لبيب قمحاوي
العالم العربي والوطن العربي هما من الاصطلاحات الجغرافية والسياسية العامة التي تحتاج إلى مزيد من البلورة في عالم الواقع، نظراً إلى أن أهميتهما وتأثيرهما يقفان عند حدود الدولة الوطنية المركزية التي تخضع في العادة إما لحكم عائلة مستبدة، أو فرد مستبد يرفض مشاركة أحد في حكمه، أو التنازل عن ما يملك أو يحكم لمصلحة عقيدة قومية تَفتَرض نظرياً أنها تمتلك القوة الأدبية والجماهيرية لفرض إرادتها على الدولة الوطنية.
وهذا في الواقع أمر لم يحدث كون قوة العقيدة القومية في الدولة الوطنية المركزية قد ارتبطت دائماً بموقف الحاكم منها وبما إذا كان يقبل بها وبتمثيلها كنهج سياسي أم لا. فخلال حقبة عبد الناصر مثلاً استمدت القومية العربية قوتها من قوة عبد الناصر ومصر. وعندما ذهب عبد الناصر وذهبت مصر القومية في عهد السادات، ضعفت العقيدة القومية بذهابهما؛ ولكنها مع ذلك تشبثت بخيوط رفيعة ارتبطت بسياسة صدام حسين القومية في العراق. ولكن كل ذلك ذهب أيضاً أدراج الرياح. فالعقيدة القومية العربية لم تعطِ الحاكم القوة بل استمدتها منه، وعندما ذهب الحاكم ضعفت تلك العقيدة مع ذهابه إلى حد الموت السريري الذي تعيشه الآن.
لقد برع الكثيرون من العرب في استنباط الأعذار والقصص المستندة إلى نظرية المؤامرة بهدف لوم الآخرين على ما هم فيه من مآسٍ وانهيارات، بينما تؤكد الحقائق أن ما وصل إليه العرب الآن من تمزُّق وانحلال وفُرقة وسقوط للدولة الوطنية وللفكر القومي في الوقت نفسه، إنما هو نتاج ما ساهم العرب بأنفسهم فيه وما سمحوا للآخرين بفعله بهم.
لقد تعزز تقسيم دول الوطن العربي وتفتيتها بفعل ممارسات أنظمة حكم عربية ربطت وجودها بدول عظمى مثل أمريكا أو روسيا، وجعلت من ذلك الواقع المرير وتلك العلاقة غير المتكافئة الضمانة للحاضر والمستقبل، عوضاً من التوجه نحو الخيار الأصح المستند إلى تكريس البعد القومي الاستراتيجي للأمة العربية وكذلك لمنظومة الدول العربية وتفعيله ضمن مسار ديمقراطي واضح وفاعل وشامل للجميع.
إن تزامن الصعود القومي العربي مع هزيمة العرب في فلسطين عام 1948 قد جَعَلَ من القضية الفلسطينية تعبيراً، وإن كان سلبياً، عن ارتباط العرب بفلسطين بوصفها جزءاً محتلاً من الوطن العربي، والفلسطينيين بوصفهم جزءاً من الأمة العربية. هذه المعادلة هي أساس التزام العرب بالقضية الفلسطينية. أما الضعف الذي طرأ على هذا الالتزام أخيراً فيعكس انهيار تلك المعادلة وذلك الالتزام منذ هزيمة حرب 1967 وانكسار العنفوان القومي كما جسَّدته الناصرية، وبدء تَفَسُّخ وانحلال مكونات الرابطة القومية العربية التي شكَّلت لعقود أساس الموقف العربي المعلن في دعم القضية الفلسطينية بوصفها قضية عربية أولاً وأخيراً؛ علماً أن الفلسطينيين تحولوا من شعب واحد إلى مجموعة أقليات مبعثرة في أرجاء الدول المضيفة عوملت في أغلب الأحيان وكأنها أقليات عرقية غير مرغوب بها. وتم مع الوقت الفصل بين موقف الدول العربية المضيفة من القضية الفلسطينية وموقفها من الفلسطينيين، وهو أمر يتنافى والروح القومية.
