انخرط في الهمّ الأدبي الموسيقي الثقافي
الحضاري وجعله مشروعًا طليعيًا متقدمًا
بدعوة من النائب في حزب”العمّال” شوكت مسلماني، كرم مجلس النّوّاب الأوسترالي في ولاية نيو ساوث ويلز الفنّان الكبير مارسيل خليفة، في حضور نخبة من أبناء الجالية، وشعراء ومثقفين. في المناسبة القى الصحافي والشاعر غسان علم الدين كلمة جاء فيها:
أن يدعوٰني كائنٌ ما كان للكلام عن مارسيل خليفة، في أي محفلٍ ما هو شأنٌ مُقلِقٌ، مُربكٌ، يلقي بعبءٍ ثقيلٍ على كتِفٰي. أمّا وأن تأتي دعوتي من مارسيل نفسه فتلك فرحةٌ لا تُقدّر، وفي الوقت نفسه مسؤوليّة أعرف تماماً خطورتها وآثارها. وهي فضلاً عن الرهبة والخوف المضاعٰفٰين محكٌ صعبٌ، من عملاقٍ، لم يتعملق بفضل شهاداتٍ فقط حقّقها وبجدارة، ومناصب تبوأها، بل استحقّها بالشّغل، بالكد بكل ما تعنى هذه الكلمات من معانٍ وأبعاد. وبإيمانه بضرورة الوعي لتحرير الإنسان العربي من أوهام النُّخب الدّينية والسياسية والثقافية والفكرية الجاهزة. نعم النّخب المستريحة عن أي جهدٍ، أو تنقيبٍ لبلوغ مكامن الحب والجمال والعطاء، والانخراط في الهمّ الأدبي الموسيقي، الثقافي الحضاري وجعله مشروعاً طليعياً، متقدماً، يُحيلنا إلى رؤية ما رأى سارتر فقال إن: “الموسيقى هي ضوء القمر في ليلة قاتمة للحياة”.
كذلك ما قال نيتشيه: “من دون الموسيقى ستكون الحياة خطأً فادحاً”.
إنّها الموسيقى، رحلة مارسيل عمرها ما يقارب النصف قرن. لم يسعٰ خلالها إلى شهرة، ثمرة تُحقّق له الرخاء والاستقرار. ثمرته، تأثيرُهُ في جيلٍ كاملٍ من الموسيقيين والمغنين العرب، الملتزمين بقضايا وهموم شعوبهم. حرّر مناهج المعهد الموسيقي من اتّباع الجاهز من الأنماط والقوالب الموسيقيّة، برؤى حداثية، متقدْمة عالمية. أثّر فينا طلّاباً وأساتذة في المعهد الموسيقي الوطني في بيروت، جعلنا نُقبل على العود آلةً تتمتع بكل إمكانيّات الأوركسترا العالمية. سعى مارسيل إلى بلوغ رؤياه مبلغها لملامسة هموم الإنسان العربي، وتعبيريتها الرافضة حالات القمع والاستلاب والاستبداد السياسي، الديني، الاجتماعي. وقد كان حريصاً على تجربته أن تصل وتحظى بالفهم، والاستساغة وبالقبول لدى الإنسان في أقاصي الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.
لم يهدف إلى شهرةٍ تجعله يعيش الترف والدّعة، وفٰتْح الأرصدة في البنوك، وحيازة الألقاب. بل كان في زمن الحرب ” الأهليّة اللبنانية ” كما في كل حروب الجهل والحماقات في الوطن العربي بِعودِهِ، وبصوته يهدم الجُدُرٰ، يكشف زيف الأوهام التاريخية، الجيوبوليتيكيّة، التي تباعد بين الإخوة، مُريٰهم إياها أنها ليست غير أوهامٍ بأوهام، على شاكلة صانعيها والمروّجين لها.
فما كان يبلغ محطّة لتراه وقد هبّٰ إلى محطّة أخرى من بنك أهدافٍ وُفقٰ رؤيةٍ، ما وهٰنٰت ولا ملّت ولا تراجعٰت.
ومُذ كانت: “أمي، ريتا، جفرا، كما ينبت العشب” كانت الجذوة تتوهّج وتتقِد.
مذّاك صار مارسيل ملاذ عالمٍ كبيرٍ من الفقراء والضعفاء، لكنهم المثقفون، الحقيقيّون، المهمّشون، الممنوعون من التداول في حسابات طواطم تجّار الدّين والسياسة والأخلاق.
مذّاك وهٰمُّ التّجريب والابتكار والخٰلْق والتّجدّد كان ولا يزال يشغفه، يؤرّقه، يحضّه على البذل وعدم الرضوخ للسهل، الهيّن. إنه سٰيرٌ عكس الريح، وهو شرط العطاء وبناء الأفكار العظيمة للأجيال القادمة. عدمُ الميل إلى قول كفى، عملتُ، واُنهِكت.
لا، بل ما كان يهدأ ليُفكّك رؤيا، إلّا ليُجرّب في بناء رؤيا جديدة أخرى، أكثر اتّساعاً وإشعاعاً وملاءمة.
فمن “أمي، وريتا، ويا بحرية”، إلى ” أحمد العربي” و”تصبحون على وطن” و” كونشرتو” و”أمرُّ باسمك” و” تذكّرْ” و” أندلس الحب” إلى” منتصب القامة” إلى” أنا يوسف يا أبي”.
قائمة لا يتّسع المقام لها الآن، ولا هذا الفضاء فضاؤها.
إنّه شغلُ من يسكنه القلق، ويسودُه الهجس الدائم بالتّغيير، بهموم البسطاء، الضعفاء، بالثورة بالبناء القائم على أرضٍ تتحرك على مياهٍ تزحل ولا تغرق، رجراجة لا تسمح للمقيم عليها بالمكوث طويلاً، كيلا يستمرئ الراحة فيتراجع عن البحث والتنقيب والتدوير.
يحضرني هنا رولان بارت الباحث الثقافي، حين سُئل عن رأيه في صديقه روبير موزيل فأجاب:” نصّه المتماسك، المرصوف بالمفردات الكبيرة يفتقر إلى هٰمّ المجرّب، السّاعي إلى الكشف عن العميق الجوّاني البسيط. وهذا ما لا يجعله يلامس بساطة ما يتوخّاه طالب الإبداع”.
فرحتي اليوم، فرحةُ الطالب بأستاذه، وأستاذ جيله كلّه، الذي خلق وأبدع في التجربة الموسيقية، الغنائية، الثقافية سواءً أكان في لبنان أم في العالم العربي، ووضٰعٰ لآلة العود المناهج الحديثة، الرؤيوية، التي تقوم على الكشف والتجاوز.
أستاذي الكبير مارسيل:
أعذرني على قليلٍ ممّا أسعٰفٰتْني به جرأتي، فيما حضورك الكبير المتواضع المحب، يليق به الكثير المستفيض.
لك مني التّحيّة، والاعتراف، أنني ذات يومٍ كنتُ تلميذك، وكنّا فتياناً في”اتحاد الشباب الديموقراطي” في طرابلس، نتتبع نشاطاتك، ونقوم بمهام تطلب منّا لتنظيم حفلاتك في طرابلس، في حلبا، في رحبة، في الكورة. وها أنا اليوم أقف إلى جانبك، في واحدٍ من أرقى المحافل الدولية، أرفع صوتي مردّداً معك: كل قلوب الناس جنسيّتي، فلتُسقِطوا عنّي جواز السفر”. فيا لسعادتي.