نعيم تلحوق الوجه الواحد

    feather_pen 111 سمير مكاوي

 تناول العديد من المقالات والدراسات شعر نعيم تلحوق لتبحث في نوع كتاباته وتواصلها مع مدارس الشعر العربي الحديث ولتنتبه للمضمون والعنوان والموسيقى واقفةً مليّاً عند هذه الاركان في مجمل المؤلفات وبمسارٍ يستشعر التدرّج والنضوج في مراحل التجربة الشعريّة شكلاً ومضموناَ. البعض يرى تشابهاً بين تلحوق وغيره من الشعراء في لبنان والبعض لا يرى هذا الشبه لكنهم يجمعون مجتمعين على خصوصيّة الشاعر في نبضه وفي عمق وثبات أولويّة الاحساس والعاطفة في باطن كلماته وفي عناوين القصائد. لن يتأخّر القارىء عن التماس هذه الخصائص حين يقرأ اعمال تلحوق ، فهنا يختبر قميص الخوف وهناك يلتمس قصيدة في صديق للشاعر توفّى وترك الحزن في القصيدة عجيناً يُخبز كل يوم بعد فراق الصديقين.  

   لن تتوقّف هذه المقالة عند النصوص والعناوين بل ستعالج علاقة تلحوق بما يبوح به ويكتب فيه. كما انّها لن تمسّ الجانب الشخصي للشاعر فهي ليست اعلان ترويجي يبتغي تلميع الصورة وتبريك موضوع البحث والكلام. عرفت نعيم منذ اكثر من عشرة أعوام وكان في بداية هذه الاعوام أديباً رفيقاً يرتاد ذات الامكنة التي أرتادها بنفسي وكان السلام والتحيّة بيننا حدث عفوي ولياقة لا بدّ منها بين اثنين يظن الواحد بالآخر كل الخير. تعرفّت عليه عن كثب عبر الناقد الراحل نزيه خاطر وفي مقهى الكوستا الحمراء في بيروت. يُذكر ان نزيه لم يكن ليسأل فنّان او شاعر الجلوس طويلاً الى طاولته ما لم يكن الأخير مبدعاً مميزاً يعترف به الجميع قبل نزيه نفسه. بعد جلسات طويلة انتقلت من شتاء الى ربيع ايقنت انّ الرجل الأنيق بحديثه وابتساماته يتمتّع بقدرٍ كبير من المصداقيّة. دارت بيننا احاديث مترامية الأطراف ، تباينت في مواضيعها وحدّة اولويّتها بالقياس مع ما كان يدور في الوطن او في الوسط الذي انتمينا اليه. هو شاعر ارستقراطي بالمعنى الأدبي وليس الطبقي ، وان انتمى اليه بحكم التاريخ والواقع. اي انّه ليس من الشعراء الذين يتسكعون أو يتساهلون مع سلوكهم ومظهرهم والحديث ونمط الحياة. هو اقرب الى محمود درويش ونزار قبّاني لجهة التزام الأناقة والفروسيّة في الحضور والعيش والطباع. هادىء مفعم بالحرارة والعاطفة حين يحاور تتلوّن وتيرة صوته مع حجم الموضوع انسانيّاً بالدرجة الأولى وأدبيّاً بالدرجة الثانية. من الخلاصات المؤكّدة انّ تلحوق يرفع الانسان فوق العقيدة ويرفع العقيدة فوق حياته وعلى حسابها. يحاور، يناقش ويناظر بلا حدود ويبوح بما يعتقد به بلا تكلّف وبلا استعراض والأهم بلا عدوانية أو فوقيّة قد تُتاح له لأسباب عدّة ، لكنّها لا تغريه ولا تسوقه الى أن يخدش صورة الشاعر الانسان الذي يلتزم “البوح” في مجالسه كما التزمه عنواناً لكتابه. يُسافر، يختلط بالناس يعيش حضارات الآخرين بأقدام غير مشروط او متحفّظ ليكسب المزيد من الثروات الوجدانيّة ويتمعّن بما يتمنّاه لأهله في الوطن وما يُغني حياته الثقافيّة ويحفّز آليات التقدّم والتطوّر فيها. السفر شكل من أشكال البوح معادلة يعيشها تلحوق من حيث يدري أو لا يدري. بات من الصعب أن يكتب الأدب والقصيدة من يلازم بيته أو بلدته أو حتى مدينته وان كانت عاصمة كبرى. فالانسان واحد والمناخات الانسانية متعدّدة وملوّنة بالوان طبيعة ارض الانسان وحضارته او ثقافته وتاريخه. كيف نكتب عن بغداد ونحن لم نلازم حمراء بيروت وكيف نكتب عن المانيا ونحن الغرباء عن موانىء بلادنا الجويّة والبحريّة. سافر نعيم الى المانيا والى الصين والى بلدان اخرى. فاعجب بفهم أهل الصين لصيرورة الحياة ، مع العقيدة وتصريف الأعمال دون نسفها أو الغائها وأُعجب بأحترام الالمان للابداع والعطاء الانساني اوّلاً والأدبي ثانياً. تسأله كيف الحال فيجيب بعفويّة بعيداً عن تكلّفٍ ، تختبره مع أدباء آخرين يسعون بأستمرار الى استعراض المفردات المعقّدة حتّى في التحيّة أو في وصف وجبة غداء او عشاء. وهكذا هو في قصائده كلمات من رحم الناس كل الناس بمضامين غائرة في عمق الانسان وأحاسيسه وعمق فكرهِ والتأمّلات. يؤمن بتواصل مسار الشعر الحديث مع أصوله المتجذّرة في تاريخ مشرّف ومع كل الاحتمالات المستقبليّة لجهة موسيقى الكلمة ونوع المضمون وشكل القصيدة ومكوّناتها. يعشق “الفاصلة” ولا يحالف نقطة الوقوف القاطعة. فالانسان مسارٌ يليق الاحترام بكل تطوّر يطرأ عليه او ينتج عنه. يكره الجمود والحتميّات ويعشق الكلام عن استحالة الثابت وحيويّة المتحرك والمتحوّل. وكذلك تقول قصائده حين تحدّثت عن المرأة وعن الوجود أو العدم. يتداول أفكاره في شعرِه دون خلاصات تقفل ملفّات المضمون وكأنّها فضاء منفصل عن الحياة التي بدورِها شيمتها التغيّر والتبدّل. هذه هي المصداقيّة التي ورد الحديث عنها اعلاه وبالتّالي تنسحب اوّلاً على شعر تلحوق ومن ثمّ على شخصه وسلوكه.