وكانت القوة الجامعة في العمل القومي – على مدى العقود الممتدة من حقبة الاستقلال العربي في بداية خمسينيات القرن الماضي – إما فردية تجسدت في أفرادٍ كشخص الرئيس جمال عبد الناصر ونجاح نهجه القومي وسياساتِهِ العربية والتحررية، وإما جماعية من خلال الأحزاب القومية والعمل الجماهيري الذي فشل بسبب مسار تلك الأحزاب، والذي قَلَصَ دورها من جماهيري إلى انقلابي وحَوَّلَها من تنظيمات جماهيرية إلى دكتاتوريات عسكرية في خدمة القائد الفرد المستبد.
لقد ساهمت الأنظمة الاستبداية ومراحل حكمها الطويلة في تعميق أسباب الفشل وفي استعمال الرابطة القومية لتبرير بطشها واستبدادها، وفي أحيان أخرى فشلها، في ترجمة العقيدة الى فِعْلٍ، وخصوصاً فَشَل حزب البعث في سورية والعراق في التوصل إلى وحدة القطرين، وهذا ما أفقد هذه العقيدة جزءاً من صدقيتها في أعين الكثيرين. إن استفحال الانتماء القطري على حساب الانتماء القومي كان تجسيداً لهيمنة وأولوية الدولة القطرية على العقيدة القومية، سواء بالنسبة إلى الأنظمة الحاكمة، أو لكونه استجابة للمصالح الذاتية للدولة القطرية ككيان ومواطنيها ونظام الحكم فيها. ومع مرور الزمن تجَذَّر الانتماء القطري واكتسب أولوية واقعية على الانتماء القومي الذي استمر في واقِعِهِ وجدانياً ونظرياً حتى للأنظمة القومية نفسها.
لقد ساهمت التجربة والأدوات إذاً في إضعاف العقيدة القومية وتشتيتها، وفي تحويلها إلى حائط مبكى للفشل العربي ولمسلسل الهزائم التي رافقت بدايات انطلاق العمل القومي العربي وحولته من طوق نجاة إلى عبء ثقيل على من يحمله. وأصبح القضاء على العقيدة القومية هو الحل في نظر البعض الذين توجهوا إلى الخيار الديني كبديل، أما البعض الآخر فقد رأى أن الخيار القومي أصبح هو الطريق للتعبير عن مسببات الإحباط أو لتبرير الفشل. وعوضاً من البحث بهدوء عن بدائل لعلاج هذا الوضع، برز اتجاه جديد ينادي بإنكار وجود القومية العربية كعقيدة، على أهميتها لواقع المنطقة ومستقبلها، بل حتى المطالبة بإعدامها كونها مرتبطة بأحزاب أصبحت «عدواً» لشعوبها.
إن البحث عن بدائل للانتماء القومي العربي من خلال هدم الوطن العربي القديم كما يجري حالياً هو توجه خاطئ؛ فالمطلوب ليس إلغاء ما هو قائم وهدمه واستبداله بشيء جديد، ولكن المطلوب هو تغيير في المفاهيم وتجديد الرؤى بما يتناسب والواقع الجديد وبما يسهم في الحفاظ على مصالح الأوطان والشعوب.
لا ريب في أن المطالبة بهذا النهج في التغيير والإصلاح سوف تُقابَلُ بمقاومة شديدة من جهتين: الأولى هي القوى القومية التقليدية التي لا تريد أي تغيير في النهج القومي التقليدي؛ والثانية هي القوى الجديدة التي تطالب بإلغاء أي انتماء عربي وفك الارتباط تماماً بالقومية العربية والهوية العربية. وفي هذا السياق، فإن المطلوب توافره هو القدرة والرؤية السليمة للخروج بنهج جديد يمنع الانهيار ويحافظ على الحد الأدنى اللازم للمحافظة على المصلحة العامة للشعوب والأوطان العربية. فأي عملية استبدال كاملة بعد هدم القديم تماماً سوف تصب في اتجاه الشرذمة من خلال هويات فرعية صاعدة، مذهبية أو طائفية أو عرقية، سوف تسارع إلى ملء الفراغ الذي سينشأ عن عملية الهدم.
