الحياة الموسكوبية من ثقب إبرة

                                              

عاش الكاتب المصري صنع الله إبراهيم بضع سنوات في موسكو في مطلع عقد السبعينات طالبا في معهد سينمائي بمنحة سوفيتية لأحد الأحزاب العربية اليسارية . وقد أصدر في عام 2012 أي بعد حوالي أربعين عاما من إقامته في موسكو، وأكثر من عشرين عاما على تفكك الاتحاد السوفيتي   رواية بعنوان “الجليد”، وهي على شكل يوميات موزعة على 126 مقطعاً، بعضها أقل من نصف صفحة، وبعضها الآخر صفحة واحدة أو أكثر قليلا.

بطل الرواية شكري طالب دكتوراه مصري في معهد (التأريخ المعاصر) ويقيم في المنزل الطلابي (الأبشجيتى)، ولا يحسن من اللغة الروسية سوى بعض الكلمات والعبارات الدارجة. ويعيش في دائرة مغلقة ضيقة هي غرف المنزل الطلابي، ومرافقه الخدمية، أو الشوارع القريبة من المنزل. يومياته متماثلة ، فهو يفعل اليوم ما فعله بالأمس من دون أي تغيير يذكر.

الراوي رجل في الثالثة والخمسين مصاب بالتهاب البروستاتا، ولكن هذا لا يمنعه من اقامة علاقات حميمة عابرة مع عدد كبير من الطالبات من المنزل الطلابي الذي كان يسكن فيه، وأحياناً حتى مع نساء أخريات تعرّف عليهن في المقاهي والمطاعم.

الرواية مكتوبة بضمير المتكلم (أنا). والراوي في الرواية الحديثة هو في العادة غير المؤلف، ولكن شكري يشير في إحدى يومياته إلى أنه صاحب رواية “امريكانلي” وهذه إحدى روايات صنع الله نفسه. ونفهم من ذلك ان  “الجليد” هي يوميات المؤلف / الراوي صنع الله.

الراوي لا يهتم الا بالجنس، ولا نرى في يومياته أي تجليات للروح والعاطفة والشعور، وكل شيء يجري على نحو آلي، ليس ثمة لهفة لقاء أو خفقان قلب. العلاقة التي تبدأ في كل مرة بالتعارف، ثم شرب الفودكا أو الكونياك، تنتهي غالبا في الفراش. يوميات لا يتغير فيها شيء سوى اسم الطريدة (مادلين، زويا، اميليا الإيطالية، فاليا،  تاليا، فيرا اليهودية، أولجا، ناتاشا، لامارا، ليديا، ايزادورا، لاريسا، هيلين اليونانية، سفتلانا التشيكية، أنار الكازاخية، دينا الأوزبيكية التي يسميها دينكا، تمارا، لينا، يوديت المجرية وغيرهن).

“الجليد” رواية آيروسية، ولغتها بورنوغرافية خادشة للحياء، وبوسعنا أن نقف عند مقطعين –بعد حذف الجمل الفاحشة منهما – لنتعرّف على هذا الأسلوب التسجيلي المكشوف:

” وفي الخامسة وفدت مادلين . كانت برازيلية في منتصف العشرينيات، دقيقة الحجم، سوداء الشعر، أسنانها العلوية بارزة بعض الشيء. وكنت قد تعرفت بها هي وماريو أثناء دراسة اللغة. احتضنتها وأحضرت أبريق الشاي من المطبخ. أرتني فى انفعال أسطوانة روبرتو كارلوس البرازيلي الذي يغني بالبرتغالية وأهدتني عطرا رجاليا رشاشا. وضعنا الأسطوانة فوق «البيك أب» الصغير وأغلقت الباب بالمفتاح. خلعت بنطلونى… ” .

” كانت زويا تجلس بجوار هانز فوق فراشه واستلقت تاليا بعرض الفراش المقابل مسندة رأسها إلى الحائط. وجلست أنا على المقعد الوحيد بجوار المائدة. اقترحت زويا إطفاء النور وأشعلنا شمعة. جذبها هانز ليرقصا فاستسلمت لأحضانه. لم أتحرك من مكاني. كان بصري معلقا بوجهها وساقيها العاريتين”.

تزييف واقع الحياة في المنازل الطلابية وفي موسكو عموماً، على هذا النحو، يذكرني بما كتبه ليف تولستوي في مقدمته الرائعة  لأعمال موباسان الروائية والقصصية: “إن الكاتب الذي يصف الشعب على النحو الذي فعل موباسان، والذي لا يصف بتعاطف الا “الأفخاذ والنهود” والخادمات البريتونيات فقط ، يقع في خطأ فني كبير، لأنه يصف الموضوع من جانب واحد فحسب، هو الجانب الممل، الجانب الحسي، ويهمل تماماً الجانب الأكثر أهمية – الجانب الروحي الذي يشكل جوهر الموضوع”.

