خبرة واعية وثقافة أتاحت للكاتب رؤية متعمقة
للجوانب النفسية والفكرية والاجتماعية
وبصيرة نافذة في تشابك الأحداث
قراءة – أيمن دراوشة
قد تكون القيمة الجمالية ذات وشائج متقاربة، ولكن ذلك ليس سببًا للتوحيد بين القصة والشعر في نفس العمل الواحد، وللتعبير عن التجربة العاطفية تلعب المصادفة دورها شعرًا أو نثرًا، لكن العاطفة الملتهبة الجياشة الشخصية تلعب دورها شعرًا أكثر منها نثرًا، وغني لأتخيل أنَّ مجموعة محمد إقبال حرب هي أقرب للشعر منها للنثر.
إن هذا التوحد بين الشعر والنثر هو ما أعطى المجموعة رونقًا خاصًّا، ولمعانًا منقطع النظير، رفع المجموعة فوق مستوى الحياة وزخرفتها بما تحتويه اللغة التخييلية من سحر جذَّاب.
احتوت المجموعة المبهرة على ثلاث وثلاثين قصة كانت جلها أكثر انفتاحًا وأكثر عصرنةً عن غيرها من المجموعات القصصية التي تنهال علينا من هنا وهناك، حيث كانت تلك الوحدة بتوالي الأحداث وفي تصارع الشخصيات، وفيما يتيحه السرد والتصوير والحوار، من خلال امتداد الفترة الزمنية للمجموعة التي تسكب إحساسها في الخارج، لتصل إلينا مستدرةً عواطفنا ومثيرة في معتقداتنا وأفكارنا وتحركينا تجاه شيء ما.
من أكثر القصص التي لفتت انتباهي واخذت عنوان المجموعة كاملة هي قصة العميان الجدد، حيث ينقلك الكاتب إلى عالم آخر غريب الأطوار بطريقة سينمائية، وهذا يعني أن القصة تصلح للتمثيل بامتياز، حيث تتشكل درامية القصة المثيرة من أول كلمة إلى آخر كلمة بواسطة تجسيد الفعل بواسطة الحركة ومن خلال الحوار وبهما ندرك فكر الشخصيات والفرق بين البصر والبصيرة، والتي تتولى عما يعتمل في الداخل بواسطة الكلمة وفي جميع ذلك تظل الحاجة إلى مشاهد يتملك قدرًا من اللماحية يستكمل بها تصور ما تبطنه الشخصية في أبعادها المختلفة.
ماذا لو عُمِيَ المبصرون الذين هم عميُ البصيرة، ماذا سيكون موقف العميان أصحاب القلوب المبصرة مما حدث لمن عمت قلوبهم قبل بصرهم.
هذه الجدلية الرمزية التي حيكت ببراعة الفنان الحاذق، حيكت بالأفكار الملونة بالمشاعر والدفقات الانفعالية المتوالية فهذه القصة تتجاوز مرتبة البصر إلى مرتبة السمع.
” ليس ثمة رجال أمن يحفظون القانون أو دفاع مدني قادرون على الاستجابة، وضل كل بيته، فاختلطت الأجناس والألوان والأعراق” ص31-32.
هذا التخييل والترميز الفائق نلمحه أيضًا في قصة فايسو وبوكة – قصة حب عصرية، حيث يخلق المؤلف أبطاله من الواقع الإلكتروني المقيت، حيث يظهر الشخوص في صور قوية ومقنعة وحقيقية وكأنك أمام فلم سينمائي حيث تتشكل رؤية المؤلف الأدبية التخييلية للشخصية من خلال استنادها على الرمز والرؤية الرومانسية الخالصة مما يعكس الانطباع الذهني للكاتب، كما أنها وليدة حياته وثقافته ومزاجه وحساسيته تجاه ما يقع من أحداث، سواء في هذه القصة أو غيرها من قصص المجموعة …
قصة فايسو وبوكة هي رسالة شديدة لمدمني مواقع التواصل بالابتعاد عن هذا الوحش المريب…
” قدّرت الآنسة بوكة هذا الموقف فوافقت على الزواج منه من دون شروط” ص26
ومن القصص المثيرة في المجموعة على سبيل المثال لا الحصر قصة تفاح، حيث ينشئ المؤلف حوارًا راقيًا بين تفاحة خضراء وتفاحة حمراء، بإيحاءات هي الأقرب للإيحاءات الجنسية والغواية التي أوقعت آدم إلى فخ الأرض، وفي هذا النوع الجديد من القصص يسيطر الحدث ويصبح بمثابة البطل الحقيقي لهذا العمل، فالحدث ينقلنا في جنبات البيئة التي تشكل مكان يتحرك فوقه الحدث مع مجموعة أحداث أخرى ناتجة عنه لتعرض على القارئ كنماذج بشرية معينة حدّدها الكاتب لعمله، وأيضًا لتلقي الضوء على ظروف وأجواء مختلفة أراد لها الكاتب الظهور، وقد انتقل الكاتب بالحدث إلى احداث أخرى ليوضح لنا أفكارًا معينة أراد ان يطرقها، كمسألة الخير والشر، هذا يتضح في قصة تفاح وفي قصة الخديج وكلبنة وحكاية من كوكب زحل وغيرها.
