أ.د. مشير باسيل عون
يتّفق جميعُ اللبنانيّين على القول بأنّ لبنان أصبح وطنًا غير قابل للحياة والتدبير لشدّة ما أصابه من تأزّم بنيويّ مستفحل، وإعضال إداريّ متفاقم، وانسداد في الأفق مظلم. غير أنّهم يختلفون في تعيين أسباب التأزّم والإعضال والانسداد. منهم من يجرّم التدخّلات العربيّة والغربيّة. ومنهم من يلعن الاستعمار الغربيّ والصهيونيّة الغاشمة. ومنهم من يوبّخ اللبنانيّين على قابليّتهم للاستعمار. ومنهم من يندّد بقبائح النظام الطائفيّ اللبنانيّ. ومنهم من ينتقد البنية الاقتصاديّة وآثارها المدمّرة في الاجتماع اللبنانيّ. ومنهم من يرثي الميراث السامي المشرقيّ العربيّ المملوكيّ العثمانيّ الذي فعل فعلَه في الوعي اللبنانيّ. ومنهم من يستقبح المفاسد التي ابتليت بها الشخصيّة اللبنانيّة في صميم مسلكيّتها. ومنهم من يعاين الخطيئة الأصليّة في نشأة مثل هذا الكيان.
من الإنصاف أن يستصفي المرء في كلّ تشخيص على حدة عناصر الإصابة والاعتدال الموضوعيّ، ودلالات الإخفاق والمغالاة الأيديولوجيّة. في ظنّي أنّ الاستعانة بما ساقه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسيّ جوليان فرويند (1921-1993) في كتابه “ماهيّة السياسيّ” يهب جميع اللبنانيّين القدرة على التمييز والتجرّد في إطلاق الأحكام على أنفسهم وعلى وطنهم.
يميّز جوليان فرويند ثلاثة روابط بنيويّة تُسهم في تكوين الماهيّة السياسيّة أوالجوهر السياسيّ أو الأمر السياسيّ أو الشأن السياسيّ (L’essence du politique) في الاجتماع الإنسانيّ داخل المدينة الإنسانيّة. الرابط الأوّل ينبسط بين الإمرة والطاعة، والرابط الثاني ينشط في التمييز بين الصديق والعدوّ، فيما الرابط الثالث يتجلّى في التفريق بين المجال العامّ أو العموميّ والمجال الخاصّ. أعتقد أنّ العقل السياسيّ اللبنانيّ عاد لا يفقه معاني هذه الروابط البنيويّة الثلاثة في معترك المعيّة اللبنانيّة داخل الاجتماع اللبنانيّ؛ لا بل أميل ميلًا شديدًا إلى القول باختلال بنيويّ في العقل السياسيّ اللبنانيّ أضحى يعطّل فيه القدرة على تدبّر هذه الروابط البنيويّة التأسيّسيّة في المدينة الإنسانيّة الحديثة.
في الاختلال الأوّل الذي يصيب الرابط بين الإمرة والطاعة يلاحظ المرء أنّ اللبنانيّين لا تأمرهم الدولة ولا هم يُطيعون الدولة. والدولة في التصوّر السياسيّ الحديث هي التعبير عن التدبير السياسيّ العقلانيّ الأنسب للاجتماع الإنسانيّ. فالطاعة هي إذًا للعقل المستنير الحكيم العادل.أمّا في لبنان، فالإمرة والطاعة تحوّلتامن الدولة إلى الطوائف، فإلى القبائل، فإلى الأحزاب، فإلى الحلقات الاقتصاديّة النافذة. أمّا الدولة ودستورها وأحكامها وقوانينها وتدابيرها، فليس لها من نفوذ معنويّ أو حتّى قانونيّ وتأديبيّ في وعي اللبنانيّين، وخصوصًا في لاوعيهم. من بعد أن تحلّل كلّ شيء في زمن الحرب اللبنانيّة (1975-1990)، وانحرف مسرى تجاوز الحرب في حقبة الهيمنة السوريّة على القرار اللبنانيّ (1990-2005)، واضطرب سياق بناء الاستقلال الثاني وإعادة النظر في المسلّمات الميثاقيّة في حقبة الضياع الذاتيّ (2005-….)، استقرّ في أذهان اللبنانيّين أنّ الدولة الحديثة لم تنشأ نشوءًا صحيحًا في لبنان، وأنّ اللبنانيّين ميّالون بالفطرة إلى الخضوع للمرجعيّات الوجدانيّة المحسوسة، ولا يعنيهم أن يأتمروا بالبنى القانونيّة والمؤسّساتيّة المحايدة الموضوعيّة الباردة. الحقيقة أنّ اللبنانيّين شغوفون بطاعة أوليائهم ممّن يُشعرونهم بطمأنينة المصير، ودفء الانتماء، وعزّة الهويّة الجماعيّة. فإذا واظب اللبنانيّون على مثل هذا الائتمار لأوليائهم، سقطت الدولة في مهالك الانعطاب البنيويّ.
