مارسيل بروست.. حياة في رسائل

 

أخيرا تتحفنا دار الرافدين للنشر برسائل العبقري مارسيل بروست ترجمة ربيع صالح . يعتقد القراء ان بروست لم يكتب سوى ملحمته الروائية ” البحث عن الزمن المفقود ”  ، لكنه كان قد نشر مجموعة بعنوان “المسرات والأيام ” –  ترجمها الى العربية جمال شحيذ – صدرت عام 1896 وكتب مقدمتها أناتول فرانس الذي تنبأ فيها للشاب الذي يبلغ انذاك 25 عاما بانه سيثير الإعجاب بقدرته على الصراحة والصدق وتوغله في الحياة بكل تفاصيلها.

دائما يثار السؤال : من قرأ رواية البحث عن الزمن المفقود ، والتي تحتوي على 500 شخصية رئيسية ومايقارب الثلاث الاف اسم علم، ظل القراء منذ وفاة كاتبها عام 1922 يبحثون عن اصولها وعلاقاتها والاماكن التي عاشت فيها  ؟ ..صدرت الترجمة العربية للرواية باجزائها السبعة المرة الاولى في منتصف السبعينيات حيث قام بالترجمة  المترجم السوري القدير الياس بديوي ، الجزء الاول بعنوان ” جانب منزل سوان ” صدرعام 1977 ، الا ان المشروع توقف عند الجزء الرابع الذي صدر عام 1982 ، بعدها يعود المترجم في منتصف التسعينيات ليترجم الجزء الخامس ، وبعد وفاته يكمل المترجم جمال شحيذ ترجمة الجزء السادس الذي صدر عام 2003 ، والسابع الذي صدر عام 2005 ، واتذكر ان جريدة اخبار الأدب المصرية أصدرت عددا خاصات احتفالاً  بصدور رواية بروست كاملة والتقت بعدد من الكتاب لتسألهم من اكمل قراءة البحث عن الزمن المفقود ، وكانت المفاجاة ان نجيب محفوظ وحده الذي اجاب بكلمة نعم فقد قرأ الرواية كاملة بنسختها الانكليزية ، وكان ذلك في منتصف الخمسينيات حسب قوله .

ولد مارسيل بروست في 1871 لطبيب مشهور وأم يهودية من عائلة ثرية كانت تهوى القراءة وزيارة المتاحف ، في التاسعة من عمره حين أصيب بمرض الربو الذي رافقه حتى اليوم الاخير من حياته ، في مراهقته تعلق بعدد كبير من النساء ، لكن لقب المخنث ظل لصيق به ، لم يخرج من البيت إلا ليلاً ، اصيب بانهيار عصبي بعد وفاة والدته  وهو في الرابعة والثلاثين، عاش معظم حياته ممددا على السرير في غرفة اضيئت بمصباح اخضر اللون ، وعزلت جدرانها بمادة تمنع وصول أصوات الخارج اليه ، أدمن الوحدة والانعزال بناءً على وصايا أمه التي كانت تخاف عليه بشدة.

بعد واحدة من خلواته الليلية ، جلس في غرفته يقرأ مرتجفاً من البرد ،قدمت إليه امه فنجاناً من الشاي مع صحن من الكعك الذي ما أن وضع قطعة منه في فمه حتى غمره شعور بالنشوة ، أغمض عينية ليسترجع ماضياً كان قد اعتقد لسنوات أنه دُفن بين رُكام الذاكرة. أعاده طعم الكعك إلى بيت عمته التي كانت تحضّر له كلّ صباح هذا النوع مع كوب من الشاي. .ليتجه بعدها إلى مكتبه الخشبي يخرج الأوراق ليخط الجملة الأولى في روايته : ” كثيرا ما أويت الى سريري وكانت عيناي احيانا حالما اطفيء شمعتي ، وتغمضان بسرعة لاتدع لي متسع من الوقت اقول فيه ” أنني انام ” . ان البحث عن الزمن المفقود التي استغرق تاليفها خمسة عشر استغرقت معظم حياة مارسيل بروست ، وهو يؤكد فيها وجهة نظر مفادها ان الحياة التي يعيشها الانسان وهو يتطلع إلى امام ، لكنه يفهمها وهو ينظر إلى الوراء .وفي مرحلة من مراحل حياتنا ، يكون ما هو رواءنا أكثر إثارة للاهتمام مما هو امامنا.

unnamed

في البحث عن الزمن الضائع يحاول بروست تذكر الماضي مع أمه ، وأيام طفولته الأولى ، حين كانت أمه أحياناً ترفض الصعود الى غرفته لتطبع قبلة على جبينه قبل ان ينام ، أراد ان ينتشل الأيام الماضية من هوة النسيان ، في مساء السابع من تشرين الثاني عام 1922 قال لأحد اصدقائه إنه إذا عاش هذه الليلة فإنه سيثبت للأطباء انه أقوى منهم ، ومن بين هؤلاء الأطباء كان أخوه روبرت الذي توسل لمارسيل من أجل ان يعالج في عيادة طبية ، ما حدا بمارسيل منعه من دخول البيت . فقد كان بروست يتشاءم من عيادات الأطباء ، فهو يتذكر أن أمه أخبرته انها كادت تموت عند ولادته وانه ولد عليلاً ومحتاجاً للرعاية ، كانت تنتابه مخاوف ليلية ، وكان يغرق كل مساء في حزن عميق ، فهو ضعيف البنية شديد الحساسية وفوق هذا هو مدلل والدته ، التي ارتبط بها بشكل عنيف ، وقال لأمه ذات يوم انه يفضل ان تنتابه أزمة الربو وتظل أمه بالقرب منه لاتفارقه .

