بقلم مي منسى المصدر: “النهار” 19 كانون الثاني 2019 | 21:24
(فصل من رواية بالعنوان نفسه، صدرت لدى “دار رياض الريس”).
“عسى تصل رسالتي بعد طول الغياب. كتبتها على الرمال المنبسطة كورقة عذراء وانتظرت رجوع الموج ليحملها إليك”.
أتكون الأحلام الليلية سبيلاً إلى إعادة الاتصال بين الأحياء والأموات؟ أتكون جسر عبور من وهم الحياة إلى حقيقة الموت؟
بارع هو الليل في استحضاره أشخاصاً مرّت على غيابهم عقود وسنوات، ولم يُرِحهم الموت مما تكبّدوه في الحياة من خسارات ظالمة، ولا أزاح عن كواهلهم في سكناهم الهُناك، ثقل أحقاد ومآسٍ بقيت حتى آخر نسمة تنخر نفوسهم. يعبرون جدار المنامات، سبيلهم الوحيد إلى تضليل الموت، ليفضّوا أموراً عالقة، غافلهم الموت من دون أن يتمكّنوا من حلّها. فلا أتفاجأ بهم. كأني في انتظارهم. من أصواتهم أستدلّ عليهم، لا بلهفة الشوق والعناق. غرباء أصبحوا، مذ انتقلوا إلى الضفة الأخرى من الوجود.
ما سرّ هذا الخزّان الدماغيّ يا تُرى، يجعل الوسادة مسرحاً عبثياً حالما أغطّ في النوم، ينتقل بي إلى أماكن مفكّكة معالمها، كبناء هش قام من خلايا الدماغ بلمحة، من دون تخطيط سابق، ليحتوي الحلم وغرائبه. أتحاكى مع أشخاص أعرفهم من أصواتهم، أسمعهم، والصوت صدىً آتٍ من أزمنة بعيدة، يتشابك، في ارتداده إليّ، بهواء ساخن، مشحون بأوراق يابسة لا أرضية لها تريح زوغانها. يأتون ليتفقدوا البيت المهجور، فتسألني المرأة، التي عرفتها أمي من صورة عرسها إلى جانب أبي، عن فستانها الأسود، وفي نبرة صوتها أستشعر لوماً على استغلالي رحيلها لأعبث في جهاز عرسها.
رحلت أمي عنا بجسدها، وظلّت روحها هائمة حولنا، تبحث عني في المنام لاستعادة شبه دور، ولو شحيح، من أمومتها، وربما مكانها في صورة عرسها؛ إرث زهيد حملتُه في متاع تنقلاتي من بلد إلى آخر، ولا سيما فستانها الأسود المخمليّ الذي فرضته على ضياء العجمي المخرج، في أدائي شخصية “دورا”، المرأة الأسطورية التي أطلقتني من رحم المسرح حيث كان يجب عليّ أن أولد وأصارع قدري بقدر شخصيات التراجيديا.
الخشبة الليلية، في احتوائها جنون امرأة، بعشقها وغيرتها القاتلة وثأرها، كانت، في آن، تخرق الجدار الذي انطويت في داخله منذ الصغر، وتحرّرني منه: “المدينة تقرع حداداً على موتي. هذه أنا أمامكم بفستاني الأسود، أنعى إليكم ما هو أشرس من الموت: “الثأر”، أقولها، فيجتاحني شعور بأني آتية من عالم آخر، والواقف أمامي يحاورني هو “أنا”؛ هذا الرفيق الذي قوّى خيالي وأوهامي مذ مضيت في دروب الحياة بمفردي، أبحث عن نصفي الضائع لأكتمل.
البيت الذي أسكنه في المنام شبه مهدم، خالٍ من أي شيء سوى فوح الكمّون والقرفة، المعشّشِ في مسام المطبخ. غرفة النوم التي كنت أتقاسمها مع أختي سناء اختلطت بالمقصورة التي كنت أتهيّأ فيها للخروج من أنايَ إلى جنون “دورا”؛ الدور الذي انحفرت فيه حتى لم يعد لي اسم سواه.
دورا، دورا، كيف تغلغلت فيّ هذه الشخصية لتقودني إلى اكتشاف مَن أنا، إنسانة منسية في فقاعتها، لا اسم لي في ذاكرة الناس سوى اسمها، حالما أتدثّر بفستان أمي الأسود أصير هي، فأشعر بطاقة خفية تأخذني إلى أمكنة عالية. ومن صوتي الآتي من الجحيم أصرخ: “ها أنا أهب روحي للظلمة، للصمت، للغياب”.