في الاختلال الثاني الذي يعطّل معايير التمييز بين الصديق والعدوّ، يهوَى اللبنانيّون الاقتتال في عمليّات تقبيح الغيريّات وتجميلها. فاللبنانيّون ينظرون إلى الآخرين من موقع إطلالتهم على هويّتهم الذاتيّة ومن موقع حرصهم على مصالحهم الجماعيّة. فإذا بهم يباركون هذا البلد أو ذاك أو يلعنون هذا البلد أو ذاك لأسباب تتّصل بما انعقد عليه كيانُهم من إدراك ضيّق لهويّاتهم الطائفيّة والمذهبيّة والعشائريّة والمناطقيّة. وحين يسقط الإجماع على هويّة الصديق وهويّة العدوّ يسقط الإجماع على هويّة الوطن اللبنانيّ. والأصحّ أنّ انعدام الإجماع على هويّة الصديق وهويّة العدوّ ناشئٌ من انعدام الإجماع على هويّة الوطن اللبنانيّ. ثمّة من يعتقد أنّ اللبنانيّين حين ينعتقون من سطوة الآخرين، يمكنهم أن يتدبّروا أمورهم تدبّرًا راقيًا. غير أنّ المعاينة الواقعيّة تشير إلى أنّ الاختلال في تعيين هويّة الصديق والعدوّ بات يعطّل أيضًا علاقات اللبنانيّين بعضهم ببعض. فاللبنانيّون يتصادقون ويتعادَون بالاستناد إلى معايير فهمهم لهويّاتهم المذهبيّة الضيّقة، لا بالارتكاز على معايير الأمانة لكرامة الوطن اللبنانيّ الذي ينشأون منه وبه وفيه، ولا بالاستناد إلى مقاييس الأمانة لمؤسّسات الدولة التي تضمّهم وتحميهم وتصونهم أفرادًا وجماعات. فاللبنانيّ الصديق هو الذي يسايرني في هويّتي على غير تدبّر واقتناع واحترام، وهو الذي يواطئني على الفساد والنهب والاستكبار على الدولة، فيما اللبنانيّ العدوّ هو الذي يزاحمني على هويّتي المذهبيّة وينافسنى على السلطة ويقارعني على الانتفاع. ليس في مثل هذا التمييز أيّة ذرّة من ذرّات الحكمة السياسيّة الراقية التي بها تنهض الأوطان.
أمّا في مسألة النظرة إلى الآخرين من غير اللبنانيّين، فالفهم الصحيح للهويّة اللبنانيّة وللوطن اللبنانيّ وللكيان اللبنانيّ وللدعوة اللبنانيّة وللخصوصيّة اللبنانيّة هو الذي يعزّز الإجماع على العدوّ وعلى الصديق. وتتغيّر أحكام الصداقة والعداوة بتغيّر نظرات الآخرين إلى لبنان وتغيّر مسالكهم وتصرّفاتهم. وليس في اختبارات النضج في مسرى التاريخ الإنسانيّ من عداوة أبديّة ومن صداقة أبديّة. العدّو في السياسة عدوٌّ حتّى يتوب عن عداوته وعدائه وعدوانه. والصديق في السياسة صديقٌ حتّى ينحرف عن صدقه وصدقيّته وصداقته. أمّا المعيار الأعلى، فينبغي أن يُستلّ من الفهم الذاتيّ للبناء الوطنيّ الشامل القائم على احترام شرعة حقوق الإنسان الكونيّة. ذلك أنّ الأوطان لا يمكنها أن تشرّع التمييز بين الأصدقاء والأعداء بالاستناد إلى هويّات جماعاتها الذاتيّة وقد تضخّمت تضخّمًا يسوّغ لها أن تصادق وتستعدي بحسب مصالحها الذاتيّة. المصادقة والاستعداء مبنيّان على التزام الأوطان شرعة حقوق الإنسان. وما من مجال للتفرقة الصراعيّة بين معايير الانتماء إلى الوطن ومعايير التزام شرعة حقوق الإنسان. من يفتعل مثل هذه التفرقة ينحرف انحرافًا خطيرًا عن أصول المعيّة الإنسانيّة الكونيّة.
