….ليست كباقي النساء!!

كانت الفتاة النحيلة بملامح هندية، وشعر طويل أسـود بــراق يزين قوامها الرشيق، تـروح وتجــيء في غرفتها، وعلى مــرأى من مسمعه، كانت ضحكاتها تجلجل في الغــرفة المطلّة على الطــريق، حيث كان وليد جالساً، رفقة صديقه الثرثار مصطفى، يرتشف قهوته متأمـلا ً.

ظلّت الفتاة لحظّات وصوتها الصادح يتردّد في مسمعه، يرفع وليد بصـره إلى النافــذة مرّات ومرّات، وقد لاحظ مصطفى ذلك.

كان بيتهـا الموريسكي العتيق المطّل على البحر، يعانق زرقـة اليّم والسماء، ويعانق رنين صوتها شغاف القلب الذي هام بها.

كلّما مرّ وليد بالقرب من بيتها ليلاً، يلمحها من بعيد، تحت ضوء الغرفة تروح وتجيء، تلف جسـدها في ثوب أبيض شفاف، ثم تطّل من النافذة مــرّة على مرّة، وكأن أمراً ما يحيرها، وكان يحلو له رؤيتها كل مساء، وهو يرتشف قهوته.

كان يقول في قــرارة نفسه:

ـ ……كثيــرا ما كنت أختلي بنفسي، و رّنة صوتها تخالجني من حين لآخر، وتنعش سويداء القلب، أطارد أحلامي معها، وتتضاعف خشيتي من رفضها قربي.

لم ألبث على حالتي تلك، وقد شغفني حبّها، وتملك جوارحي، وأنا الذي كنت لا أبالي بذلك، واستعدت ثقتي بنفسي في محاولة التقرب منها، وقررت أن أحادثها دون التريث أكثر.

مرّت الأيام، وعلى اتساع دهشتي فتحت فمـي، ونظرت إليها وكأنها لم تكن هي، ولم أعبأ حينها بنصيحة صديقي مصطفى الذي نبهني للأمر قائلا:

ـ هذه المرأة ليست من مستواك المعيشي أولاً، ولا من طينتك ثانيا؟

قلت له حينها:

ـ أنني لا أقدر الابتعاد عنها، وأنني أشتهيها بالفعل؟!!

ردّ عليَّ مستهزئاً:

ـ ولكنها ليست المرّة الأولى التي تشتهي فيها النساء، وتبتعد حينما تنال مبتغاك !

قلت له، وقد غاضنــي قوله وأربكني:

ـ هذه المرأة ليست كسابقاتهـا!!

ـ هذه المرأة لا تضع لوحة زيتية على وجهها؟

ـ هذه المرأة لها عطر خاص، وطعم خاص!!

ـ هذه المرأة لها أنوثة !!

ورفع صوته في وجهي عالياً:

ـ كُفى عن هذا الهـراء، امرأة ..امرأة.. أنوثــة.. أنوثـة..

وأردف وهو يحملق فيه:

ـ  يبدو أنك أصبت بطعم الأنوثة، أو هبّت عليك ريحها يا صديقي العزيز.

ـ منذ متى، وأنت تغريك الأنوثة؟

….ههه…هه…

ثم تركني، وحمل فنجان القهوة، الذي كنّا نتناوب على ارتشافها ببطء.

ضحكت عليه بعصبية، وافترقنا منذ ذلك الوقت، وحاولت الاقتراب منها يوما بعد يوم.

بعد شهور من ملاحقتها ومتابعة تحركاتها وتصرفاتها، قلت في نفسي:

ـ  هذه الفتاة السمراء سوف تفقدني عقلي، إذا ما بقيت على هذه الحالة .

تتبعـت خطواتها وبإصــرار كبير، وهي تدخــل أحد المتاجر للتبضع، اقتربت منها، على أساس مساعدتها في حمل الأكياس، رفعت بصرها نحوي، وابتسمت …

بابتسامتها تلك، فتحت شهيّتي للاقتراب منها أكثر فأكثر والتحدث إليها، والاعتراف لها بأنني مجنون بحبّها.

هذه الـمرّة لم أطمــع في الكثير سوى أن تكون معي، وأن تبادلني نفس المشاعر، وبداخلي كنت أحسدها على اتزانها ورزانتها وحيويّتها….

قلت لها وأنا أحدق فيها:

ـ لا أصدق أنني أتحدث إليك ؟

قالت مستغربة :

ـ مـاذا؟

ثم تجاهلتني وكأنني لم أحدثها….

لم تمض أيام على لقائي بها، حتى رأيتها، وهي برفقة شاب وسيم يشبه سمرتها الهندية، تتأبــط ذراعــه، ورنّة صــوتها تشعرني بالارتباك والخجــل من نفسي، يدخــلان معا إلى نفس المتجر الذي التقيت بها فيه.

حينما رأتني، ابتسمت نفس الابتسامة، بقيت واقفاً ومذهولاً، وعلى اتساع دهشتي فتحت فمي، ونظرت إليها وكأنها لم تكن هي، ولما عدّت إلى صديقي مصطفى لأخبره بما جرى معي، قال لي:

ـ ألم أقــل لك، أنها ليست  كباقــي النساء !!!

****

(*) القصة الفائزة بجائزة  الأديبة رولا حسينات للأدب النسوي،  بالأردن 2018.

 

vector fatma

اترك رد