سيكولوجيا المشاعر والانفعالات في زمن التنويم المغناطيسي

كتبت إيلينا فيرانتي في “الصديقة المذهلة”: “دون حب ليست حياة الأشخاص فقط أكثر فقرا، لكن حياة المدن أيضا. المدينة من دون حب تعني أشخاصا غير سعداء”. والأمثلة؟ ألمانيا تحت النازية وإيطاليا تحت الفاشية.

و لبنان ليس استثناء. يكفي أن نعاين ما يحيطنا من شقاء كي نتأكد من دقة هذا التوصيف. فتحت رعاية الطبقة السياسية الخاضعة لحزب الله؛ احتلَّ لبنان، الذي عرف يوما بسويسرا الشرق، المرتبة 93 بين 155 دولة عام 2017 على مؤشر السعادة. فالسعادة، إضافة إلى الرفاهية، يعتبران مؤشرين أساسيين لنوعية التنمية البشرية.

لننظر حولنا، من يشعر أنه يتمتع باتزانه الذهني والعاطفي والانفعالي؟ لا نسمع سوى الشكوى من الاكتئاب الذي يغرق الجمهورية بأكملها. انتحارات بالجملة ونسب طلاق غير مسبوقة وجرائم شنيعة. والصعوبات تبدأ من العلاقات العاطفية بين اثنين إلى الأسرة ومع الجيران ولا تنتهي سواء في العمل أو الشارع. إنه العنف المتفشي الناتج عن الضيق الانفعالي الخانق وعن افتقاد انفعالات مشاعر الحب.

يمتلك البشر مشاعر وانفعالات في كل مكان وزمان، ولكن تعبيراتها تتغير مع الزمن ومع الأوضاع الاجتماعية ومع النظم السياسية.

حتى علاقات الحب متبدلة. فالحب الذي وصفه أوفيد ليس هو الحب كما أطلعنا عليه طوق حمامة ابن حزم؛ ولا هو الحب كما رآه أريك فروم، ولا الحب الذي تكتب عنه إيفا إللّوز.

الحب زمن أوفيد اليوناني سطحي وسهل بحيث لا يتورع عن إعطاء نصائح بالكذب والمداهنة والتصنع. إنه بعيد عن مفهوم الحب كشعور عميق بالأمن والثقة كما يتجلى عند إريك فروم. أوفيد يبيح كل شيء متاح مقابل الظفر بقلب المرأة ـ العشيقة.

لكن التاريخ يجعلنا ندرك أن الحب كان دائما محل تجاذب بين “حب حقيقي أبدي” و”حب زائف وزائل”. يعتبر إريك فروم في “فن الحب”، أن البشر متعطشون للحب. يذهبون إلى السينما لرؤية أفلام عن قصص الغرام السعيدة والتعيسة. يستمعون إلى الأغاني العاطفية التي تحكي الحب ويتناقلون أشعار الحب ويحتفلون بيوم للحب. المشكلة أن الجميع يريدون أن يُحَبوا لا أن يَحِبوا. وكأنهم عاجزون عن الحب. يرجع فروم الأمر منذ الستينيات إلى مجتمع الاستهلاك والدعاية. تحول الحب إلى ما يشبه السلع الكثيرة المستهلكة والأشياء التي تخضع للعرض وللطلب.

وفي هذا المنحى عينه، صدر كتاب “السلع الانفعالية” (es Marchandises émotionnelles) لإيفا إللّوز (Eva Illouz)، التسليع برأيها طال مجمل الانفعالات ولم يعد يقتصر على الحب، مستنبطة تعبير “الرأسمالية الانفعالية”. وتقصد “رسملة المشاعر”. أي أن الرأسمالية تستخدم جميع انفعالاتنا وتصنعها فتحولها إلى “إيموجي”، تحت شعار “أيديولوجيا السعادة”. فالسعادة الآن باتت مطلبا جماهيريا.

إنها سيرورة تُخضع كافة الانفعالات ولا تكتفي بربطها بالمنتجات الاستهلاكية بل تذيبها بها كي تصبح هي نفسها سلعا. لا نعود نعرف بعدها أي منها مشاعرنا الحقيقية وتلك الزائفة. ما يشيع مشاعر من “لاطمأنينة الاضطراب”. فكيف إذا كان الوضع مهددا بالانهيار التام كلبنان؟ وكل شيء فيه تحول إلى سلعة؟ من الناخب إلى المنتخَب، إلى الوظيفة والحقوق والخدمات. ندفع مقابل كل شيء في لبنان. فأين سيجد الحب مأواه؟

بعد أن أصبح الحب المؤشر الأهم لقيمة الذات، صار الألم الذي يتسبب به أكثر إيلاما. لم يسبق أن ارتبطت نوعية الحياة الجيدة ومشاريعنا الحياتية بالمشاعر بهذا القدر. النجاح اليوم لم يعد يقتصر على امتلاك المال ومستوى معينا من الحياة. لكن يجب تحقيق الذات بجنسانية نشطة ومزدهرة، وبعلاقات جيدة مع الشريك والأطفال وفي المحيط عموما. إنها مسيرة نضالية، لأنها تتطلب منا أن نسأل أنفسنا طوال الوقت: من نحن وماذا نريد وماذا نشعر وهل مشاعرنا متلائمة؟ هل نشعر كما يجب؟ ألا يجب أن نكون أكثر سعادة وأقل غضبا وأكثر ثقة!

