وبالنسبة إلى المسلمين المقاطعين، في غالبيتهم لـ “لبنان الكبير”، أو المتحفظين عليه، فبالإضافة إلى إغراءات الانتداب لهم واسترضائهم، (تنظيم شؤون طائفتهم منذ العام 1922، وتعيين شخصية سنيّة لمنصب مفتي بيروت، الذي تحوّل إلى “مفتي الجمهورية اللبنانية” في عهد الرئيس إميل إده، وإنشاء محكمة جعفرية للشيعة العام 1926)، فقد اتسم بعض الشخصيات الإسلامية بالواقعية السياسية، وانخرط في إدارة “دولة لبنان الكبير” منذ العام 1920، وإنْ بشكل بطيء، على عكس ما يذكره بعض المؤرّخين. فكانت رؤية هؤلاء؛ ومنهم عادل عسيران ورياض الصلح وكاظم الصلح وتقي الدين الصلح، وشفيق لطفي، ويوسف الجوهري… أنّ “دولة لبنان الكبير” أصبحت كيانًا معترفًا به، وبالتالي لا يمكن التراجع عنه.
وظهر منحى انخراط مسلمين في “لبنان الكبير” بوضوح أكثر منذ نهاية العشرينيات وخلال الثلاثينيات، في مقابل دعوات من مسلمين آخرين إلى إقامة فدراليتين، مسيحية في جبل لبنان، وإسلامية في المناطق التي ضُمّت إلى “لبنان الكبير”. وسوف تتكرّر دعوات المسلمين إلى الفدرالية كلما شعروا أنَّ الأمور تسير لغير صالحهم (ربّاط، التكوين التاريخي، ج2، 619-621). وهذا يذكرنا بدعوات مشابهة للموارنة إلى الفدرالية أكثر تركيزًا منذ اندلاع الحرب في لبنان العام 1975، وما تزال متواصلة حتى الوقت الراهن (راجع موقع “لبناننا” لسامي الجميّل).
مؤشّرات على إنخراط المسلمين في إدارة لبنان الكبير
|
وبعدما انتهى مؤتمر الساحل الثالث في آذار العام 1936 إلى رفض “لبنان الكبير” من قبل المسلمين المجتمعين، والمطالبة بضمّ الساحل والأقضية الأربعة إلى سورية، انسحب فريق من المشاركين رافضًا التوقيع على المذكرة، وعلى رأسهم كاظم الصلح وعادل عسيران وشفيق لطفي. وبعد أيام قليلة نشر كاظم الصلح مقالًا صحفيًّا بعنوان “مسألة الاتصال والانفصال في لبنان”، عبّر فيه عن وجهة نظر إسلامية جديدة لصالح “لبنان الكبير”.
كاظم الصلح يفنّد أسباب القبول بلبنان الكبيرتعقييًا على إنشاء “لبنان الكبير” ورفض القوميين العرب الكيان الجديد ومطالبتهم بفصل الأقضية الأربعة والساحل عنه وضمّها إلى سورية، رأى كاظم الصلح، أحد أركان القيادات اللبنانية الشابة المؤيّدة للبنان الكبير، أنَّ هذا التوجّه سيعيد لبنان صغيرًا من جديد، وسيجعل موارنته يرتمون في أحضان فرنسا. وقال: “نحن لا نريد أنْ نبني وطنًا نصف سكانه أعداء له …لا نريد أنْ يُرغم إرغامًا فريق كبير من سكان الساحل على الانضمام إلى سورية، وطن الوحدة. فمن الخَرْقِ أنْ تُجدّد التجربة التي حصلت في لبنان، فجعلت نصف سكانه أعداء له، بل نريده، إذا كان لا بد من انضمام لبنان وملحقاته إلى الوطن السوري، أنْ يتمّ ذلك بالاتفاق والتراضي والإقناع والإيمان، بأنَّ هذا كان لخير الجميع لا لخير فريق واحد”. وختم بالقول: “… إنني لا أجد في الانفصال (لبنان عن سورية) بأسًا، ما دامت تلك القومية (العربية) تترعرع وتُصان في كلّ قطر، إلى أنْ تثبتَ لهذه الأقطار مصلحتها في الاتحاد، فتتحد”. أنطوان الحكيّم: من متصرّفية جبل لبنان، 253-54. |
لكن المعاهدة الفرنسية – السورية أواخر العام 1936، واعتراف سورية بلبنان الكبير، وضعتا حدًا لطموحات القوميين العرب الوحدوية الذين اعتبروا أنفسهم جزءًا لا يتجزأ من الشعب السوري. فبدأ المسار السياسي يتجه، منذ ذلك الحين، إلى اعتراف المسلمين الكامل بلبنان الكبير (الكيلاني، الفصل الرابع)؛ فارتفع المؤشّر إلى 55 نقطة.
وبناء على هذا التحوّل، دخلت منذ أواخر الثلاثينيات قيادات مسيحية وإسلامية من البرجوازية معًا في حوارات حول أفضل الطرق للتعايش الطوائفي، تجمعهم قواسم مشتركة ومصالح اقتصادية، أهمها العلاقات الاجتماعية بين أبناء الطائفتين، وإدراك البرجوازية المسيحية أنه من الحماقة فصل لبنان عن داخله العربي، وقد ارتبطت بمصالح تجارية ومالية مهمّة معه، وتنبّه البرجوازية الإسلامية إلى أنّ مصالح المسيحيين المتينة مع فرنسا والغرب يمكن أنْ تعود بالفائدة عليهم. وقد استمرّت تلك النقاشات حتى العام 1943، وتمحورت حول قضية واحدة، وهي التوفيق بين القومية العربية (المطلب الإسلامي)، وبين الوطنية اللبنانية الناشئة (مطلب المسيحيين الموارنة)، وهو ما سينتج عنه “الميثاق الوطني” الشفوي العام 1943. مع ذلك، فإنّ غالبية المسلمين لم يتقبّلوا وطنهم الجديد إلا مكرهين، وذلك بسبب التنافر بين هويتين لبنانية وعربية، تستند كلّ واحدة منهما إلى الدين.
موقف إسلامي رافض “لبنان الكبير”عقب تأسيس صحيفته “بيروت” العام 1935، عبّر محيي الدين النصولي فيها عن أسباب الرفض الإسلامي للبنان الكبير بالقول: “ولو فرضنا وحافظنا على الوضع الراهن (بقاء المسلمين ضمن لبنان الكبير) بحدوده التي ينصّ عليها الدستور اللبناني، فإنَّ نصف سكان الجمهورية اللبنانية غير راضٍ عن وطنه، يخنُق في صدره حبّ هذا الوطن، ويعلّم أولاده كراهيته، ويقول لهم إنهم غرباء فيه، وإنّ وطنهم الحقيقي يمتد إلى أبعد من لبنان، ويجتاز الحدود إلى ما وراءها، حيث يرفرف علم جميل له قدسيته وجماله وتاريخه وجهاده (العلم السوري)”. عصام خليفة، 9-10. |
وقد أدّت الديموغرافيا “المشاغبة”، وهي تصاعد أعداد المسلمين باضطراد، وهوية الدولة الجديدة ودستورها الطائفي، ونوعية المناصب وحجمها وتوزيعها، وانخراط المسلمين المتأخر في الإدارة، دورًا في النزاع بين المسيحيين والمسلمين. إشارة إلى أنَّ غالبية المسلمين ارتابوا بالمعاهدة الفرنسية – اللبنانية التي صدّق عليها البرلمان اللبناني في تشرين الثاني 1936، حيث لم يلحظ أي نصّ فيها المدّة الزمنية لبقاء القواعد العسكرية الفرنسية في لبنان (سيل، 359-63).
صحيح إنّ الاتجاهَ الماروني العام كان مع “لبنان الكبير”، إلا أنّ قلّة من القيادات المارونية حذّرت، في حينه، من نمو الديموغرافيا الإسلامية مستقبلًا، وبالتالي من زوال لبنان المسيحي المستقلّ؛ فطالبت بتصحيح “الخطأ” بالعودة إلى “لبنان الصغير” وزيادة، بأنْ يقتصر توسيعه على بعض المناطق الحيوية لأمنه القومي والاجتماعي، بما لا يشكّل خطرًا ديموغرافيًّا على المسيحيين، ومن هؤلاء: إميل إده، والمطران أغناطيوس مبارك، والفيلسوف سليمان البستاني وغيرهم. لكن لم يُستجب لرأيهم. وقد تسبّب رفض سلطة الانتداب الفرنسي وقيادات سياسية وروحية مارونية وصول المسلم الشيخ محمد الجسر، المنفتح على البطريرك الراحل الياس الحويك وعلى قيادات مسيحية، إلى رئاسة الجمهورية العام 1932، مدعومًا من نواب مسيحيين، بصدمة كبيرة للمسلمين، بأنّه يجري تهميشهم في “لبنان الكبير”. وقدا قامت سلطة الانتداب بتعليق العمل بالدستور وحلّ مجلس النوّاب لمنع إجراء الانتخابات الرئاسية، وبالتالي منع وصول الجسر إلى سدّة الرئاسة.