المطلوب في هذه الحالة إذاً هو البحث عن وسائل وآليات وأفكار تسهم في وضع إطار مَرن يستوعب الواقع لا مطرقة تعيد تشكيله. وتبقى الإفادة من دروس الماضي والعمل على تجنب المثالب وعوامل الفشل قضية أساسية. تماماً كما أن الابتعاد من الأيديولوجيا والتفكير العقائدي يجيء في انسجام كامل مع تجنُّب أخطاء الماضي واستيعاب الواقع الحاضر والتوجه العام الجديد للبشر في الابتعاد من الأيديولوجيات العابرة للمشاعر والانتماءات والقناعات التي قد تجمع الناس شكلاً وتُفَرقهم موضوعاً، سواء ككتل أو كمجموعات بشرية مختلفة عرقياً أو دينياً أو مذهبياً. إن القدرة على توفير إطار واسع مرن وفضفاض يتسع لكل هذا التنوع الثقافي والإثني والديني الموجود فيه، ويسمح للمجموعات المختلفة بالتعبير عن نفسها بجدٍّ ضمن إطار هوية واسعة جامعة مقبولة لا مفروضة، هي من علائم الحل الحقيقي لإعادة صوغ مفهوم العروبة وتحويلها إلى هوية مرنة وسَلِسَة تتسع للجميع. وفي هذا السياق فإن التجوال بحرية ضمن إطار هوية عربية جامعة ومرنة يفتح الباب أمام الجميع للاستجابة إلى مشاعرهم، العرقية منها أو الدينية أو المذهبية أو السياسية، من دون أن يؤدي ذلك إلى تفتيت الدولة والمجتمع، كون الهوية العربية المرنة لن تتناقض في هذه الحالة مع كون حاملها مثلاً كردياً أو تركمانياً أو بربرياً أو مسلماً متزمتاً أو مسيحياً أو شيعياً أو علوياً… إلخ، ولا يُفْرَض عليه أن يختار بين هذا وذاك.
إن أهم مشكلات العقيدة القومية العربية تتمثل بتركيزها الواضح والمستمر على البُعْد السياسي دون سواه، في حين أن الهوية العربية عَبَّرت عن نفسها بارتياح وسهولة واضحين في مجالات أخرى كالفنون والآداب والثقافة العامة، حيث ذابت الفروق وطفا على السطح شعور عام بالانتماء إلى هوية واحدة في أرجاء الوطن العربي كافة، وحتى في المهجر.
إن ترجمة الهوية العربية المرنة يجب ألّا تكون محصورة بالبعد السياسي وحسب بل تتخذ أبعاداً ثقافية واجتماعية بالمفهوم الواسع. وقد يكون تطور العقيدة القومية العربية إلى صيغتها الأخيرة المتزمتة والإقصائية مسؤولاً بالدرجة الأولى عن ما آلت إليه هذه العقيدة. فالأقليات لا تطالب عادة بالانفصال والاستقلال، إلا عندما تشعر بالتمييز ضدها أو بأن النظام السياسي القائم يتعارض وعواطفها وأحلامها وآمالها كمجموعة بشرية أو كأقلية. إن تسليم مقاليد الأمور في تفسير ماهية القومية العربية وأسسها الفكرية والعقائدية وأهدافها إلى مجموعة من المفكرين والمنظِّرين المتزمِّتين في عروبتهم وفي تفسيرهم للهوية العربية، قد أدخل هذه الهوية في متاهة هي في غنى عنها. فالحل القومي لمشاكل الأقليات في الوطن العربي بأطيافها المختلفة، الذي رافق نشوء الدولة الوطنية عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية، قد فشل في إيجاد المعادلة الصحيحة التي تجمع بين حق الأغلبية العرقية العربية في التعبير عن الذات القومية وطموحاتها وبين إيجاد حلول تلبي آمال الأقليات المندمجة في المجتمعات العربية وطموحاتها. وهكذا فإن بحث العرب عن ذاتهم القومية اتخذ منحى افترض منذ البداية أن كل المواطنين في دولهم الوطنية هم عرب، وأن كل من يريد غير ذلك هو إما خائن أو مرتد. وهذا الافتراض عكسَ تفكيراً شوفينياً إقصائياً أسهم في تفاقم مشكلة الأقليات بأنواعها وأطيافها المختلفة عوض توفير الإطار لحلها على نحو ديمقراطي، وجَعَلَ بالتالي من العقيدة القومية قوة سلبية طاردة عوضاً من كونها قوة إيجابية جامعة.
