رسالة من ورد إلى عصام العبد الله:
عندما أردت ان أخاطبك بعد غيابك ، اتاني الكلام شعرا أو نوعا من الشعر ، و بدأت أكتب لك بمحكيتك المحببة الى قلبك، ربما اعتقدت انك ستسمعني بشكل أفضل، لست أدري.
أما وقد قررت أن أرثيك نثرا الآن كما كنت تفعل مع أصدقائك الراحلين ، وقد التحقت بهم ، فأنني حائر كيف أبدأ…
كيف لجبلٍ ان يهوي ! و هل انت هَوَيت فعلا ام قرّرت أن تفتش عن كوكب آخر ؟
لماذا كان لديّ شعور دائم أنّك باق و نحن فانون ، وكأنّك من أساسات هذه الحياة ، لا تمشي من دونك و لا تستطيع الدوران إذا لم تكن انت جالسا على كرسيّك في المقهى لتوجّهها الى السراط المستقيم!
لماذا تخلّيت عن كونك الثابت في المدينة …و ذهبت لتُأنْسِن المجرّات و تجمعها حولك على طاولة الزمان…
ماذا أقول فيك بعد كل ما قاله الاصدقاء …يا ايّها المفتون كنتَ بالحياة …
لقد وجدتُها…
انتَ الحياة بذاتها يا أبي!
خليط عجيب من العصور الغابرة الحلوة، بنكهة الحاضر ، تماما كقهوتك التي حوّلتها في شِعْرِك الى مرّة وكأنّك كُنتَ تشير الى مرارة الحياة و ناسها الجالسين مثلك في مقاهيها، الى مرارتك أنت ، والتي نجحتَ على ما يبدو في إخفائها دائما…
هل كنت فعلا حزينا يا أبي؟ و انت صاحب الضحكة المجلجلة و النكتة اللمّاحة و الذكاء الحاد ، والقلب الأحنّ من الحنان ، و الشاعر الشاعر …
ماذا سنفعل ببيروت بعد رحيلك؟ او ماذا ستفعل بيروت فينا ؟
نعم ، بيروت التي ألّفَتْكَ و ألّفْتَها ، ماذا عسانا نفعل بها الان و قد خَسِرَت مواطنا صالحا أخر..
لقد قلّ الصدق و الضحك و الاستقامة و الشِعر في المدينة يا أبي ، صدّقني لقد لمست ذلك بنفسي وانا أفتّش عنك وعن ذكرياتك و أخبارك في زواياها و أزقّتها …
لقد غادرها قبلك و بعدك أحلى الشعراء فباتت يتيمة و متمردة و خارجة عن السيطرة…
دعني اقول لك ماذا وجدت فيها و انا ابحث عنك ، لقد وجدت نفسي و اكتشفت بيروتَك من جديد …المدينة التي زرعتها فينا . سأدعها تُألّفني و سأحاول ان اشارك في تأليفها لو استطعت، وسأظلّ أسكُن في مقاهيها المتبقّية كعادتي، كعادتنا ، و سآخذ معي كريم ، كما كنت تأخذني معك ، و سأفتح له ابواب الحياة دون أن أُعَلّمه ، كما كنت تفعل معي و مع سلاف و حازم ايضا…
أؤمن بأنّ مفتاح المدينة ما زال على قيد الحياة ، انا واثق أنّك تركته لنا ، فأنت لست بحاجة اليه حيث أنت الآن ، لأنّه في الروح و في مكان حميم حميم .
لن أحدثّك عن الشعر يا أبي او عن احوال المدينة ، ستأتي أيّام أخرى لذلك ، الآن: الوقت هو للكلام الكلام، كلام إبنٍ الى ابيه ، الذي لطالما خاف عليه و انشغل بالُه بتتبع أخباره، لانه اعتقد أنّه يُشبهُه في سخريته و عفويّته و عاطفته ، و حرّيته الصارخة الواصل صوتها الى كواكب قريبة و بعيدة . أب اعتقد أنّ ابنه يسعى مثله، بنبل، وراء شهوات قد تأذي صاحبها فقط …
من إبنٍ الى أبيه ، أطمئن يا ابا حازم ، أمورُك بخير ، و أقصد نهاد و سلاف و حازم و الأحفاد .
الأهل و الأصدقاء أتفقدّهم لك من حين الى آخر ايضا. إذاً أمورك بخير ، و سأحاول أن أبقيها كذلك قدر المستطاع و حتى يوم اللقاء ، عندما أصعد إليك بلهفة من لا يطيق الانتظار ، تاركا المفتاح ذاته في الحفظ و الصّون … و صدّقني يا أبي، عندما نلتقي ، ستجدني مُحَمّلا بالكثير من الأخبار التي ستحبّ ان تسمعها ، لتضحك بعدها كعادتك برضىً أنصع من البياض…
أخبارٌ صنعها رجلٌ استثنائيّ و مشى ، و هو كان يعلم ربما ، أنه لم يرحل…
****
(*) جريدة الأخبار 19 يناير 2019.