أسباب الرفض الماروني وصول مسلم إلى رئاسة الجمهوريةإنَّ وصول الجسر إلى رئاسة الجمهورية بصفته مسلمًا، رغم شخصيته المتزنة والمنفتحة على المسيحيين، وبخاصّة على البطريرك الراحل الحويك، جوبه بمعارضة شديدة من طرف البطريرك الماروني الجديد أنطوان عريضة. فضلًا عن ذلك، عارضت الترشيح قيادات مارونية روحية ومدنية مدعومة من قبل المندوب السامي الفرنسي هنري بونصو (Henri Ponsot)، بحجّة إنَّ رئاسة الجمهورية يجب أنْ تكون لماروني، وإنَّ الموارنة ينتظرون الفرصة هذه لاحتكار هذا المنصب منذ تعيين دبّاس فيه. كما اعتقدت قيادات مارونية أنَّ لبنان “الموطن المسيحي” سيكون معرّضًا للزوال في حال وصول مسلم إلى سدّة الرئاسة، وعندها سيدور، بفضل مسلميه، في فلك سورية. رباط، التكوين التاريخي للبنان، ج2، 642-43. |
من هنا، رأى فيلسوف القومية اللبنانية فؤاد أفرام البستاني “أنّ الصراع في لبنان هو سياسي وحضاري بين المسيحية والإسلام، منذ إلحاق الأقضية الأربعة” به التي أضافت إلى “لبنان الكبير” قرابة 200 ألف نسمة، جلّهم من المسلمين. وهذا ما جعل المولود الجديد يترنّح أمام الديموغرافيا الإسلامية “المشاغبة” وبالتالي من جراء الخلافات ذات الطابع الطائفي والثقافي، وباستقواء الطوائف بالخارج على بعضها بعضًا؛ فتطلّع الموارنة، في حينه إلى فرنسا، فيما مال المسلمون نحو سورية.
الميثاق الوطني واستقلال لبنان: تعزيز منسوب التعايش الطوائفي
كما سبق الذكر، فقد جرت محاولة لافتة لترتيب البيت اللبناني وكسب المسلمين إلى “لبنان الكبير” بين الأعوام 1938 و1943، وذلك بالتوافق على “ميثاق وطني” وشراكة حُكم مسيحية – إسلامية هدفا إلى التخفيف من حدّة التناقضات بين القومية اللبنانية والقومية العربية، كما على صيغةٍ طائفية لتوزيع المناصب والمراكز في رأس الدولة ومؤسّساتها على أساس الحجم السكاني لكلِّ طائفة. هذه التسوية اعتُبرت أساس “الديمقراطية التوافقية” التي سار لبنان عليها؛ لكنها كانت هشّة، إذ لم يهتمّ اللبنانيون بتطويرها، مبقين على الفروقات والاختلافات الداخلية، وليس حلّها.
الديمقراطية التوافقيةتهدف الديمقراطية التوافقية (Consensual Democracy) في المجتمعات المختلفة أو المتنوّعة، من الناحية الدينية أو العرقية أو الإثنية أو الثقافية أو اللغوية، إلى منع الأغلبية من التسلّط على الأقلية، ومنع الأقلية كذلك، من تخريب الديمقراطية ذاتها، بحجة وجود أغلبية تستبد برأيها. والتوافق هو معيار التعايش بين الطوائف، وليس حجم الطائفة العددي. فيكون التمثيل نسبيًا بدل أنْ يكون على قاعدة الأكثرية. .Hanf, ‘Die drei Gesichter des Libanonkriegs’,72
|
وفي تلك التسوية، لم تُحسم عروبة لبنان ولا خصوصيته، وبقيتا ملتبستين، عن قصد أو من دون قصد، (لبنان ذو وجه عربي) وكانت مجرد اتفاق على “التعايش” الطوائفي الذي يحمل في طياته حالتي الوفاق والنزاع. ويعود سبب ذلك إلى تقاسم السلطة على أساس النسبية الديموغرافية التي كانت تتغير صعودًا باضطراد لصالح المسلمين، وبالتالي تجعلهم يطالبون بالحاح بتقاسم جديد لها، مقابل مقولة زعيم حزب الكتائب اللبنانية بيار الجميّل بسرمدية ما أتُفق عليه في “الصيغة (Barakat, 362). وتحت مظلّة التوافق المسيحي – الإسلامي، خاض اللبنانيون معركة الاستقلال ضدَّ الانتداب الفرنسي العام 1943، موحدين بشكلٍ رائع للمرّة الوحيدة في تاريخهم، مغلبين مصلحة لبنان الوطنية على الانتماء الطائفي؛ فوصل مؤشّر الاستقرار والسلم الأهلي والنضال من أجل السيادة إلى أعلى درجاته في تاريخ لبنان خلال قرن (90 نقطة).
وبرأينا، لم تكن الفروق الطبقية والاختلافات الاجتماعية التي ذكرتُها سببًا رئيسيَّا لانسداد المسار أمام “لبنان الكبير”. وممّا ساعد على ذلك الاستقرار هو تعزيز لبنان دوره الاقتصادي والخدماتي الشرق أوسطي منذ الحرب العالمية الثانية حتى اندلاع حرب لبنان العام 1975، مستفيدًا من المقاطعة العربية للكيان الصهيوني في فلسطين بعد العام 1948. واستمر هذا الازدهار الاجتماعي والاقتصادي خلال عهد الرئيس شمعون الذي شهد حربًا داخلية قصيرة الأمد العام 1958 لم يكن لها طابعًا طائفيَّا حادًا، على الرغم من التدخّل السوري (الجمهورية العربية المتحدة) في لبنان عبر الحدود لدعم المعارضة اللبنانية ذات الغالبية الإسلامية لنظام شمعون. والجدير بالذكر، أنَّ العهد الشهابي راكم إنجازاتٍ ضخمة في الإدارة وقطاع الخدمات والتعليم، وفي الأطراف بشكلٍ خاصّ، وبالتالي امتصّ الكثير من الشكوى الإسلامية، حتى أنَّ البعض اعتبر هذا العهد مقدّمة لقيام الدولة المدنية في لبنان، بعيدًا عن العسكر والدين (سيف، الدولة المدنية).
لبنان في مهبّ الأحلاف والناصرية والمقاومة الفلسطينية – اتفاق القاهرة
في ظلّ حرية التعبير، وإعلام لا مثيل له في منطقة الشرق الأوسط، انفتح لبنان على النزاعات العربية على أرضه منذ الخمسينيات، وخصوصًا مع دخول المقاومة الفلسطينية إليه منذ منتصف الستينيات. وفي الوقت نفسه، استعر التنافس بين التيارات الأيديولوجية والانتمائية، على ثقافة لبنان وهويته وعلاقاته بالخارج. فانشدَّ المسلمون إلى الناصرية وأيدوا الوحدة المصرية – السورية العام 1958، بتظاهرات شعبية ومسيرات جرارة إلى دمشق، تسبّبت بقلق المسيحيين. ودعم المسلمون بقيادة اليسار اللبناني، أو بإمرته، المقاومة الفلسطينية للاستفادة منها والإمساك بالسلطة، والقضاء على ما يُسمّى “امتيازات الموارنة” الذين جرى تخويفهم بها، وبالتالي خسارة إنجازاتهم التاريخية، ما جعل لبنان في عهد الرئيس كميل شمعون ينجذب إلى الأحلاف الشرق أوسطية وأنْ ينضمّ رسميًّا إلى “مبدأ أيزنهاور” في آذار 1957، لحماية نفسه من الناصرية، ويتحالف، منذ اندلاع الحرب الداخلية العام 1975، تارة مع سورية (الدخول السوري إلى لبنان رسميَّا صيف العام 1976)، وتارة أخرى مع إسرائيل؛ كحزب الكتائب اللبنانية و”الجبهة اللبنانية”، وذلك لتصحيحِ الخلل في التوازن بين الطوائف الذي تسبّب به الوجود الفلسطيني المسلّح وانحيازه إلى المسلمين واليسار، وتشكيله بالتالي تهديدًا حقيقيًا للتعايش في “لبنان الكبير”.
وقد اعتبرت غالبية المسلمين أنَّ الفدائيين الفلسطينيين هم جيشهم، فأعلن رئيس الحكومة عبد الله اليافي بعد تقديم استقالته عقب الاعتداء الإسرائيلي على مطار بيروت الدولي أواخر العام 1968، عن دعمه غير المشروط للمقاومة الفلسطينية، واصفًا نفسه بـ “أول الفدائيين”. حتى أنّ مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد قال في خطاب شهير له بأنَّ الفدائيين هم “جيش المسلمين”، وطالب الحكومة اللبنانية في القمّة الإسلامية في دار الفتوى بتاريخ 22 تشرين الأول 1969 بأن تسمح بعمل المقاومة الفلسطينية على أرض لبنان (سنّو، حرب لبنان، مج، 1، 101؛ دلول 193 و196). في المقابل، اعتبر الموارنة أنَّ الجيش اللبناني هو “جيش المسيحيين” (تلفزيون أل بي سي، حلقة عن بيار الجميّل، 25 حزيران 2007) من هنا، شهدت الفترة بين 1968 و1975 تصدّي المسيحيين ومعهم الجيش اللبناني للمقاومة الفلسطينية، فيما انحاز المسلمون واليسار إلى الفدائيين.
وكان كمال جنبلاط وحلفاؤه يعلنون صراحة عن نيتِهم تغيير النظام اللبناني. وأظهر استطلاع أُجري العام 1973 بأنّ نسبة 14% من اللبنانيين كانت تؤيّد قيام حُكم عسكري أو تغيير ثوري في لبنان، ومن ضمن هؤلاء نسبة 45% من السنّة والشيعة، فيما رفضت نسبة مرتفعة من طلاب الجامعات النظام اللبناني القائم، وأيد 60% منهم الأحزاب اليسارية التي كانت تدعو إلى تغيير النظام اللبناني (هانف 165-166).