في الاختلال الثالث الذي يعطّل الرابط بين المجال العامّ والمجال الخاصّ، يخلط اللبنانيّون خلطًا مفسدًا بين هويّة المجال العامّ وهويّة المجال الخاصّ. المشكلة بنيويّةٌ ناشئةٌ من إصرار الطوائف اللبنانيّة على طبع المجال العامّ بطابع هويّاتها وخصوصيّاتها وطقوسيّاتها ورمزيّاتها وأمزجتها. والحال أنّ الحكمة السياسيّة الكونيّة الحديثة أفضت إلى الاعتراف بمجال عموميّ في المدينة الإنسانيّة يُتيح لجميع المواطنين أن يقبلوا عليه وأن يتقابلوا فيه وأن يقبل بعضهم بعضًا في أرجائه. ذلك أنّه الموضع الوحيد الذي يهب الجميع القدرة على صون ذاتيّتهم والاحتكاك الحرّ البنّاء بذاتيّات الآخرين من غير خلط أو مزج أو ذوبان أو استعلاء أو هيمنة. هذا يصحّ في المجتمعات المتعدّدة. والمجتمع اللبنانيّ مجتمعٌ متعدّدٌ بنيويًّا. ولكنّه يصحّ أيضًا في المجتمعات التي يُفترض بها أن تكون متجانسة. فالمجال العموميّ هو التعبير الأفصح عن حياديّة الدولة جهازًا إداريًّا تقنيًّا يقوم على مبادئ الإنجاز والتحقيق في ميادين التقنية والإدارة والاقتصاد والسياسة، وما شابه ذلك كلّه من تدابير المعيش التاريخيّ. أمّا المجال الخاصّ، فهو حقل التعبير عن الاقتناع الفكريّ الوجدانيّ الذاتيّ الفرديّ والجماعيّ. غير أنّ هذا الحقل ينبغي أن يقتصر على أهل الاقتناع المشترك. فيلتئمون في رحابه يحتفلون بمسرّة اقتناعاتهم، ولا يلبثون أن يعودوا إلى المجال العامّ وقد اكتنز كيانُهم بالقيم الرفيعة التي يتشاطرونها. أمّا في لبنان، فالمجال العامّ اختفى اختفاء كاملًا، وطفقت الطوائف اللبنانيّة تتصارع على توسيع رقعة مجالها الخاصّ. اختفاء المجال العامّ سببه عجز اللبنانيّين عن فهم مقامه وهويّته ووظيفته وفوائده؛ وسببه أيضًا خوف اللبنانيّين من التعرّي والانعطاب في رحاب المجال العامّ أمام الغيريّات المسائلة المستثيرة للنقد الذاتيّ والمراجعة الذاتيّة والإصلاح الذاتيّ. الغيريّات اللبنانيّة المسيحيّة والإسلاميّة والعَلمانيّة غدت اليوم تستفزّ بعضها بعضًا، وتسترهب بعضُها بعضًا. لذلك تلجأ الطوائف إلى تعزيز منعتها بحماية مجالها الخاصّ. ويبدو أنّ حماية المجال الخاصّ تستوجب إلغاء المجال العامّ والتعدّي على المجالات الخاصّة الأخرى.
كيف السبيل إذًا إلى اعتماد مبادئ الشأن السياسيّ الحديث الذي أجمعت الأمم الراقية على صونها وتطويرها والاعتصام بها ؟ هل يستطيع اللبنانيّون أن يعيدوا النظر في هذه العناصر التأسيسيّة الثلاثة حتّى يتهيّأ لهم أن يستعيدوا وطنهم وينقذوه من مهالك الإفناء الذاتيّ ؟ اعتقادي أنّ الأمر في غاية العسر. وسيظلّ عصيًّا على اللبنانيّين حتّى ينهضوا طوعًا إلى اجتهاد فكريّ سياسيّ رفيع به يعترفون بأنّهم أخطأوا في هذه المواضع الثلاثة وبأنّهم مستعدّون للتباحث الحرّ الصريح الملزم في أصول بناء الاجتماع اللبنانيّ. حتّى الآن لا يعاين المرء سوى صراخ عقيم وسعي محموم إلى السلطة، فيما الأسُس الكيانيّة التي ينهض عليها الوطن اللبنانيّ باتت في حالة التحلّل والتلاشي. فماذا ينفع هذا الحزب أو ذاك أن يفوز بالاقتدار والتسلّط فيما الهيكل اللبنانيّ برمّته سائرٌ إلى التفكّك والزوال ؟ أمنيتي أن يدرك اللبنانيّون أنّ 45 سنة من الاعتلال السياسيّ يجب أن يقابلها 45 سنة من إعادة التأهيل الإنسانيّ الشامل. وقد يكون بعضٌ من الاستبداد المستنير نافعًا في ترميم الهيكل اللبنانيّ، على نحو ما اختبرته المجتمعات الأوروبّيّة حين اعتمدت ضربًا من الاستبداد المستنير أعانها في الانتقال التدرّجيّ الفطن من الملكيّة المطلقة إلى الديمقراطيّة الحديثة.
*النص نقلا عن موقع جريدة “النهار الالكتروني
*الصور من موقع “ألف-لام”