لكن العقلنة التي تترافق مع تكثيف الحياة الانفعالية لتجعلها أكثر منهجية وانضباطا تجعل المشاعر من ضمن التصنيفات العلمية المجردة؛ كالليبيدو والأوديب وسائر تعابير الخبراء المستجدة…

وسيرورة العقلنة هذه يجب أن تخدم هدفا. ما يعني إيجاد تقنيات تساعد على تكييف مشاعرنا مع الأهداف الملائمة. فلا نحب شخصا لا يبادلنا هذا الحب. ونقيس مشاعرنا بالميزان، فلا نوظفها كيفما اتفق. كل توظيف يجب أن يكون مربحا. يحمل من اللذة أكثر مما يحمل من الألم.

يصبح نسيان الذات والتخلي عنها أمرا غير مفهوم إن لم يكن مَرضيّا. تصبح وصفة فروم بأن الحب هو الحل الوحيد لمشكلة الإنسان الذي يشعر بقلق الانفصال، وأن المحب هو من يمنح نفسه بكليته لأنه حينها يكون قويا وغير عاجز. كل ذلك يصبح من عالم آخر لم يعرف بعد وصول النفعية إلى صلب المشاعر التي جعلت من العذاب عارضا مرضيا يجب معالجته لإزالته؛ ما يجعل مولانا جلال الدين الرومي من كوكب آخر.

التضحية لم تعد مقبولة لشخص ناضج وبصحة ذهنية جيدة. النسوية والثقافة النفسانية وعبادة الحرية جعلت الحياة العاطفية مرتكزة على تطلب المساواة واستقلالية القرار. لسان حال العاشق: نحن معا حتى إشعار آخر. ما يخفف من كثافة الانفعالات. لكن في الوقت الذي اختفت فيه المعايير التي تمنع الانفصال، أصبح تعلقنا بالآخر أقوى من أي وقت مضى.

في المجتمع التقليدي لم يكن الرفض المحتمل من الآخر يتعلق بجوهر الذات، بل بالوضعية الاجتماعية. الآن يعاش كل نبذ كأنه نبذ للأنا. ويصيب شعور الشخص بقيمته ما يجعله أكثر هشاشة.

في المجتمع اللبناني تتراكم جميع هذه الصعوبات الناشئة عن مرحلة العولمة والتسليع المتفاقم مع مرحلة التردي والشقاء المعمم على جميع المستويات. فنصبح مجتمعا هشا وضعيفا وقابلا للإصابة بمختلف الآفات والأمراض، الأمر الذي يتأكد لنا يوميا.

نشرت مجلة “ليبراسيون” مؤخرا شهادات لألمان عاشوا تحت حكم هتلر وسردوا ذكرياتهم. 281 شهادة في 2000 صفحة. جاء على لسان أحدهم: “منعونا من الوجود”. إنه نوع من تنويم مغناطيسي جماهيري. إذ كيف يمكن أن نفهم أن مجتمعا بأكمله يتم الإمساك به بتلك الطريقة دون نوع من المشاركة النشطة من المواطنين؟

تحكمت النازية في المجتمع لأن سلوك الأكثرية راكم جبنا وتخاذلا؛ وأدى استمرارها إلى إيجاد الشروط الضرورية لتنفيذ أفظع الجرائم المنظمة ضد الإنسانية. إنه نوع من التنويم المغناطيسي الجماعي، يعلق أحد المنفيين بقرف. كان المجتمع الألماني مؤهلا حتى الإغماء كي يصرخ ويصيح، يعذب ويتعذب وأن يترك نفسه لينقاد ويقيد، ويترك سلاسل قيده تنغرز عميقا في لحمه.

وهذه حالنا، يا للأسف. وآخر مآثرنا، التي لم تفعل سوى إشعال وسائط الاعلام حتى الآن، كانت إحراق جورج زريق نفسه احتجاجا على عدم اعطائه افادة مدرسية تسمح له بنقل أطفاله إلى مدرسة حكومية، لعدم تسديده القسط. فهل سيغير موته من الأمر شيئاً؟

****

(*) النهار 10 فبراير  2019.

(*) يُنشر أيضاً على “الحرّة”.

اترك رد