جنبلاط وتغيير النظام السياسي اللبنانيرفعت القوى اليسارية في وجه المسيحيين، وتحديدًا الموارنة منهم، شعارات إلغاء النظام الطائفي اللبناني، واستبداله بنظام عَلماني، على عكس السنّة والشيعة الذين أرادوا، على التوالي، تحسين نسبة مشاركتهم في السلطة، وتحقيق الإنماء المتوازن. وقال كمال جنبلاط خلال العام 1976: “إننا نناضل اليوم في سبيل ميثاق وطني جديد، مبني على الديموقراطية العلمانية …هكذا تنتهي مهزلة الطائفية التي تُتخذ ذريعة للاستغلال البغيض…”. رباط، التكوين التاريخي، ج2، 825. |
حتى أنَّ رشيد كرامي رفض العام 1970 أنْ يحتكر الموارنة وحدهم رئاسة الجمهورية، وسبقه إلى ذلك نائب بيروت السنّي عدنان الحكيم بترشيح نفسه مرتين للمنصب المذكور، وإنْ بشكل رمزي. فشكّل هذا تهديدًا آخر للمارونية السياسية بأنها على وشك خسارة منصبها المهيمن الحسّاس في البلاد الذي يوفر الأمان والحماية للطائفة ومصالحها ونفوذها.
فضلًا عن ذاك، تجاوزت المقاومة الفلسطينية كلَّ الخطوط الحمر الطوائفية، بعدما تحوّلت إلى دولة داخل الدولة اللبنانية، ودعمت المسلمين واليسار اللبناني في وجه الموارنة. وفي ظلّ تلك الظروف المعقّدة، وُقّع “اتفاق القاهرة” بين ياسر عرفات وقائد الجيش اللبناني إميل بستاني في 3 تشرين الثاني 1969. وقد سمح التنافس داخل المعسكر الماروني حول رئاسة الجمهورية في قبول لبنان الاتفاق. فقبل به الزعيم الكتائبي بيار الجميّل على مضض بالقول: “أنا لا أريد هذه الاتفاقية، ولكنني أريد تأجيل الحرب” (بقرادوني، لعنة وطن 127). كان الاتفاق بكلِّ المعايير، وبالًا على الدولة اللبنانية وسيادتها ومجتمعها. فما من دولةٍ تسلّم سيادتها إلى قوّة خارجية بالشكلِ الذي حصل فيه، حتى ولو كان من منظور عروبي، وتمنع، في الوقت نفسه، جيشها من التصدّي للمتطاولين على أمنها (قضية إنزال الجيش لضبط المقاومة الفلسطينية التي رفضها المسلمون). وكان ريمون إدة الزعيم الماروني الأوحد الذي انتقد “اتفاق القاهرة”، وطالب بتحييد لبنان ووضع بوليس دولي على حدوده مع إسرائيل لمنع انجرار البلاد إلى حرب أهلية من جراء دعم المسلمين واليسار المقاومة الفلسطينية (خليفة، الستراتيجيات السورية، 1993، 137).
إنّ تشكيل لبنان الحلقة الأضعف ضمن الأنظمة العربية وتعرّضه المستمرّ للضغوط الخارجية؛ وإذعانه للتسويات على حساب سيادته وتعايش طوائفه المتنافسة والمتخاصمة، جعل المسيحيين، ومعهم الجيش اللبناني، يتصدّون للمقاومة الفلسطينية بين الأعوام 1968 و1975، بينما انحاز المسلمون واليسار إلى الفلسطينيين، وجيشوا الشارع الإسلامي ضدَّ الدولة اللبنانية ونظامها الطائفي. فانخفض المؤشّر البياني لكلّ هذه الاعتبارات إلى 30 نقطة.
اتفاق القاهرة 1969 وتداعياته
التوقيع: إميل بستاني – ياسر عرفات المرجع: حكاية الأزمة اللبنانية، 21-23. |
تداعيات “اتفاق القاهرة” على لبنانشكل أول اعتراف رسمي وخطّي من قبل دولة عربية (لبنان) ببسط “منظّمة التحرير الفلسطينية” سلطتها على المخيّمات الفلسطينية عندها، وبانطلاق الكفاح المسلّح من أراضيها ضدَّ إسرائيل، بشكل مخالف لاتفاق الهدنة العام 1949… فأضحى وضع الفلسطينيين في لبنان، على عكس ما هو عليه في باقي الدول العربية، أشبه بدويلة ثورية داخل دولة مفكّكة لا سيادة لها… فأزاح الاتفاق الستار عن مشكلة الانقسام الطائفي حول هوية لبنان وسياسته الخارجية. سنّو، حرب لبنان، مج 1، 190 -193. |
الطائفية المجتمعية: تيارات راديكالية من الجانبين
إنّ ما أخاف المسيحيين ليس العروبةَ والمقاومة الفلسطينية فحسب، بل حنين بعض المسلمين وتنظيمات إسلامية إلى رؤية “لبنان الكبير” دولة إسلامية، على الرغم من مرور عقود على إنشائه. وفي مقابلة له مع الباحث والأكاديمي الألماني تيودور هانف (Theodor Hanf)، قال الأكاديمي والأستاذ في مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت الدكتور عمر فرّوخ، بعد ثلاث سنوات على انتهاء الحرب الأهلية العام 1958: “عندما يعتبر المسيحيون أنفسهم عربًا ويسلكون كعربٍ، عندئذ يتساوون معنا (المسلمين). ولكن ينبغي عليهم أنْ يتصرّفوا بالمعنى الديمقراطي، كأقلية… في السياسة تحكم الأكثرية” (هانف 451)، أي أنْ يحكم المسلمون، كأكثرية، المسيحيين، كما في أي بلد عربي آخر؛ فيفقد المسيحيون بالتالي دورهم الرائد في حُكم لبنان، ويزول عندئذ الهدف من إنشاء لبنان مسيحي، وفق الرؤية المارونية، ليكون عامل توازن مع سورية الإسلامية.
تلا كلام فرّوخ تصريح خطير آخر بُعيد اندلاع حرب لبنان، لحسين القوتلي، المدير العام لدار الفتوى، حول أحقية الأكثرية الإسلامية في حُكم لبنان، معتبرًا أنّ “الصيغة اللبنانية” (تقاسم السلطة في لبنان) هي “مسيحية وصناعة أجنبية، لأنها أبدلت حُكم الإسلام بحُكم المسيحية المارونية” (سنّو، حرب لبنان، 1، ص 597). ومع أنّ قوتلي كان “مرنًا” تجاه استئثار المسيحيين ببعض المراكز الأساسية الرفيعة، إلا أنَّ كلامه اعتُبر بمثابة إنذار للمسيحيين بتحويلهم إلى “أهل ذمة”، واستُغّل بذكاء من قبل الإعلام الماروني لتغذية العصبية ضدَّ كلّ ما هو إسلامي، وبالتالي تخويف عامّة المسيحيين من إسلام يزحف عليهم، ما جعلهم ينخرطون في مشاريع قياداتهم (التقسيم أو الفدرلة: راجع كرّاسات القضية اللبنانية)، على الرغم من عدم وجود مشروع حقيقي، في حينه، لإقامة حُكم أو كيان إسلامي. وقامت، كذلك، تنظيمات أصولية تدعو إلى أسلمة لبنان، سياسة ومجتمعًا، (حزب التحرير الإسلامي خلال الخمسينيات، وحركة التوحيد الإسلامي وحزب الله خلال الحرب).
وفي الجانب الآخر، كانت كرّاسات “القضية اللبنانية” مطلع حرب لبنان والتنظيمات الراديكالية والميليشيات المسيحية (التنظيم وحرّاس الأرز والكتائب اللبنانية والقوّات اللبنانية…)، تأخذ مواقف التعميم والكراهية ضدَّ المسلمين ودينهم، وترفض التعايش معهم، حتى أنها كانت تنزع عنهم لبنانيتهم وتعتبرهم “غرباء” وأنّ موطنهم هو الحجاز، وترى وجوب انتهاء الحرب “بغالب ومغلوب”، أي “خائن مغلوب ووطني منتصر”. من هنا، سجّل مؤشّر الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي 20 نقطة من أصل 100.
حرب لبنان ونعي الميثاق – الاجتياح الإسرائيلي 1982
ليس صحيحًا أنَّ اندلاع الحرب العام 1975 كان بسبب الشكوى الإسلامية الدائمة من الغُبن والحرمان الموجودين في الأطراف الإسلامية، أو استئثار المسيحيين بالسلطة والمناصب. فالطبقة السياسية الحاكمة من كلا الطرفين الطائفيين، كانت لها مصالح مشتركة وتحالفات فوق الطائفية، ولا تريد أنْ تفرّط فيها في نزاع داخلي. فالصحيح إنّ اندلاع الحرب يعود إلى دور لبنان في الصراع العربي – الإسرائيلي، ورغبة المسلمين المنشدين إلى عروبتهم بأنْ يضطلع لبنان بدوره العروبي إلى جانب المقاومة الفلسطينية والسماح لها بالانطلاق من أراضيه، والتسبّب تاليّا بتداعيات خطيرة على التعايش الطوائفي والأمن الوطني اللبناني. في المقابل، خشي المسيحيون على إنجازاتهم من جراء تورّط لبنان في النزاع المذكور؛ فيفقد لبنان بذلك دوره الخدماتي المميّز في الشرق الأوسط.