وهكذا، فإن الهوية العربية بثوبها الجديد المنشود يجب ألّا تكون إقصائية كي تتمكن من أن تكون جامعة. والهوية الجامعة لا يمكن أن تتحول إلى حقيقة إلا في أجواء ديمقراطية تُشعر الجميع بالأمان، وبأنهم سادة مصيرهم، وأن مقدّراتهم هي بأيديهم لا بيد حاكم مستبد أو عقيدة إقصائية. والتطور نحو الديمقراطية سوف يجعل من الدولة الوطنية كياناً أقرب إلى اللامركزية الإدارية، ولو الموسّعة، منه إلى الدولة المركزية، وهي بذلك ستكون أكثر انسجاماً مع مفهوم الحريات والعدالة والمواطنة الناجزة التي تجعل من الهوية إطاراً جامعاً على نحو حقيقي لا نظري، ولا تسمح في الوقت نفسه بقيام أنظمة دكتاتورية مستبدة تسيطر على الأمور بيد من حديد كما كانت عليه الحال في الكثير من الدول العربية المركزية.
إن الغياب الطويل للديمقراطية في بلدان الوطن العربي قد حجب أي إمكان حقيقي للسماح للشعوب بتأكيد أهمية الرابطة القومية العربية، والسعي إلى تكريسها وتكريس دورها في تعزيز مستقبل المنطقة ودولها، وتم ترك ذلك لسياسات الأنظمة الحاكمة لتقرر درجة ومقدار عروبة الأقطار التي تحكمها ومدى التزامها بمتطلبات العمل العربي المشترك.
إن مؤسسات العمل المشترك، التي انبثقت من الجامعة العربية، كانت توفيقية أو تجميلية، وكأنها مرتبطة معاً بلاصق شفاف أكثر منها مؤسسات حقيقية عضوية تسعى نحو التكامل الحقيقي الاقتصادي أو السياسي أو العسكري. وهي بذلك أسهمت في تكريس الأمر الواقع الفاشل أكثر من إعادة بناء الوطن العربي على نحو يعكس جِدِّ العقيدة القومية وصدقيتها. وفي هذا السياق، فقد أسهم الفرق الكبير في المداخيل بين بلدان الوطن العربي النفطية وغير النفطية في خلق شعور أنانيٍّ بالاحتفاظ بالثروة لمن يملكها وحجبها عمّن لا يملكها، إضافة إلى العمل على رفض أي حجج أو أعذار قومية تعطي من لا يملك الثروة الحق بمطالبة من يملكها من العرب باسم الرابطة القومية العربية بمشاركتها واستعمالها لتعزيز دورها في التكامل التنموي والاقتصادي. وقد أسهم هذا الواقع في خلق مؤسسات عمل سياسي تعكس تلك الفرقة، كمجلس التعاون الخليجي، وما تبعها من مواقف وسياسات إقليمية وانتقائية، ولا سيَّما بين دول النفط الغنية، أدت إلى مزيد من إضعاف المد القومي العربي، وخصوصاً في ظل الفشل المتكرر للأنظمة القومية المستبدة، وانتشار المد الإسلامي كبديل للمد القومي الذي ارتبط في ذهن الكثيرين بهزائم العرب المتكررة وفشلهم في تحقيق دولة الوحدة أو في تحرير فلسطين.
****
المصادر
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 469.
(**) لبيب قمحاوي: مفكر وسياسي.