“صدم الرد التفاحة الخضراء وقالت بغضب: أنا لا أهمل نفسي لأنني أحب أن أبقى كما خلقني ربي” ص21.
في قصة حكاية من كوكب زحل تكمن الحبكة أو الفكرة الخلاقة فرجل كوكب زحل لديه العديد من الأقمار ليشبه بها زوجته، بعكس رجال الأرض الذين استهلكوا تشبيه حبيباتهم بالقمر الذي لم تتغير ملامحه على مر الأزمان.
” كم أرى وجهك حالمًا كقمر دافنيس، وعينيك براقتين كقمر أطلس، أما شفتاك فتضاهيان قمر بروميثيوس…” ص 185.
يا لهذا الكاتب الكوني الذي لم يترك شيئًا من أشياء الطبيعة والكون إلا وتطرق له، إنها عوالم وأكوان بدائل وتعويضات عن الزوغان المدقع في ظلمة الحاضر، يحيا معنا كطيف، وتحس به يلقيك إلى أكوان أخرى، وعصور حقيقية لا خيالية، لا شأن لها بها، لكنها مقيمة في دواخلنا الغائرة، وتراكماتنا الثقيلة، بمزيج من ألوان ولونيات الحياة الغابرة.
لذا كان الهدير من قصص هذه المجموعة يتقلقل ويرتج، فيعصف بالقصور والجبال والمعابد يتنقل بها وبينها كما يشاء، إنها البراعة، وبراعة الخلق القصصي الشعري، تشتد وتمتد مشكلة عصفًا حصيفًا يتفشى في أعماقنا.
ولنا في قصة اللون الثامن لأكبر دليل على هذا الظلال المخاتل، يشهد لنا محمد إقبال حرب بأننا أجرمنا بحق هذه الحياة، وانه كان ضحية مشاهداته لغروبنا وتعفننا السريع، ليضعنا على طاولات قصصه التشريحية وهو يفترع أعضاءنا الذابلات.
محمد إقبال القاص الفضائي الذي يعلن الحرب على القصة بالقصة، كيف لنا التقابل مع هذه الملكات الوافدات من الأكوان الشاسعة الغريبة، ومن البيارات، جلجلة تكاد تكون عامة، فالأجراس تواصل رنينها وهي تزرع الزمن في حقول الحياة وقلب العالم المخضوض، وما هم القاص سوى توليف القصص التي تعترض الإنسان “الكائن” الذي يدميها الكاتب حينما لا تكون.
ومن هنا كانت المجموعة تتخذ مسارها الزمني وخطها الدرامي الموحد ببنية تحتية متماسكة من منطلق قناعتها بتفكك الشخصية البشرية، إننا نلبس وجوهًا متعددة تتغير في رحلتنا الزمنية، وذواتنا قد تتمازق وقد تتفارق، ونحن في دائرة التحول والتغيير ربما إلى الأسوأ والأسوأ الكريه.
لا تخلو قصص محمد إقبال حرب من سند فكري ودعامة فلسفية قد تنبع أحيانًا من الموضوع، وأحيانًا أخرى من الذات، ونحن كبشريين ضائعون في زحمة الآخرين، مجرد أسماء لذوات تطحنها الذات … الكابوس… المجتمع.