ومن جهة المقاومة الفلسطينية، فكان يهمّها، بعد “درس” الأردن العام 1970، ألا تقوم دولة في لبنان، ويبقى الفلتان سيد الموقف (صايغ). ومن خلال تسليم المسلمين واليسار أنفسهم ومناطقهم للمقاومة الفلسطينية، تمكّن ياسر عرفات من حُكمهم معظم مراحل حرب لبنان (عوّاد، الدعاية 1993، 161، وحاشية 1)، حتى أنّ عرفات كان يطرح في بعض مجالسه الفلسطينية السؤال الآتي: “ماذا سيكون عليه وضعنا (المقاومة الفلسطينية) لو حكمت الحركة الوطنية” (نقلًا عن: دلول، حوارات ساخنة، 78). من هنا، حافظ مؤشّر الاستقرار والسيادة في لبنان خلال هيمنة المقاومة الفلسطينية على مستواه المتدني من 30 نقطة.
ومطلع الحرب، نعت “الميثاق الوطني” قيادات إسلامية عُرفت بالاعتدال، وكانت عيون بعضها على رئاسة الجمهورية (عدنان الحكيم ورشيد كرامي)، بينما نادت قيادات مسيحية بإعادة النظر بتجربة “لبنان الكبير” كأمر ملحّ، “لأنّ لبنان الصغير لم يجنِ منه سوى الخراب والإفلاس” (لبنان الكبير مأساة نصف قرن، 24). حتى أنَّ فيلسوف “الجبهة اللبنانية” فؤاد أفرام البستاني خيّر اللبنانيين بين فدرلة بلدهم أو تقسيمه، أي
نعي المسلمين الميثاق الوطنيما إنْ اندلعت الحرب، حتى طالبت قيادات إسلامية، سنيّة وشيعية، بإلغاء الميثاق الوطني وتعديل الدستور. فنعاه صائب سلام بالقول: “إنّ زمانه قد ولّى، وإنّه أدى إلى فقدان التوازن بين اللبنانيين”، مستغربًا تشبّث المسيحيين به واعتباره ضمانة لهم”. وبدورها طالبت “جمعية متخرجي المقاصد” بالتخلّص من صيغة 1943، باعتبارها طائفية سقطت نتيجة تناحر الطوائف وتقاتلها، ورأت أنْ تستقرّ هوية لبنان على العروبة، بدلًا من مقولة “لبنان ذو وجه عربي”، وأنْ يتمّ انتخاب رئيس للجمهورية من قبل الشعب مباشرة…. أما الشيعة، فنعوا بدورهم الميثاق مركزين على الحرمان التاريخي اللاحق بطائفتهم، وغياب التنمية عن مناطقهم، وكانوا يريدون إلغاء الطائفية السياسية على المستويات كافة، وتعديل قانون الانتخاب، وإعطاء رئيسي الحكومة ومجلس النوّاب المزيد من الصلاحيات… سنّو، حرب لبنان، مجلد 1 ، ص 526 – 27. |
الإطاحة بـ “لبنان الكبير” (البستاني، ج 2، 8؛ نجم، سمير جعجع، 25). وعلى هذا الأساس، جرت عسكرة المجتمع المسيحي لحماية إنجازاته التاريخية أو الانفصال عن “لبنان الكبير” ضمن حيّز طائفي يشبه “لبنان الصغير”. فعملت “القوّات اللبنانية” على إقامة كانتون مسيحي في الحيّز الجغرافي لتواجد طائفتها (من المدفون إلى كفرشيما). لكن رئيس الجمهورية المنتخب المغدور بشير الجميّل وخَلفِه شقيقه أمين و”الجبهة اللبنانية” عادوا وراهنوا على “لبنان كبير” بدعم من سورية أولًا، ثم على إسرائيل بالنسبة إلى بشير والجبهة المذكورة. فتمكّنت دمشق، بتدخلها العسكري الرسمي في لبنان صيف العام 1976، عقب “اتفاق الخطّ الأحمر” بينها وبين إسرائيل على تقاسم النفوذ فيه برعاية أميركية، ومنع انهيار المسيحيين أمام الحلف الإسلامي – اليساري – الفلسطيني، فيما تمكنت تلّ أبيب من إعادة خلط الأوراق باجتياحها لبنان العام 1982، وتثبيت الموارنة في دفّة الحُكم. لكن الاجتياح الإسرائيلي والوصول إلى بيروت ومحاصرتها ودخولها عنوة صيف العام المذكور، كما تداعياتهما، جعل مؤشّر الاستقرار والسلم الأهلي والسيادة ينحدر بشدّة إلى 10 نقاط من أصل 100.
وخلال الحرب،أقامت الميليشيات اقتصادها الموازي، وسيطرت على الأرض، وعلى المرافئ والمرافق والموارد والمؤسّسات والإدارات، وتأثّرت القطاعات الإنتاجية والخدمالتية سلبًا، وهجرت المصارف الدولية لبنان، وانهارت الأوضاع الاجتماعية والمعيشية للمواطنين، فيما فقدت العملة الوطنية من قيمتها تدريجيَّا بشكلٍ مخيف بفعل تفاقم الأزمة المالية والمضاربة عليها، وارتفعت بالتالي مؤشرات التضخم منعكسة على أصحاب الأجور والمرتبات. ومن تداعيات الحرب، انقسام الجيش اللبناني والإعلام على نفسه، وحدوث انشطار مناطقي ولامركزية اقتصادية وإدارية، وتجهير طائفي وهجرة دافقة، وانهيار التعليم والثقافة. كما سيطرت الميليشيات، كلُّ واحدة، في حيّزها الجغرافي الطائفي، فضلًا عن ترهيب المواطنين والقتل والقنص والخطف على الهوية، واستخدام السيارات المفخّخة وراجمات الصواريخ لتحقيق أكبر الخسائر بالخصم… والأخطر من ذلك، إفشال القيادات المسيحية وبكركي التوافق الأميركي – السوري على إيصال النائب مخايل الضاهر إلى سدّة الرئاسة، ثم انقسام الحكومة اللبنانية، خلال تلك الصراعات، إلى حكومتين وجيشين متنافسين عقب انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل في أيلول 1988، وتعذّر انتخاب خلف له. فحكم الجنرال ميشال عون المناطق المسيحية من قصر بعبدا، بعدما فرض نفسه بالقوّة على الجميّل لتعيينه رئيسًا لحكومة انتقالية. فاصطدم عون بالقوّات اللبنانية في معارك طاحنة على أحادية القرار السياسي وعلى الجبايات، كانت وبالًا على المجتمع المسيحي، فيما حكم الرئيس سليم الحصّ من عائشة بكّار وفق إملاءات النظام السوري.
اتفاق الطائف 1989: سِلم أهلي وعروبة سورية زائفة
خلال العامين 1982 و1985، جلت المقاومة الفلسطينية، عنوة، عن بيروت وشمال لبنان، وفقدت تأثيرها المباشر في الحياة السياسية اللبنانية، فيما فشل “اتفاق 17 أيار” 1983 للسلام بين لبنان وإسرائيل بجهود النظام السوري وفلول ما يُسمى “الحركة الوطنية اللبنانية”، كما مشروع “الاتفاق الثلاثي” (أواخر العام 1985) الذي رعته سورية بين ميليشيات الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة أمل والقوّات اللبنانية – جناح إيلي حبيقة) لجعل لبنان تعاهديًّا أكثر خضوعًا لها. وقد تحوّل الصراع العسكري، منذ ذلك الحين، لبنانيًّا – لبنانيًّا، يغذّيه النظام السوري، حتى بين الفريق الميليشياوي الواحد (الاشتراكي ضدَّ أمل، والاشتراكي وأمل ضدَّ المرابطون، والقوّات ضدَّ القوّات، والقوّات ضدّ الجيش اللبناني الخاضع للجنرال ميشال عون…).
وبعد مرور خمس عشرة سنة من اندلاع الحرب، وسبعة عقود من ولادة “لبنان الكبير”، وُضعت تسوية جديدة بجهد خارجي لضخّ الحياة في جسده المنهك، بعدما فقد، كدولة، معظم مقوّماته المؤسّساتية والاقتصادية والخدماتية وتماسكه السياسي، حتى دوره الشرق أوسطي الفريد. صحيح إنّ “اتفاق الطائف” أعطى لبنان الفرصة لإعادة البناء والإعمار بمساعدات وقروض خارجية؛ وضخّ الحياة في مؤسّساته واقتصاده، وفتح المناطق بعضها على بعض، وأرسى قواعد دستورية جديدة لتقاسم السلطة، مما رفع منسوب المؤشّر إلى 70 نقطة… إلا أنه لم يضع البلاد، مع ذلك، على سكّة سلم أهلي دائم ومستتب، بسبب “تسليمه” من قبل العرب والمجتمع الدولي إلى النظام السوري الذي عمل على زيادة الشرخ الطائفي بين أبنائه للإمساك بلبنان بقوّة ومصّ اقتصاده مع أتباعه اللبنانيين، أو تقديم الحماية للفاسدين في السلطة (سنّو، لبنان الطوائف، الفصل الثاني) – كلّ ذلك تحت مظلّة تقاسم النفوذ فيه سرًا بين سورية وإسرائيل (“اتفاق الخطّ الأحمر” العام 1976- سنّو، حرب لبنان، مج 1، 206-210), وفي مرحلة ما بعد الطائف، “غزت” الميليشيات مؤسّسات الدولة، بفكرها الفئوي والطائفي والمذهبي ومصالحها الخاصّة وارتباطاتها الخارجية. فتراجع بذلك مؤشّر الاستقرار والسلم الأهلي والسيادة إلى 30 نقطة، كما يبدو في الرسم البياني.
