اتّفقت كثيرٌ من المَصادر الآثاريّة على أنّ المَكتبات كانت ابتكاراً من ابتكارات بلاد الرافدين، فأوّل من جمع النصوص ونظّمها هُم السومريّون في حوالى 2500 ق.م؛ وبحلول عصر آشوربانيبال، في القرن السابع قبل الميلاد، صار بالإمكان العثور على المحفوظات في أماكن كثيرة متعدّدة، وكان الكَهنة يستشيرون النصوص الدينيّة، وكانت القصور تحتفظ بالحوليّات، والمُراسلات، والمُعاهدات، ولم يكُن الاحتفاظ بهذه السجلّات حكراً على القصور والمَعابد، بل كانت عائلات التجّار تحتفظ بسجّلاتٍ عن العقود والمُراسلات التجاريّة، كما كان الأفراد يجمعون مَكتبات صغيرة مكوّنة من نصوصٍ دينيّة وأدبيّة من أجل الفائدة والمُتعة الشخصيّة.
لكنّ آشوربانيبال ذهب إلى أبعد من هذا، فكانت مجموعته من الرُّقم الطينيّة والصخريّة هي الأرشيف المحفوظ في القصر الذي ورثه عن أبيه وجدّه، غير أنّه، بفعل اهتمامه الثقافي والديني، أضاف إليه كثيراً، وزاد في إثرائه، وحين تولّى الحُكم بنى له قصراً خاصّاً به، شمال قصر أبيه، ضمّ إليه غرفةً كبيرة جَعَل منها مكتبةً للقصر، وأودع فيها ما تحدّر إليه من العهود السابقة، ومن ذلك “مَلحَمة كلكامش”، كما أصبح معبد نَبو، إله الكتابة، ثالث المخازن الكبرى في أرشيفه؛ حيث شكّل مع المخزنَين الآخرَين مجموعةَ آشوربانيبال الكبرى التي كانت تنمو باستمرار طوال حكمه الذي استمرّ زهاء أربعة عقود، ولم تكُن مكتبته أكبر مكتبة ابتُكرت، فحسب، بل أشملها أيضاً؛ إذ استوعبت نصوصاً مهمّة من كلّ أنحاء إمبراطوريّته، وأفضلها تنظيماً حيث كانت الألواح تُنسخ بصيَغٍ قياسيّة ثابتة، ثمّ تُرقَّم بعناية وتُعنْوَن وتُصنَّف. وكانت تُبذل جهودٌ عظيمة لضَمان دقّة النصوص الأقدم. ويعود الفضل في معرفتنا لأدب بلاد الرافدين اليوم إلى مُقتنيات آشوربانيبال بالدرجة الأولى ، كما انتهى ديفيد دامروش إلى ذلك في كِتابه “كِتابٌ بين الرُّكام”.
“آشوربانيبال” أوّل مَكتبة عامّة في التاريخ حتّى يثبت العكس
جرى الاتّفاق على أنّ مكتبة “آشوربانيبال” هي أوّل مَكتبة عامّة معروفة في التاريخ، فتكون هي الأرشيف الأوّل المعروف في التاريخ البشري إلى أن يثبت عكس ذلك. وينبغي الأخذ في الحسبان تداخُل وظيفتَي المكتبة والأرشيف في أوّل الأمر قبل أن ينفصلا عن بعضهما، وتبقى المَكتبة، في وظيفتها العامّة، جزءاً من الأرشيف العامّ الذي يؤدّي وظيفةَ حفْظ المأثورات الشفويّة والكتابيّة، مهما كانت أشكالها، وحمايتها في أماكن خاصّة، والإفادة منها. وبذلك يجوز اعتبار مكتبة آشوربانيبال أوّل أرشيفٍ معروفٍ في التاريخ. من الصحيح أنّ هنالك مكتبات شخصيّة قبل ذلك؛ لكنّ هذه المكتبة هي الأولى التي جرى تحديد وظيفتها العامّة، المتمثِّلة في الحفاظ على الموروث الثقافي والتاريخي والدّيني لبلاد الرافدين من شمالها إلى جنوبها، بما في ذلك ثبْت الملوك القدامى في المنطقة، وقد خُصِّص للقيام بذلك عددٌ وافرٌ من النسّاخ والكتّاب الذين تولّوا تدوين ذلك كلّه في مئات آلاف الألواح الطينيّة المشويّة بالنار، وفيها حُفِظ التراث السومري والبابلي والآشوري. وإذا كان الأرشيف الحديث هو المكان الخاصّ بحفظ السِّجلات والوثائق، فسيكون الوسيط بين الثقافات