في البحث عن الزمن الضائع هناك ثلاث حكايات غرامية ، تشارلس سوان القيادي في الحزب الاشتراكي يهيم حبا باوديت ، ويتمكن من الزواج منها في النهاية ، بعد ان يعاني سنوات من الحب والغيرة . ابنتهما جيليرتي ، هي اول قصة حب للروائي مارسيل بروست قبل ان تتزوج صديقه المقرب سان لوب ، بعدها هناك قصة الحب المعقدة التي يعيشها الروائي مع ألبيرتيني سيمونيت ، والتي انتهت بهروب الفتاة ، وموتها بعد ذلك

تبدأ حكايات الحب تتواصل ومعها الغيرة والشبق الجنسي ، والشذوذ ، والحب المستحيل ، حيث يقدم لنا مارسيل بروست كوكبة متنوعة من اعظم الشخصيات حيوية في تاريخ الأدب ، لانجد لها مثيلا إلا مع اعمال وليام شكسبير .

رفض الناشرون مخطوطة الجزء الأول ، وتساءل الناشرين لماذا يحتاج الكاتب الى ثلاثين صفحة ليصف تقلّبه في فراشه قبل أن ينام. نشر بروست الرواية على حسابه لتصدر عن دار صغيرة . كان أندريه جيد رفض المخطوطة عندما قدمها بروست لدار غاليمار ، لكنه اعتذر عن تصرفه الاحمق كما وصفه فيما بعد .

بدأ كتابة رائعته بعد جدال مع الناقد الشهير سانت بوف الذي كان يرى ان حياة الفنان تتحدد في أهمية عمله الادبي او الفني .

كان بروست ، رجل انعزالي جداً ، كما يقول في العديد من رسائله ، كرس  معظم ساعات الاستيقاظ لعمله الروائي ، ، تحدث في الرسائل دون توقف ، مثلما كان يتحدث في البيت  مع  مديرة منزله سيلين التي كان  يتحدث معها وهو ممدد على السرير  متكئًا على وسادتين ، بينما كانت تقف عند حافة السرير.

يصف أندريه جيد ، رسائل بروست  بان صاحبها  : ” أراد دائما أن يقول كل شيء ، كما هو الحال في كتبه ، والذي نجح فيه عن طريق اللانهائية من الأقواس والخطوات والتغيرات في المزاج “.

في الرسائل نجد الملاحظة الدقيقة وتكشف لنا ايضا تطور خيوط الفكرة عند مارسيل بروست،  يضيف اندريه جيد :”  يمكن للرسائل أن تكون كاشف لشخصيته ، لانه كان يرسلها دون ان ينقحها عكس ما كان يفعل في روايته ”

تظهر الرسائل ، المكتوبة على مدى سنوات تبدأ من 1855 وتنتهي 1922 كيف كان بروست صاحب مزاج مختلف ومتقلب وظروف صحية متغيرة  ، كما انها تسلط الضوء على جوانب مختلفة لشخصيته. وخصوصا عندما يكون كريماً وممتعاً في بعض الاحيان  : “على الأقل سأكون فرحاً أن تلك العيون الجميلة قد استقرت على هذه الصفحات” ، أو بليغ بدرجة مدهشة : “أصبحت خلوتي أكثر عمقا ، وأنا لا أعرف شيئا عن الشمس ” .

تكشف رسائل بروست عن شخصية الكاتب المهتم باراء قراءه رغم خلافه مع هذه الآراء في بعض الاحيان ، ففي واحدة من الرسائل يكتب الى صديقه والتر بيري ان فتاة اميركية كتب له عن روايته البحث عن الزمن المفقود 🙁 لن اعيد عليك ما كتبته في رسالتها باستثناء الخاتمة :” بعد ثلاث سنوات من القراءة المتصلة فأن الخلاصة التي خرجت بها هي ما يأتي ، لم افهم شيئا على الاطلاق .عزيزي مارسيل بروست ، ارجو أن لاتكون مغروراً وانزل لمرة واحدة من برجك العاجي ، وقل لي في سطرين ماذا اردت ان تقول للقارئ ” . اعتقد انني لن ارد على رسالتها ، فكيف لي أن أجعلها تفهم في سطرين ما لم تفهمه في الفين من السطور ، أو ما لم احسن التعبير عنه في الفين من السطور ، سوف تعتقد الفتاة الاميركية بانني متكبر متفاخر ) ..وفي رسالة اخرى نجده فرحاً مثل طفل وهو يتلقى المديح عن روايته :” صديقي العزيز .انك شخص مذهل ورائع ، انك تقول ان كتابي ساحر .سوف تجد انه يرضي ما لديك من حس اخلاقي ” .

سيعطي كتاب رسائل مارسيل بروست الحافز للعديد من القراء الذين يرغبون بقراءة روايته ” البحث عن الزمن المفقود ”  فالرسائل تكشف لنا تطور كتابة الرواية المثيرة للجدل ، وايضا  قوة الإرادة لدى بروست وشغفه بالفنون وحرصه على الدقة المتناهية في الكتابة .

يوصف مارسيل بروست بانه شهيد الجمال الذي ضحى بحياته من اجل ان يكمل روايته ، حيث نقح اجزائها الأخيرة وهو على فراش المرض. لم يتنازل عن ساعة كتابة ، من اجل اللقاء بشخص ما او مجاملة صديق ، لأن ذلك كما يخبرنا في رسائله يشبه التضحية بالحقيقة لمصلحة الوهم، يكتب جان كوكتو الذي حضر وفاة بروست ، وقرا بعض من رسائله  ان :” الاوراق التي سجل عليها بروست ملاحظاته وافكاره ورسائله تبدو لنا مثل ساعة تدق على الذاكرة “.

اترك رد