وللإبقاء على جيشه محتلًا لبنان، إدعى النظام السوري في المحافل العربية والدولية، وبغطاء أميركي، أنَّ خروج جيشه من لبنان سوف يستتبعه تقاتل اللبنانيين وعودتهم من جديد إلى الحرب الداخلية. فتسبّب الاحتلال السوري وهيمنته على المؤسّسات الدستورية وغير الدستورية ببقاء مؤشّر الاستقرار والسلم الأهلي والسيادة في لبنان منخفضًا بمرتبة 30 نقطة، كما يظهر في الرسم البياني.
ومن ناحية أخرى، فإنّ جعل لبنان عربي الهوية والانتماء، وفق الطائف، تحت الإشراف السوري، لم يُتحْ للمسيحيين اختبار عروبتهم “الجديدة” المفروضة عليهم في النصوص، في ظلّ عروبة سورية منافقة ومعاهدة أخوّة نفعية وانتهازية. فكان يتمّ التلاعب بقوانين الانتخابات وتقسيم الدوائر الانتخابية وتشبيك التحالفات لمصلحة النظام السوري. وفي سبيل ترهيب المسيحيين وترويضهم وجعلهم أكثر قبولًا للاحتلال السوري، دعا زعيم حركة أمل، رئيس مجلس النوّاب اللبناني إلى إلغاء الطائفية السياسية وفق اتفاق الطائف، على الأقلّ في مناسبتين خلال العامين 1994 و2001.
إلغاء الطائفية السياسية، وفق وثيقة الوفاق الوطني“إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي… يقتضي تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تضمّ بالإضافة إلى رئيس مجلس النوّاب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية”. وتكون مهمتها “دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلس النوّاب والوزراء ومتابعة تنفيذها في مراحل”. ألبير منصور، الانقلاب على الطائف، ص 252، 258 |
بين الأعوام 1992 و2005، مرورًا بـ “قانون غازي كنعان” العام 2000، قام النظام السوري بإيصال رؤساء جمهورية من أتباعه إلى قصر بعبدا، وتعيين حكومات تبعيّة، وجعل المناصفة التي أقرّها الطائف وهمية، فضلًا عن انتهاكات بالجملة للدستور (قوانين الانتخاب والجنسية والإعلام…)، والسيطرة على سياسة لبنان الخارجية، ومصّ اقتصاده، كما نفي قياداته المعارضة له، وقيامه عبر “المحادل الانتخابية” بإفراز قوى سياسية ووزارية وبرلمانية تدور في فلكه، ما جعل البطريرك مار نصر الله بطرس صفير الذي كان أحد عرابي “اتفاق الطائف” يُطلق صرخة خلال الانتخابات النيابية العام 2005 بأنه لا يُترك للمسيحيين حرّية انتخاب نوابهم. فكانت العودة المحقّة والمؤسفة في آن العام 2009 إلى قانون انتخابات العام 1960، أي إلى دوائر أصغر أتاحت للمسيحيين تمثيلًا أفضل، لكن ليس مثاليًّا. وفي الوقت ذاته، لم يكن النظام السوري نزيهًا في رعاية “اتفاق الطائف” أو تنفيذه.
وكما سبق الذكر، أصبح زعماء الميليشيات عماد المرحلة بعد الطائف؛ فأدخلوا أعوانهم ومحازبيهم إلى الدولة ومؤسّساتها، كما ثقافاتهم القائمة على نهب الاقتصاد اللبناني بحماية النظام السوري والتبعيّة له، وذلك عبر الصفقات والمناقصات المشبوهة، والاستيلاء على المال العام، والتهريب وتجارة المخدرات والحشيشة، وبيع المواد الحياتية المدعومة من قبل الدولة اللبنانية، فضلًا عن المحسوبية الحزبية والطائفية والمذهبية… ويستمر هذا المنحى إلى وقتنا الراهن، حيث تملأ قوى الأمر الواقع الميليشياوية، في جمهورية ما بعد الطائف، دوائر الدولة ومؤسّساتها والمراكز الشاغرة أو تحشرها، بشكلٍ عشوائي من دون حاجة أو مبرّر، بحزبيين أو بأتباع طوائفها تحقيقًا لمصالحها، وفعلت الشيء نفسه باختراق التوظيف في القطاع الخاص، عبر ترهيبه، لزرع أتباعها فيه بالقوّة.
مقاومتان لبنانيتان: مسيحية للإحتلال السوري وشيعية للاحتلال الإسرائيلي – تمديد سوري لرئاسة لحود
أنَّ مهادنة المسلمين الاحتلال السوري للبنان بعد الطائف، تسبّبت بتباعد بينهم وبين المسيحيين. ويعود صمت الطائفة السُنيّة على ممارسات النظام السوري إلى الخوف منه، أو خشية أنْ يستعيد المسيحيون مركزهم المهيمن السابق الذي تمتّعوا به قبل حرب لبنان، في حال خرج عسكره من البلاد. من هنا، تأخرت مقاومتهم له إلى العام 2005، أي عقب اغتيال الرئيس الحريري. وبالنسبة إلى الشيعة، كان هناك “تحالف” بين حزب الله وحركة أمل مع النظام السوري، كلُّ على انفراد. وهذا ما جعل المسيحيين ينفردون بمقاومة الوجود السوري بعد تحرير جنوب لبنان العام 2000. فأبدت بكركي وقرنة شهوان والتيار الوطني الحرّ مقاومة عنيدة ضدّ نظام لحود – الأسد، وذلك بسبب عدم إعادة سورية تموضع وحداتها العسكرية إلى البقاع، وفق الطائف، أو الخروج من لبنان، واصطناعها حكومات لبنانية لا تجرؤ على مطالبتها بذلك، وتعاظم أنشطة استخباراتها المدمرّة على الساحة اللبنانية – هذه المقاومة المسيحية هي التي أمّنت، برأينا، صمود “لبنان الكبير” وعدم تحوّله إلى محمية سورية. وهذه المقاومة هي التي لحق بها قسم كبير من المسلمين خلال العامين 2004 و2005.
وفي المقلب الآخر، تعرّض لبنان طوال التسعينيات لاعتداءات إسرائيلية متكرّرة، وبشكلٍ خاصّ خلال العامين 1993 و1996، إلى أنْ تمكنت المقاومة الإسلامية لحزب الله آخر الأمر من إرغام الجيش الإسرائيلي على إخلاء معظم جنوب لبنان العام 2000، وإنْ بكلفة بشرية واقتصادية عاليتين. وكانت هذه المرّة الأولى التي تُخلي إسرائيل فيها أرضًا عربية عنوة بفعل مقاومة شعبية. فأضافت المقاومتان المسيحية ضدّ الاحتلال السوري والإسلامية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي رصيدًا إيجابيًا لمؤشّر السيادة لـلبنان وصل إلى 60 نقطة..
لكن هذا الصمود المقاوم، سرعان ما انتكس بتمديد الرئيس بشار الأسد رئاسة إميل لحود عنوة في أيلول العام 2004، بعد التلاعب بالدستور (تعديله)، وممارسة الضغوط على النوّاب، عدا 27 منهم رفضوا التمديد، وصفتهم جريدة النهار بالأبطال على عرض صفحتها الأولى بتاريخ الرابع من أيلول. وتسبّب التمديد بسخط عربي ودولي على النظام السوري، بدأت طلائعه بصدور “قانون محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان” (Syria Accountability and Lebanese Sovereignty Act) ) عن الكونغرس الأميركي نهاية العام 2003.
وبناءً عليه، تغيّر موقف الرئيس رفيق الحريري من بقاء الجيش السوري في لبنان، وأصبح أكثر قربًا من “قرنة شهوان” والبطريرك صفير في مطالبته باستعادة سيادة لبنان، وبأن “لبنان لا يُحكم من سورية”. وكان سبقه موقف وليد جنبلاط العام 2000، بانتقاد الوجود العسكري السوري المخابراتي (قارن بـ سنّو، لبنان الطوائف، 238-254). فكانت تلك المؤشّرات بداية النهاية لنظام الإسد – لحود في لبنان.
ردّ نظام الأسد – لحود على ما يُحاك ضدّه بتجاهل التحذيرات الأميركية والأوروبية والعربية له حول سلوكه في لبنان، وقام بمضايقة رفيق الحريري وإبعاده عن رئاسة الحكومة خريف العام 2004، والإتيان بعمر كرامي محلّه؛ فهبط مؤشّر الاستقرار والسلم الأهلي والسيادة إلى 30 نقطة. وفي 14 شباط العام التالي، اغتيل الحريري، ووُجهت أصابع الاتهام، على الفور، إلى النظام السوري، وبعدها إلى حزب الله بالوقوف وراء الجريمة.