حينما يُدرج نفسه في تيّار الإرسال والاستقبال العابِر للّغات. وقد خلص “ألبرتو مانغويل” في كِتابه “المكتبة في اللّيل” إلى أنّ أشوربانيبال كان ” مُدرِكاً تماماً للرابطة بين الحاكِم والكلمة المكتوبة”. فقد عُثر على لَوح يحمل تعريفاً به بوصفه “مَلك العالَم”، وقد وَهبته الآلهة نفاذ البصيرة، ومنحه نبو، إله الكتابة، الحِكمة، فكتبها على الألواح، وجَمَعها، ورتَّبها متدرّجةً، من أجل أن يسهِّل له قراءتها، واحتفظ بها في قصر. وبعمله العظيم، وفَّر آشوربانيبال فرصةً نادرة لمَن جاء بعده في معرفة تاريخ بلاد الرافدين، وبذلك جرى ربط وظيفة الأرشيف بالهويّة.
أيّ خطر يتهدَّد الأرشيف بعد؟
وإذا كان “الأرشيف” في التاريخ القديم يتألّف من خزانة لإيداع الرُقم الطينيّة، والنقوش الحجريّة، وأوراق البردي، والجلود المدبوغة، فقد تطوّر، في العصر الحديث، وآل الحال به إلى مجموعة مبانٍ غايتها حفْظ ملايين الوثائق بأشكالها الكتابيّة والصوريّة، وانتهى الأمر بأقراصٍ صلبة كبيرة الحجم حفظت الصور الرقميّة للوثائق، وصار أمر تداولها عبر الشبكة العالميّة مُتاحاً للباحثين والمتخصّصين، وربّما لعامّة المُتصّفحين. وفيما كان الأرشيف يعاني من مشكلات الحفظ والاطّلاع، وتعذُّر العثور على الوثائق المطمورة فيه، أمسى، بالفهارس الإلكترونيّة، والتبويب الحديث، سهل المنال، وربّما يكون الأرشيف، بطرائق الحفْظ المُحكَمة، أصبح في منأى عن التآكل، والتَّلف، والضياع، وهي من الآفات التي تسبَّبت بأضرارٍ بالِغة في كثيرٍ من الأرشيفات عبر التاريخ، فضلاً عن الكوارث الطبيعيّة من زلازل وفيضانات، أو الأعمال المقصودة كالحروب والغزوات، وما يتبعها من تدميرٍ أو نهب. فذلك كلّه أصبح من تركة الماضي، فقد بلغ الأرشيف منطقة الأمان نتيجة تطوّر وسائل الحفظ والتصوير والاستنساخ، وبإدراجه في شبكة الإنترنت، وحفْظه في أقراصٍ صلبة، وإيداعه في أماكن حصينة، أضحى في مأمنٍ من صروف الدهر العفويّة أو المدبَّرة. لكنّ ما يتهدّد الأرشيف في المستقبل هو غير ما كان يهدّده في الماضي؛ فتوسُّع المادّة الأرشيفيّة، وتداخُلها، وعدم الإفادة منها في تغذية الذاكرة، وصَون الهويّة الجماعيّة، في ظلّ العَوْلَمة، أصبح من الأخطار التي تهدِّد وظيفة الأرشيف. فلا خوف على الأرشيف نفسه، ولكنّ المَخاطر تُحدق بوظيفته العامّة في صَوغ الوعي الجَمعي بالهويّة. وبتوافر وسائل الاتّصال، وتطوّرها، أصبحت محتويات الأرشيف ميسورة للجميع، لكنّ التحيّزات الثقافيّة التي بشّرت بها العَولَمة خدشتْ صلة الإنسان بالماضي باصطناعها أنموذجاً ثقافيّاً ما عاد يأبه بمأثورات الماضي، ولا يقدِّر مخزون الذاكرة الجماعيّة، وأمسى التفكير في أرشيفٍ يُديم التواصل بين الثقافات، مع مراعاته للخصوصيّات، والتنوّعات، أمراً ضروريّاً. فغاية العَولَمة هي تخطّي تركة الماضي بافتعال ذاكرة لا أعماق لها، وبذلك سيحلّ الابتذال والنفعيّة محلّ الجديّة والفائدة، وقد يعمل الأرشيف الجامع على إنصاف الثقافات الطرفيّة، ويضفي عليها التقدير والعناية، ويؤدّي وظيفة تعميق وعي الشعوب بهويّاتها بدل أن تتعرّض للمحو من النماذج الثقافيّة الاستهلاكيّة الجاهزة؛ وذلك هو “الأرشيف الكَوني”.