ويقول ايضاً: “إن الشعب الفرنسي لا يمكن أن يكون على هذه الصورة التي يصفونها. واذا كانت ثمة فرنسا التي نعرفها بأبنائها العباقرة الحقيقيين، وبتلك الإنجازات التي حققها هؤلاء العظماء في العلم والفن والحضارة والتكامل الأخلاقي للغنسانية ، فإن الشعب العامل – الذي حمل ولا يزال يحمل على أكتافه فرنسا التي تعرفها بأناسها العظماء  – يتألف ليس من البهائم بل من أناس يتحلون بصفات روحية عظيمة”.

وبطبيعة الحال لا يمكن مقارنة نتاجات صنع الله المتواضعة بنتاجات كاتب عظيم مثل موباسان. ومع ذلك أقول إن الواقع الروسي لم يكن على النحو الذي يصفه صنع الله بنظرته الشرقية الذكورية.

لقد اتيح لي أن أعيش لسنوات عديدة في المنزل الطلابي التابع للجامعة التي كنت طالباً فيها، ولفترات اطول من اقامة صنع الله في أحد المنازل المماثلة العائدة للمعهد الذي كان يدرس فيه.

كل المنازل الطلابية كانت تخضع لضوابط صارمة: الطالبات في الطوابق العليا والطلاب في الطوابق السفلى. وكان يمنع على الطلاب المبيت في الطوابق العليا، ولا يسمح لأحد بدخول المنزل، الا بعد التحقق من شخصيته، وترك هويته او جواز سفره لدى المناوبة أو كما يسميها الراوي (صنع الله)  حارسة الباب. وكان باب المنزل يغلق في الساعة الحادية عشرة مساءً. واذا تأخر أي زائر أو زائرة عن موعد الإغلاق تأتي المناوبة وتطلب خروجه أو خروجها من الدار على الفور .

رب قائل ، ان الواقع شيء والرواية شيء آخر، وهذا صحيح . ولكن الرواية الفنية الحقيقية تتسم دائما بالصدق الفني، وتبدو منطقية ومقنعة. وثمة خطر جسيم يلازم نسج الأكاذيب، فقد لا يصدقك الناس .

san3alla ibrahim

صنع الله إبراهيم

غياب البنية الفنية

لا تتوافر في رواية (الجليد) مقومات العمل الفني، فالرواية ترقى وتسمو بقدر ما تمثل من الحياة الداخلية لا الخارجية، يوميات شكري تسجيل مباشر لأحداث وأفعال يومية عادية لمراهق خمسيني من دون أي محاولة لتحويلها الى عمل فني، فلا حبكة ولا نمواً في شخصية البطل، أو في الشخصيات الثانوية، ولا سبراً لأعماق عوالمها الداخلية وعواطفها وهمومها، ولا افكاراً جديرة بالتأمل.

رواية (الجليد) تعتمد على السرد التسجيلي المباشر من دون الحوار، الذي يعد من أهم تقنيات الفن الروائي. وبوسعك أن تبدأ بقراءة اليوميات من أي نقطة، أو صفحة تختارها، حيث لا يوجد فيها أي تسلسل للأحداث، ولا ذروة تحتدم عندها المواقف. يوميات لا تتبدل فيها سوى أسماء الطالبات والنساء، اللواتي لا يرى الراوي  فيهن سوى دمى لإشباع نزواته .

كتب صنع الله عن موضوع لا يعرفه، وحاول إيهامنا أنه اطلع على الأدب الروسي، ولكن كل ما عرفه الراوي عن الأدب الروسي كان عن طريق أصدقائه وصديقاته دون أن يكون قد قرأ شيئا من هذا الأدب باللغة الروسية، لأنه ببساطة لا يعرف هذه اللغة بما يكفي لقراءة وفهم الأعمال الأدبية . ومعظم المعلومات التي يوردها خاطئة وسنكتفي بمثالين فقط.

يقول الراوي :” فتحنا زجاجات الشمبانيا والفودكا وتبادلنا الأنخاب. عرضت علينا (إيرما) ألبوم صورها وديوان شعر إسحق بابل الذي تعرض للتعذيب في لوبيانكا، مبنى المخابرات السوفيتية سنة 1939″.

ولكن اسحاق بابل لم يكن شاعراً قط ، ولم ينشر له سواء خلال حياته او بعد أعدامه أي ديوان شعر، ولا حتى قصيدة واحدة ، بل كان كاتباً قصصياً شهيراً.

ويقول الراوي: ” فلاديمير فيسوتسكي، وهو نجم سينما شاب وممثل مسرحي حقق شعبية واسعة بين الشباب. قالت زويا إن بعض أغانيه تتناول موضوع معسكرات العمل في سيبيريا، حيث قضى بعض الوقت قبل عام 1955″.