تداعيات اغتيال الحريري: لبنان من دون عسكر سوري
صحيح إنّ اغتيال الحريري 2005 أشّر على منحى خطير لمستقبل لبنان، إلا أنّ “ثورة الأرز” التي انطلقت فور وقوع الجريمة، والتعاطف مع لبنان، عربيَّا ودوليّا، أجبر جيش الاحتلال السوري على إخلاء البلاد بإذلال أواخر نيسان 2005. فأسهمت تلك الأحداث، بارتفاع حظوظ الاستقرار والسلم الأهلي والسيادة إلى 80 نقطة، وشكّلت حافزًا أمام اللبنانيين لاستعادة “لبنان الكبير”. لكن الانقسام السياسي السريع الذي حصل بين كتلتي 8 آذار و14 آذار، بأهداف سياسية ومصالح متباينة، وانفتاح مكشوف على الخارج لكلٍّ منهما، عطّل هذا التحوّل. فتمكّن حزب الله، بسلاحه، من ملء الفراغ السوري، مدعومًا من إيران، وبالتالي من إضعاف كتلة 14 آذار تدريجيًا، فيما اجتاحت البلاد موجة من عمليات الإغتيال طالت قيادات ونوّاب في التكتل المذكور، كما إرهاب آت عبر الحدود السورية، ما أدخل “لبنانَ الكبير” وهو على بُعد سنوات قليلة من مئويته الأولى، في وضعٍ خطير: إرهاب تمكّن الجيش اللبناني من دفع خطره الآتي عبر سورية إلى داخل البلاد صيف العام 2007 (فتح الإسلام ثم بعده داعش وجبهة النُصرة، وعلى الحدود الشرقية والشمالية منذ الثورة السورية)، ولكن بكلفة بشرية باهظة بين جنوده.
وقد حصل في مرحلة ما بعد رفيق الحريري تناطح أيديولوجي وحزبي وطائفي ومذهبي إلى درجة تدمير فكرة الدولة ومؤسّساتها أو تعطيلها؛ ومصادرة قرارها، وشلّ خدماتها، فيما استشرى الفساد، وأضحى الاقتصاد ومالية الدولة على شفير الهاوية، ما أوصل مؤشّر الاستقرار والسلم الأهلي والسيادة إلى 40 نقطة.
فراغان رئاسيان– توافقات وأعراف وبدع: اللبنانيون في جلباب المحاور الإقليمية
بعد الحرب الإسرائيلية المدمرّة على لبنان العام 2006 التي أطاحت بالاستقرار والسيادة وزادت من الشكوك بين القوتين السياسيتين المتنافستين، 8 آذار و14 آذار، وانتهاء عهد الرئيس لحود الممدّد العام التالي، لم يُنتخب العماد ميشال سليمان خلفًا له، إلا عقب أحداث أيار 2008 وسيطرة حزب الله وأتباعه على العاصمة بيروت بعملية عسكرية خاطفة وسريعة. فأُجبرت حكومة الرئيس السنيورة على التراجع عن قراراتها في مسائل شبكات الهاتف لحزب الله ومراقبته مدارج مطار رفيق الحريري الدولي، ونقل العميد وفيق شقير من مركزه في المطار المذكور. وتمكنّ الحزب بموجب “اتفاق الدوحة” الذي رعته قطر من فرض معادلة سياسية جديدة في مجلس الوزراء، وهو “الثلث الضامن” أو المعطل، فشكّل ذلك أكبر انتكاسة لتكتل 14 آذار وللسياستين السعودية والأميركية تجاه لبنان (سنّو، السعودية ولبنان، ج1، 567-585).
وعلى الرغم من حصولها على أغلبية برلمانية في انتخابات العامين 2005 و2009، لم تتمكن حكومتا السنيورة، وحكومة الحريري الوحيدة، من الحُكم، إما بسبب الاغتيالات التي طاولت تكتل 14 آذار، أو لاعتكاف وزراء حركة أمل وحزب الله، أو تقديم استقالاتهم منذ نهاية العام 2006، وبالتالي تعطيل العمل الحكومي، وذلك استنادًا إلى مقدّمة الدستور: “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك” – كلُّ ذلك، في العلن، على خلفيّة التحقيق الدولي باغتيال الرئيس الحريري والمحكمة الخاصّة بلبنان وتمويلها. فتُرجمت هذه الأحداث والتطوّرات بالاعتصامات في وسط بيروت وتعطيل عمل المؤسّسات الدستورية (رئاسة الجمهورية ومجلس النوّاب)، وشلّ الاقتصاد لسنة ونصف السنة في وسط بيروت. أما المخفي، فكان موقع لبنان في صراعات المنطقة بين واشنطن والرياض من جهة وطهران من جهة أخرى، كما سياسة حزب الله بإضعاف الدولة اللبنانية لحساب دويلته، وإلحاق لبنان بدائرة نفوذ الولي الفقيه. فتحوّل لبنان إلى ساحة للبعث بالرسائل، في ظلّ العقوبات الأميركية على إيران. وبذلك، هبط مؤشّر الاستقرار والسلم الأهلي والسيادة إلى مستوى متدنٍ (20 نقطة).
لكن إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري التي تشكّلت في تشرين الثاني 2009، عبر استقالة الوزراء الشيعة العشرة والوزير الشيعي الضامن الحادي عشر عدنان السيد حسين (حصّة رئيس الجمهورية سليمان)، مطلع العام 2011، دلّ على مدى الانقسام المذهبي الخطير في البلاد. وبدأ لبنان يتأثّر منذ ذلك التاريخ بتداعيات الثورة السورية، وبنزوح مئات الآلاف من السوريين إليه، مسببين تفاقمًا للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
وفي الوقت نفسه، أُدخلت، منذ ذلك الحين، توافقات وأعراف و”بِدع” جديدة إلى الحياة السياسية اللبنانية والمؤسّسات الدستورية في أكثر من مناسبة. صحيح أنَّ “الثلث الضامن” الذي حصلت عليه المعارضة العام 2008 كان من روح الدستور، لأنَّ أي تكتل وزاري داخل الحكومة بنسبة الثلث زائدًا واحدًا يمكنه تعطيل قراراتها أو إسقاطها. لكنه استُخدم بصورة كيدية لعرقلة عمل الحكومات، كما حصل خلال حكومة السنيورة الثانية وحكومة سعد الحريري بين الأعوام 2008 و2010.
وتماديًا في ابتداع أعراف غير دستورية، طلب أمين عام حزب الله حسن نصر الله في شباط 2011 من نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة اللبنانية، بعدما رفض ذلك الرئيس عمر كرامي، وسط امتعاض سنًي، بأنْ تُقدم شخصية شيعية على تسمية رئيس الوزراء السنّي العتيد، وسط التنافر بين السنّة والشيعة نتيجة أحداث أيار 2008 وتداعياتها. صحيح إنَّ الاستشارات النيابية الملزمة، وفق الدستور، أعقبت تسمية نصر الله ميقاتي، إلا أنّ الدستور لم يشر إلى تحديد الرئيس المكلّف المنشود قبل إجراء تلك الاستشارات، كما فعل نصر الله. وكانت هذه سابقة لم يشهدها تأليف الحكومات اللبنانية بعد الطائف.
وخلال مشاورات تشكيل نجيب ميقاتي حكومته في شباط 2011، طالب الرئيس سليمان بأنْ تكون له حصّة وزارية، لأنه لم يكن له نائب في المجلس النيابي، ويحتاج إلى وجود سياسي لممارسة حدّ أدنى من سلطته. فحصل على مبتغاه، فيما رفض ذلك ميشال عون، رئيس تكتل التغيير والإصلاح، في جلسة لحزبه بتاريخ 22 شباط 2011 بالقول: “أين الحقّ الذي يعطي رئيس الجمهورية حصّة في الحكومة؟”، وأرفق سؤاله بدعوة من يريد الردّ أنْ يبرز النصّ الدستوري لذلك (نمر، حصّة رئيس الجمهورية).
ويعتبر تعطيل حزب الله الاستحقاق الرئاسي في مجلس النوّاب لسنتين ونصف السنة (أيار 2014 إلى تشرين الأول 2016)، عبر مقاطعة جلساته، ما لم يُنتخب ميشال عون، عملًا غير دستوري لم يعرفه لبنان من قبل، إذ كانت القوى المتنافسة في السابق تحضر بكلِّ ثقلها إلى الندوة البرلمانية، وتنتخب على أساس تحالفات مع القوى الأخرى. وبما أنّ حزب الله أضحى صاحب القرار، فقد أُرغمت القوى السياسية المعارضة على الإذعان لإرادته؛ فجرى انتخاب الجنرال في 31 تشرين الأول. لكن الرئيس الجديد أصرّ على حصّة وزارية عند تشكيل سعد الحريري حكومته، على الرغم من كونه أول منتقدي ذلك.
وخلال الاستشارات لتشكيل حكومة سعد الحريري العام 2018، اشترط عون، مرّة أخرى، أنْ تكون له حصّة وزارية وازنة في الحكومة المنشودة. وسوف تتحوّل “حصّة رئيس الجمهورية” الوزارية إلى عرف أقوى من الدستور، بعدما حصل الرئيس عون على أربعة وزراء له (عدا سبعة وزراء لحزبه وتكتله من ضمنهم الوزير السنّي التابع للقاء التشاوري الذي لا يصوّت في مجلس الوزراء لصالح عون) في حكومة سعد الحريري التي تشكّلت مطلع شباط 2019. وقد يفتح هذا الأمر شهية رؤساء الجمهورية المقبلين إلى المطالبة بوزراء لهم، أو بحصة أكبر، ما قد يفتح الباب أمام حدوث نزاعات مستقبلية، في ما لو توافقت القوى الأخرى على “تجريد” رئيس الجمهورية من ذلك “الحقّ” الذي لم ينصّ عليه الدستور. وعلى ما يبدو، فإنّ تجريد “اتفاق الطائف” رئيسي الجمهورية من قسم كبير من صلاحياته، جعل الرئيس عون يعمل بعد عودته إلى لبنان العام 2005 على استعادة بعضها من خلال توزير أتباع له في مجلس الوزراء، وتجييش المسيحيين وراء شعار “استعادة صلاحيات رئيس الجمهورية”.