ليالي المنامات، كانت غالباً ما تأخذني إلى بيت عين الشمس، المغلقة شبابيكه على غياب المرأة التي عبرت في حياتي كالخيال، ولم تترك أثراً يحكي عنها، سوى ما ظلَّ معششاً في مسام المطبخ من أعشاب فوّاحة، كانت تأتي بها غمرات من غدواتها في البراري. فما كانت سلمى جدة والدي ترويه لي في أثناء إقامتي عندها، تحوّل مع الوقت إلى قنوات الأحلام، أجمع عند اليقظة من أسمالها مادةً للكتابة، وعند مراجعتها، أتحسس الفاجعة التي واكبت حياتي، بتمزقاتها، إنطوائية في عالمي الجوّاني، ومنفيّة من حياة مَن كنت في حاجة إلى جناحهم لأتدفأ. المنامات كانت تفوّقي على العدم. لقد أعادتني إلى حيث كان يجب أن أكون.
كنت في حيرة من أمري أبحث عن فستان “دورا” الأسود، المخمليّ، في خزانة أمي المقفلة بعد رحيلها، ولا أجده. يتناهى إلى سمعي نتفُ أصداء أعزوها إلى تململ الجمهور في الصالة، سببه التأخير الناجم عني. أصبحت المنامات البديل من الذاكرة، تتسلل إلى مناطق اللاوعي وتكشف نوره الضئيل. هو هذا المختبر الذي يعجز الوعي عن تحليله الذي دلّني على الكتابة. أهبّ من نومي قبل أن تذوي ملامح البيت والأشخاص الذين أتوا على غفلة وفي نياتهم عتاب وفضّ حسابات عتيقة. أتكمّش بذيول الحلم، وأبدأ أحفر على الورقة ما لم يمحُه بنزوة طائشة من كفّ يده. الصلة المعقودة بين المنام ولحظة الصحو كنت اتصوّرها في هذا الخط الوهمي الفاصل بين الليل والفجر الشحيح، أتأملّه بأسراره، مسنوناً بيد ذلك المهندس الذي استعمل العدة ذاتها في فصله الماء عن اليابسة. أهبّ من نومي كقارئ الغيب، وفي أصابعي شعوذات، أطيّرها في سماء الورقة كالعصافير التي يخرجها المشعوذ من كمّه ليبهر بها الأولاد. المنامات، لا تزال مذ اختارتني الوحدة لأسمع رنين الوقت أعلى، صلتي بالأموات وكل من أسدل الغياب بيني وبينهم. يأتون إليّ ليلاً لأحرّرهم عند الصباح الباكر على ورقتي من سلطان الموت، كأني بإعادتهم إلى عالمي الافتراضي، أكشح شبح الوحدة عني. هكذا صارت الأحلام مورد وحي للكتابة. أدمنت الليل لا للراحة والنسيان، بل لأتموّن من كليشيهات سلبية مرميّة بين نفايات الذاكرة، أعيد تظهيرها في محلول الحبر، مادة لرواياتي، إلى أن تفاجأت بالبرقية الصوتية، وأنا في حال من الشرود الصحويّ؛ هذه اللحظة المجنّحة التي تكسر في عبورها حكايات الليل.
“عسى أن تصل إليك رسالتي بعد طول الغياب، كتبتها على الرمال المنبسطة أمامي كورقة عذراء وانتظرت رجوع الموج ليحملها إليك”.
الصوت، عرفته من دون أن يتلعثم به خيالي، فكيف عساي أنساه وهو من فئة الدم ذاتها التي تكوّنا منها في رحم أمّنا. صوت سناء، إن غضبتْ أم ضحكتْ كان دوماً تعبيراً عن تمرّد متأجّج في داخلها، بدأت تظهر بوادره في باكورة مراهقتنا يوم أصبحتُ مكتفية بظلّها رفيقاً لي. ابتعادها عني كان سببا لتفاقمات صامتة زعزعت حجارتي. الكتابة صارت أنيسي. بات الدفتر تحت فراشي ينتظرني لموعد سريّ حميم، حتى إدماني الكلمة، أتنشّقها بملء رئتيَّ لأتحسّس في العمق، مفعولها السحريّ عليّ، ألوذ إليها للتفوّق على ما أنا عليه. يكون الانفصام الذي أبعد التوأمين إحداهما عن الأخرى، وإن ترك جرحاً لم يندمل، تحوّل على ورقتي إلى موقع أركيولوجي، أحفر في أعماقه، ككشّاف الينابيع، بحثاً عن توأم ألده من ذاتي، أبديّاً فيّ، لا يرحل، يعيرني قلمه لأكتب، يحرّر اللحن العالق حسرةً في حنجرتي، فأسمع من واحة صمتي شدو عصفور يبهج ليلي بتغريده.