 تلحوق ينشغل بتفعيل الحياة الثقافيّة في لبنان عموماً وبيروت على وجه التخصيص عبر اشرافه على اندية شعريّة تقوم على لقاء دوري يحتضن شاعراً كل اسبوع ويقدّمه الى جمهور صغير من المهتمّين بالأدب والنقد والتذوّق. ولا يكتفي بالاشراف بل يتابع الامر الى حدود دعم الشاعر الجديد باتجاه الوجهة التي يستحق والتي تصل أحياناً الى تأمين ترجمة أعماله او الاعلان عنها خارج حدود الوطن. لا يمل تلحوق من الوقوف بجانب الشعراء الشباب حتّى حين تمر الأيّام الطويلة خاوية من موهبة يعتدُّ بها أو يبنى عليها. ويحسب لنعيم انّه لا يشجع من شابهه في الاسلوب او المضمون متعاطفاً معه على حساب آخر يختلف عنه او يلتزم مدرسة أدبية مغايرة.

 تلحوق شاعرٌ يُقلد بأدبه وشعره وأخلاقه ، ليس حبّاً بالاخلاق الحميدة فحسب بل حبّاً بنتاجها الطيّب ومنه مواهب واعدة اضافة الى إعادة صورة الشاعر الفارس التي كانت في انكلترا القرن السابع عشر من الالفيّة الثانية او زمن الشعراء العرب في الألفية الأولى والذين اقتدت بهم أجيال وأجيال. نعيم تلحوق يقدّم يوميّاً نموذج الشاعر الذي يكتب كما يعيش ويعيش كما يكتب.  

                                                                                            

اترك رد