من الضروري ربط دلالة الأرشيف بوظيفته الحقيقيّة، وهي الحفاظ على الذاكرة الجماعيّة وتزويدها بما تحتاج إليه، وبغير ذلك يصبح الأرشيف عبئاً لا فائدة منه. وبذلك يؤسِّس الأرشيف وعياً أصيلاً لدى الشعوب ببدايات الأفكار والظواهر، وبتطوّراتها عبر الزَّمن. وعلى هذا، فقد ذهب “دريدا” في كِتابه “حمّى الأرشيف الفرويدي” إلى أنّ كلمة أرشيف تحيل على معنى البدء، ولها صلة بمبدأ الأشياء، ويكون البدء مرتبطاً إمّا على وفق الطبيعة أو على وفق التاريخ، وبذلك فهو يشير للأصل، ويحيل الجذر اليوناني لكلمة (أرخيونArkheion) على البيت المعلوم، أو المَسكن المعروف، وما لبث أن تطوّر المفهوم فصار يحيل على السجلّات الرسميّة.
يتولّى الأرشيف، والحال هذه، مهمّات كثيرة يُمكن تقسيمها على نوعَين من الوظائف: وظائف فرديّة يتولّاها الباحثون لفائدة البحوث، ووظائف عامّة تتّصل بحاجة المؤسّسات إلى الوثائق في رسم سياساتها. وللأرشيف، كما سلف القول، تاريخٌ عريق في ثقافة الشعوب قاطبة، وهو بمعنى من المعاني يمثِّل الذاكرة القوميّة لأيّ شعب من الشعوب، ويُمكن تقسيم الأرشيفات إلى أرشيفات محليّة، وإقليميّة، وقاريّة، وكونيّة، وتتوافر حاليّاً مؤسّسات وسيطة لترحيل الوثائق من أرشيفٍ إلى آخر، ولعلّها تنتهي بـ”أرشيفٍ كَونيّ” يجمع الأرشيفات كلّها، ويستخلص ما فيها من وثائق مهمّة لها صلة بتواريخ الشعوب، وتجارب الأُمم، والأحداث الفاصِلة في التاريخ الإنساني بوجوهه السياسيّة والاقتصاديّة والدينيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والبيئيّة والعلميّة. ومن المهمّ مُراعاة أمر هذه الخزانة الافتراضيّة الشاملة للمستندات العالميّة، وإتاحة تداول محتواها للمُستفيدين منها الآن أو في المستقبل.
ظلّ الأرشيف مستودعاً للوثائق بأشكالها المُختلفة: الحجريّة، الطينيّة، والجلديّة، والورقيّة، والبصريّة، والسمعيّة، والرقميّة، لكن ينبغي اقتراح وظيفة أخرى للأرشيف، وهي أن يكون مُصدِّراً للمَعرفة العامّة، وصائناً للهويّات الجماعيّة، ومُحافظاً عليها من النسيان؛ يتحقّق ذلك بإدارج محتوى الأرشيف في تيّار المعرفة الإنسانيّة، وتسهيل الانتفاع به في سائر إرجاء العالَم، وقد تصبح دار الوثائق محطّة إرسال للمَعرفة تبعث بما فيها إلى كلّ مكان، فذلك يعمِّق معرفة العالَم بنفسه حينما يُعيد الاعتبار للمأثورات المنسيَّة، والوثائق المَطمورة، بوضْعها تحت النَّظر، وتسهيل أمر ترجمتها لكلِّ مَن يحتاج إليها.
****
(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة افق 31 يناير 2019.