وفي المقابل، تعمل القوى الحزبية على احتكار وزارات معينة بشكلٍ مخالف للدستور، إما بسبب موازناتها العالية أو لأهميتها في تقديم الخدمات لمحازبيها وجمهورها. كذلك الحال، فإنَّ تشكيل حكومات وحدة وطنية من الفرقاء المتنافسين، يُضعف الحياة السياسية على أساس حكومة ومعارضة، كما دور مجلس النوّاب في أن يكون رقيبًا على الحكومة وفي يده سلطة طرح الثقة بها، ذلك أنَّ القوى المتواجدة في مجلس النوّاب هي نفسها القوى الممثلة في الحكومة، ما يعني أنَّ مجلس النوّاب لن يقوم بدوره في الرقابة على الحكومة أو محاسبتها على أدائها.
إنَّ انتخاب الرئيس عون، أنهى مرحلة طويلة من التوترات السياسية، وأعطى الأمل لدخول مرحلة من الاستقرار والسلم الأهلي، فارتفع المؤشّر، لحين، إلى 70 نقطة، لكن ذلك أبان بوضوح مدى إمساك حزب الله بالقرار السياسي اللبناني. وظهر تسلّط الحزب على الحياة السياسية بفرضه قانون الانتخاب النسبي الذي جرت الانتخابات النيابية على أساسه في أيار 2018، وفرضه على الرئيس سعد الحريري تشكيل حكومة وحدة وطنية يتمثّل فيها “اللقاء التشاوري” (السنّي)، كما عدم حصول رئيس الجمهورية على الثلث المعطّل في حكومة الحريري. وبذلك، تُعتبر أوضاع لبنان، منذ اغتيال الحريري حتى مطلع العام 2019، الأسوأ في تاريخه، سياسة ومجتمعًا واقتصادًا وثقافة وعلاقات خارجية.
استنتاج: لبنان المستقبل… على حافة الانهيار؟
بسبب أزمات لبنان الاقتصادية والمالية، وعجز الموازنة، وعجز كهرباء لبنان بملياري دولار سنويًّا، ومديونيته المتضخّمة التي وصلت خلال نهاية العام 2018 إلى 86 مليار دولار أميركي، وارتفاع خدمة الدين العام إلى 5.4 مليار دولار، والعطالة من العمل، وهجرة الطاقات الشبابية والأدمغة، والتهريب عبر مرفأ بيروت ومطارها وحدود لبنان الشمالية والشرقية، والاستيلاء على الأملاك البحرية، وانتشار الفساد وسرقة الأموال العامّة، والهدر في كلّ مرافق الدولة اللبنانية ومؤسّساتها وخدماتها بكلفة تقريبية تقدّر بعشرة مليارات دولار سنويًّا، فضلًا عن التوظيف العشوائي، واهتزاز عدالة القضاء، وكذلك هيبة المؤسّسات الأمنية والعسكرية على الرغم من إنجازاتها، والأوضاع المعيشية والاجتماعية المتردية، وتأثير النزوح السوري إلى لبنان سلبًا في المجتمع والاقتصاد، فليس مستغربًا أنْ تُطلق مؤسّسة “موديز” (Moody’s) للتصنيف الائتماني تحذيرًا في شأن مستقبلً لبنان، وذلك بخفض نظرتها إليه، من “مستقرّ” إلى “سلبي”، بسبب ما يتعرّض له من مخاطر على صعيديّ السيولة الحكومية والاستقرار المالي، وبقاء البلاد حتى حينه من دون حكومة، ومن دون إصلاحات حقيقية (جريدة المستقبل، 15/12/2018).
سياسيًّا، تتحجّر المواقف وتتشنّج، ويتعاظم الشلل السياسي حتى بعد تشكيل حكومة سعد الحريري، وسط التناطح على المصالح الذاتية والوزارات، وإدخال أعراف جديدة إلى الحياة السياسية مخالفة للدستور اللبناني، كحصة رئيس الجمهورية، وتمسّك طوائف بوزارات ومؤسّسات معينة تدرّ الربح عليها أو يستفيد منها أتباعها، والمطالبة مواربة بالمثالثة أو بمؤتمر تأسيسي. فضلًا عن ذلك، يقوم حزب الله بإضعاف الدولة اللبنانية بشكلٍ ممنهج، ويُمسك اليوم بقراراتها السياسية والسيادية، حتى العسكرية في جنوب البلاد الذي يشكّل قنبلة قد تنفجر في أية لحظة، بسبب إمكان حصول صدام مباشر بين إسرائيل وإيران. وقد تُرجم الصراع السعودي – الإيراني باحتجاز الرياض رئيس وزراء لبنان سعد الحريري خلال زيارته إلى المملكة العام 2017، وإجباره على تقديم استقالته من رئاسة الحكومة احتجاجًا على سياسة حزب الله في لبنان والمنطقة. ولم يُطلق سراح الحريري إلا بتدخّل دولي. وأبانت تلك الحادثة مدى ضعف لبنان وتقاذفه من قبل الجيوبوليتيك الإقليمي. فضلًا عن ذلك، يقف لبنان الرسمي لا حول له ولا قوّة أمام استهداف الولايات المتحدة حزب الله بالعقوبات المالية. كذلك، عاد نشاط النظام السوري على الساحة اللبنانية، ساعيًا إلى التطبيع، بعد أنْ سبق وقوفه وراء حوادث التفجير في شمال لبنان قبل سنوات قليلة. وعلى خلفيات الصراعات الإقليمية، تسوء علاقات لبنان بمعظم دول الخليج العربية، حيث يعمل قرابة نصف مليون لبناني يحوّلون سنويًّا قرابة خمسة مليارات دولار أميركي إلى البلد الأم.
إن تهديد رئيس حركة أمل، رئيس مجلس النوّاب اللبناني نبيه برّي بـافتعال “6 شباط” (1984) جديد، أيقظ “وحش” التقسيم في داخل بعض المسيحيين. فرجا الوزير الكتائبي السابق شجعان قزّي الرئيس برّي بأنْ “يؤدّي لنا هذه الخدمة وينفّذ تهديداته وينقذنا من هذه الوحدة المركزية المزيفة”. وقال له: “لا تتراجع دولة الرئيس عن تصريحك (التهديد بـ 6 شباط) ولا تعتذر عنه. ما أكثر الأطراف اللبنانيين الذين يودّون أن يقوموا بـ 6 شباط ما، لينفصلوا ويعيشوا على ذوقهم، كلّ واحد ينتظر الآخر…” (قزّي، نحن في 6 شباط يومي). إنّ كلام قزّي الصريح يعني أنّ البعض يتوقع تفكّك لبنان.
وحتى بعد تشكيل الحكومة العتيدة، فلن يتغيّر شيء من مسار الانحدار، بسبب النزاعات بين القوى السياسية وارتهانها للخارج بشكلٍ غير مسبوق، كما استشراء الفساد في كل مرافق الدولة ومؤسّساتها. فلبنان بحاجة إلى تغيير نظامه السياسي. لكن نظامًا يقوم على حُكم الأكثرية (الإسلامية) لن يحقّق النجاح، لأنه يستوجب أولًا وجود ما هو مفقود، أي الثقافة الوطنية والاعتراف بالآخر وبحقوقه، بغضّ النظر عن الدين أو المذهب، فضلًا عن الدولة التي تُمسك بشعبها وتعتمد نظامًا ديمقراطيًّا عادلًا وتساوي بين مواطنيها. وليست “المثالثة” في توزيع السلطة التي يرغب فيها بعض الشيعة، ولم يؤخذ بها خلال المداولات حول “وثيقة الوفاق الوطني” في الطائف بالسعودية العام 1989، ويجري الحديث عنها في الوقت الراهن بصوت خافت لضرب “اتفاق الطائف” وكذلك “المناصفة” التي أُقرّت في الاتفاق المذكور، سوى وجه آخر لفرض حُكم الأكثرية الإسلامية. وينطلق مفهوم المثالثة من تقاسم السلطة على أساس الديموغرافيا، بعدما أصبح المسيحيون يشكّلون ثلث سكان لبنان؛ فيكون للشيعة وحدهم حصّة الثلث في توزيع المناصب و”الحقوق”، والثلث الآخر للمسلمين السنّة والدروز والعلويين، والثلث الأخير للطوائف المسيحية مجتمعة (خطّاب، المثالثة في لبنان). وقد يُطالب شيعة حزب الله وحركة أمل، عندها، بأنْ تكون رئاسة الجمهورية من نصيبهم، أو أنْ تستمر عملية إفراغها من مضمونها. من هنا، قد يصبح “لبنان الكبير” وهو على مشارف مئويته الأولى، قاب قوسين من خطر التفتيت، وليس لديه سوى هامش ضيّق من 10 نقاط تفصله عن الدخول في المجهول (انظر الرسم البياني).