فيسوتسكي المولود عام 1938 لم يعتقل، ولم يقض في أي معسكر للعمل ولو يوما واحدا، خلال حياته، وقبل عام 1955 كان صبيا لا علاقة له بالسياسة .

guilaf- al jalid

العيش خارج الزمن

عاش الراوي في موسكو في وقت كانت فيه موجة الشعر الروسي الجديد طاغية على الحياة الثقافية السوفيتية ، والجيل الجديد المتطلع الى التغيير والتجديد يقرأ بنهم لرواد هذه الموجة ( يفغيني يفتوشينكو، أندريه فوزنيسينسكي ، بيلا أحمدولينا وغيرهم ). ولم يكن يمر اسبوع دون أن يلتقي شاعر أو كاتب ذائع الشهرة بالجمهور الظامئ الى الكلمة الحرة الجديدة . ومن عاش في موسكو في عقد السبعينات، ولو لعدة أشهر، يعرف انها كانت في هذه الفترة زاخرة بالأنشطة الثقافية، حيث تقدم على مسارحها الفنية الراقية عروض مسرحية رفيعة المستوى، وتقام في قاعات الفنون التشكيلية فيها، معارض لرواد الاتجاهات الفنية ولفنانين شباب تجريبيين، كما أن موسكو غنية بمعالمها الحضارية ورموزها الثقافية.

لا أثر لكل هذا في يوميات طالب دكتوراه في التأريخ. فقد توارت اهتمامات الراوي الثقافية والعلمية، ولا توجد أي إشارة حتى الى ما كان يدور في أروقة المعهد، ولا أي إهتمام بالتأريخ، بل إننا لا نعرف حتى عنوان رسالته العلمية، ولم يعد يبحث في عاصمة هائلة ومعقدة مثل موسكو، سوى ما يشبع هوسه الجنسي، حيث حوّل هذه المدينة العظيمة الجميلة الى “ماخور”، فهو لا يرى في زميلاته الطالبات أو في صفوف النساء في المدينة سوى مومسات رخيصات .

Isaac_Babel

اسحاق بابل

الحب والجنس في موسكو

لم  يكن في موسكو في الحقبة السوفيتية ما يسمى بحياة الليل، فقد كانت كل المطاعم والمقاهي والبارات تطفئ أنوارها وتغلق أبوابها في الحادية عشرة مساءً . يقال ان سائحا غربيا استوقف رجلا من موسكو وسأله : أين أقرب كابريه ؟ فأجابه الرجل: في هلسنكي. وقد زار الكاتب والناقد الراحل د. لويس عوض روسيا في عام 1971 أي في السنة ذاتها التي التحق فيها الراوي بمعهد التأريخ في موسكو. يقول عوض في كتابه ” رحلة الشرق والغرب: “أربعة عشر يوما قضيتها في روسيا بين موسكو ولينينغراد وبعض الريف. لم أر فيها متعطلا او شحاذا او رجلا او امرأة في أسمال أو بغيّا تنساب بيت مصابيح الشوارع . ولا شك أن هناك نماذج من هؤلاء  وأولئك، ولكنها نادرة لا تراها الا العين المترصدة، ولم أر مخمورا رغم شهرة الروس في قريعة الفودكا”.

بالطبع كان هناك جنس في روسيا كأي بلد آخر في العالم. ولكن الغالب على العلاقات العاطفية بين الجنسين كان الحب الحقيقي المتبادل. كان النظام السوفيتي متزمتاً جداً، لا مشاهد قبلات في الأفلام أو في العروض المسرحية، ولا أي وصف صريح للعلاقات الحميمة بين الجنسين في الروايات. وكان ثمة حذر من الأجانب زرعه النظام في النفوس. ولم يكن من السهل ان يقيم الطالب الأجنبي علاقة حميمة مع طالبة سوفيتية رزينة، الا بعد لقاءات عديدة حيث يتعرف كل منهما على الآخر جيدا، وتنشأ بينهما علاقة حب، لذا فإن إيفانوفا قالت عين الحقيقة .

غالبية النساء السوفيتيات كن محتشمات في ملابسن وسلوكهن ، وهذا لا يعني عدم وجود البغاء أو النساء المنحرفات، ولكن الدولة كانت تحارب مثل هذه الظواهر بشدة وقسوة.

المرأة السوفيتية بالأمس والروسية اليوم تتمتع بكامل حقوقها اسوة بالرجل. لكن النظرة الشبقية المتخلفة الى المرأة كوعاء ولعبة للرجل لا تقتصر على المتزمتين في بلادنا، بل تشمل – ويا للمفارقة – بعض الكتّاب الرائجين .

fe3333

اترك رد