ولن تتحقّق قيامة لبنان إلا في ظلِّ فصل الدين عن السياسة، باعتماد العلمنة أو الدولة المدنية اللتين لا تضطهدان الأديان، على عكس ما يروّجه رجال الدين خطأً. لذا، تبقى هناك ثلاثة خيارات أمام اللبنانيين: إما أنّ يتمّ الانتقال إلى الدولة المدنية، أو إلى النظام الفدرالي، أو أنْ تُترك الأمور تتطوّر من سيء إلى أسوأ، وبالتالي الوصول إلى وضع مأساوي، إذا لم يستجب جميع اللبنانيين، بروح وطنية جديّة ومسؤولية، للتحدّيات التي تواجه بلدهم، بعيدًا عن الطائفيتين المجتمعية والسياسية. ونسارع إلى القول: إنَّ إقامة الدولة المدنية أو النظام الفدرالي صعب التنفيذ. للانتقال إلى الدولة المدنية، يتطلّب الأمر موافقة الجميع، من دون استثناء، وهذا غير متوافر حاليَّا، حتى الزواج المدني أو الاختياري، على سبيل المثال، لا يلقى ترحيبًا كبيرًا في الأوساط المسيحية، فيما يرفضه المسلمون بشكلٍ حاسم، فكيف إذا كان الأمر يتعلّق بالانتقال إلى دولة مدنية؟
مواقف الطوائف من الزواج المدني أو الديني العام 2013
%
ماروني | أرثوذكس | كاثوليك | سنة | شيعة | دروز | |
ديني | 28 | 41 | 22 | 66 | 55 | 30 |
اختياري مدني أو ديني | 46 | 28 | 33 | 26 | 29 | 26 |
مدني | 23 | 31 | 41 | 5 | 13 | 37 |
المرجع: استطلاع الدولية للمعلومات، 4 آذار 2013
http://monthlymagazine.com/ar-article-desc_2750
أما الدولة الفدرالية، فتتطلّب ثقافة القبول بـ “الآخر” الأقلّ عددًا، ضمن مكوّنات المجتمع في الأقاليم الفدرالية والعيش معه أو بقربه، وعدم التعدّي على حقوقه المشروعة، وهذا ثبت عدم توافره في ثقافة اللبنانيين. فضلًا عن ذلك، يختلف اللبنانيون في لبنان الموحّد على السياستين الخارجية والدفاعية، فكيف يتفقون عليهما، إذًا، في لبنان الفدرالي، حيث أنهما من صلاحيات الحكومة الاتحادية المركزية؟ وقد يؤول مشروع دولة فدرالية إلى التقسيم، ونهاية “لبنان الكبير”.
*
بالعودة إلى الرسم البياني، مطلع الدراسة، فإنّ نقاط المؤشّر هي 100؛ فالصفر هو أدنى حالات الاستقرار والسلم الأهلي والسيادة، بينما الـ 100 نقطة هي أعلى حالات الاستقرار والتماسك الوطني والسيادة. إشارة إلى أنّ نسبة الخطأ في المؤشّر قد لا تتجاوز 4- 5%. وقد بيّن المؤشّر الآتي:
- حصل “إنشاء “لبنان الكبير” على 50 نقطة، بسبب رفضه من قبل المسلمين والأرثوذكس.
- ارتفع المؤشّر مرّة واحدة خلال قرن من الزمن إلى 90 نقطة، عند اتفاق اللبنانيين على “الميثاق الوطني” وخوضهم معركة الاستقلال العام 1943 متّحدين ضدَّ فرنسا. لكن المرحلة تلك، كانت قصير الأمد.
- ارتفع المؤشّر مرّة واحدة إلى 80 نقطة، يوم “انتفاضة الأرز” وانسحاب سورية من لبنان.
- هبط المؤشّر إلى 20 نقطة، بعد الانقسام السياسي بين 8 آذار و14 آذار، وملء حزب الله الفراغ الذي نتج عن الانسحاب السوري من لبنان.
- حصل كلّ من الانتعاش الاقتصادي في البلاد، بين الحرب العالمية الثانية حتى اندلاع حرب لبنان، و”اتفاق الطائف”، وانتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية على 70 نقطة.
- حصلت المقاومة المسيحية للاحتلال السوري والمقاومة الإسلامية للاحتلال الإسرائيلي معًا على 60 نقطة.
- هبط المؤشّر 10 مرّات بشكلٍ خطير، بين 30 و20 نقطة، بسبب: أزمة العام 1958، والوجود العسكري الفلسطيني، وحرب لبنان 1975-1989، وظهور التنظيمات الراديكالية الإسلامية والمسيحية، وشرعنة الاحتلال السوري بموجب الطائف، والتمديد للرئيس لحود، والحرب الإسرائيلية على لبنان 2006 وعدم انتخاب خليفة للرئيس لحود، وأحداث أيار 2008، وسقوط حكومة سعد الحريري والخلافات السياسية بين الأعوام 2011 و2013 بتأثير الثورة في سورية والنزوح السوري إلى لبنان، وعدم انتخاب رئيس للجمهورية بين الأعوام 2014 – 2016، وانهيار الوضع الاقتصادي.
- هبط المؤشّر مرتين إلى 10 نقاط، عند اجتياح إسرائيل للبنان العام 1982، وإمساك حزب الله بالقرارين السياسي والسيادي اللبنانيين؛ منذ اغتيال الرئيس الحريري، وتحديدًا منذ الحرب الإسرائيلية على لبنان العام 2006,
إنَّ الأوطان، كي تتقدّم وتزدهر ويكون مؤشّر مسيرتها وتقدّمها مستقيمًا أو تصاعديًّا، وبالتالي تحقيق الرفاهية لشعوبها، تحتاج إلى الاستقرار والسلم الأهلي، والحفاظ على السيادة باعتبارها مقدّسة. وهذا لا يؤشّر إليه الرسم البياني بالنسبة إلى لبنان. ما من دولة في العالم تظلّ في حالة عدم استقرار وتحارب داخلي وسلب سيادة على مدى قرن كامل، ما يعني أنّ أكثر من ثلاثة أجيال لبنانية عاشت أو تعيش حالة عدم الاستقرار وانعدام السلم الأهلي وفقدان مقوّمات الدولة التي تمسك بشعبها وتدافع عن سيادتها. كان على المؤشّر البياني أنْ ينطلق صعودًا بعد العام 1943، أو على أقل تقدير أنْ يسير مستقيمًا، لا أنْ يتراجع ويواصل تراجعاته وانتكاساته، مع بعض الاستثناءات الظرفية العابرة. من هنا، على اللبنانيين أنْ يبتدعوا حلًا لمشكلات بلدهم قبل فوات الأوان.
****
المراجع:
- البستاني، فؤاد أفرام، مواقف لبنانية، ج2، بيروت، 1982.
- بيهم، محمد جميل، لبنان بين مشرّق ومغرّب 1920-1969، لام، 1969.
- خطّال، مازن، “المثالثة في لبنان … وهم أم حقيقة؟!”، جريدة اللواء، 4 كانون الأول، 2018).
- خليفة، عصام كمال، من الميثاق الوطني اللبناني إلى الجلاء 1938-1946، بيروت، 1998.
- خليفة، نبيل، الستراتيجيات السورية والإسرائيلية والأوربية حيال لبنان، جبيل، 1993.
- دلّول، محسن، حوارات ساخنة، من كال جنبلاط إلى رفيق الحريري، بيروت، 2007.
- ربّاط، إدمون، التكوين التاريخي للبنان السياسي والدستوري، ترجمة حسن قبيسي، ج2، بيروت، 2002.
- سنّو، عبد الرؤوف، حرب لبنان 1975- 1990. تكفكّك الدولة وتصدّع المجتمع، مجلد 1، “مفارقات السياسة والنزاعات المسلحة والتسوية”، بيروت، 2008.
- سنّو، لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف. إشكاليات التعايش السيادة وأدوار الخارج، بيروت، ط 1، 2014.
- سنّو، عبد الرؤوف، السعودية ولبنان. السياسة والاقتصاد، ج1، بيروت، 2016.
- سيف، أنطوان، “الدولة المدنية: تجربة فؤاد شهاب في لبنان”، جريدة النهار، 13/1/2013).
- سيل، باتريك، رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي، ترجمة عمر سعيد الأيوبي، بيروت، 2010.
- شرف جان، الإيديولوجيا المجتمعية، مدخل إلى تاريخ لبنان الاجتماعي، بيروت، 1996.
- صايغ، يزيد يوسف، الأردن والفلسطينيون، لندن، 1987.
- عوّاد، علي، الدعاية والرأي العام، بيروت 1993.
- قزّي، شجعان، نحن في “6 شباط” يومي. https://outlook.live.com/mail/deeplink?popoutv2=1
- كوثراني، وجيه، المؤتمر العربي الأول والمراسلات الفرنسية المتعلّقة به، بيروت، 1980.
- الكيلاني، شمس الدين، تحوّلات في مواقف النُخب السورية من لبنان 1920 -2011، بيروت، 2012.
- “لبنان الكبير نصف قرن”، سلسلة القضية اللبنانية، عدد 1، ط2، 1987.
- ناجي، أمين، “الإسلام السياسي وهوية لبنان”، سلسلة القضية اللبنانية، 1976.
- نجم، أنطوان، “سمير جعجع فكر مقاوم ورؤيوي”، المسيرة، نيسان 2004.
- نمر، محمد، “حصّة رئيس الجمهورية بدعة وعون يشهد”، جريدة النهار، نقلًا عن موقع القوّات اللبنانية https://www.lebanese-forces.com/2018/05/28/aoun-281).
– هانف، تيودور، لبنان تعايش في زمن الحرب. من انهيار دولة إلى انبعاث أمّة، نقله من الألمانية إلى العربية موريس صليبا، باريس 1993.
– Barakat, Halim, “A Secular Vision of Lebanon: Transformation from a Mosaic to an Integrated Society”. Halim Barakat (ed.).Towards a Viable Lebanon, Washington, 1988.
– Dawn, Ernest C., From Ottomanism to Arabism: Essays on the Origins of Arab Nationalism, Urbana, III, 1973.
– Hanf, Theodor, ‘Die drei Gesichter des Libanonkriegs’, Friedenanalysen für Theorie and Praxis 8(1978), 64-122.