مع الوقت، حين تمكّن ذلك الشعور فيّ، اكتنزت كتابتي بالحوارات، وصار تلقائياً للسؤال جوابٌ، وللجملة المتعثّرة أصابعُ تهرع إلى نجدتها وتحل عقدها. فالمتوحّد يتمتّع دون سواه، بهذه العشرة الدائمة مع ذاته، يتقاسمان الحلو والمر، الحر والبرد، يتدفآن في معطف واحد، يأكلان في صحن واحد، يتسامران، والتبادل بينهما حوار بصوت واحد.
خلال السنوات التي أمضيتها في المدرسة الخاصة بالمتوحدين، كان دفتري حواري الوحيد مع ذاتي. على سطوره، ألتقي صدفة رفاقاً، أحاول خلق علاقة بهم ولا أفلح، فالمتوحّد رفيق ذاته. أمّا رفاق المدرسة، فلم يكونوا أفضل مني للمسايرة وخلق مجتمع وديّ بيننا، فالانطوائيون لا يضحكون، لا يلوذون إلى بعضهم، لا يتواطأون. عزلتهم مفروضة عليهم، كالمنفيين عن أرضهم، كالمقتلعين من جذورهم. هذا ما كنت أستشفّه لدى أمثالي بمقارنتي بهم. الوحدانيّ يعايش السلام والسكينة، فهو لا يصبو إلى السعادة ولا إلى أمل يسرّحه من قيده. هنا في رحم هذا الداء يبقى جنيناً لا خلاص له.
إلى سنّ المراهقة، كان التصاقي الكليّ بسناء يحميني من أي دليل ظاهر لهذا الداء الصامت الذي لا صوت له ولا لون. كان دائي مختبئاً في ظلّها، إلى أن شرّعني للشمس بابتعادها عني. كان من الطبيعي أن تلتحق سناء بمعهد تتعلّم فيه لتلبّي طموحاتها، بينما اختصر عالمي المقفل على ما يشبه الحضانة، أقرأ في الكتاب ذاته أبجدية الانطوائيين. أرسم شجرة هي ذاتها، عارية من أوراقها، تفرش أغصانها كذراعَيْ متسوّل يطلب رمق حياة. صرت، بأقلام التلوين، أحمي العطب المتأصّل فيّ. داخل شرنقتي أبحث عن أنايَ، أستمتع بالحديث معها، توأمي الحقيقي، إلى يوم أخذتني سلمى، جدة والدي، إليها، ووعدها لحفيدها بأن ترعى صمتي بما بقي لها من مواسم في جسد استهلكت عافيته الأرض.
في سن المراهقة، بدأ تمرّد سناء على الخنوع الذي شرّعته تربية والدنا فينا، بسطوته التعسّفية، على أمورنا الحياتية. بنباهة وطول باع، مضت تتحرّر من هذا القيد، بإزالتها، شيئاً فشيئاً، كمخة الزنجار العازلة نهارنا عن ليلنا. فأوّل ما أقدمت عليه، كان انتقامها من شَعرنا المشعث، الجاف، ككومة قش بعد الحصاد، بقصَّة صبيانية لم تُشركني فيها. في بريق عينيها السوداوين، قرأتُ تنكّراً لهذا المركّب الكيميائي الذي فرض في عملية التكوين شبهاً بين التوأمين. الخروج من ثياب الطفولة العجراء، ومن تلك القمّاطات الملازمة نموَّنا، لم يكن مجرّد نزوة للإفلات من قبضة والدنا والتحرّر من كابوس موت أمّنا، بل انتفاضة جريئة تخطّت عتبة البيت يوم نزل والدي مرغماً عند إرادتها تكملة تحصيلها العلميّ في الجامعة، مكلّلة بالتفوّق على مدى سنوات دراستها في معهد راهبات المحبة. طموح سناء إلى العلم والاختصاص، اعتبره والدنا إفلاتاً من سطوته وعصياناً على إرث العائلة الزراعي، برفضها قسم الزراعة وتربية الأبقار اختصاصاً، اقترحه عليها ترميماً لكرامته المخذولة. العلوم الإنسانية كانت خيارها. أذكر ما قالته لي، ولم تكن انشقّت عنّي تماماً ولا راودها شكّ بعدُ أني مختلفة عنها:
“الحياة لا معنى لها إلّا إذا وضعناها في خدمة الإنسانية التي لا حدود لها”.
كانت سناء حصني الوحيد. أقاوم الخوف من العتمة والناس بالتصاقي الدائم بها إلى أن أصبحت العلّة واضحة بيننا: هي في مقدمة القطار، وأنا في مؤخّرته. تزعزعت العلاقة بيننا يوم اكتشفتْ أن أختها مختلفة عنها، انطوائيّة، ما معناه أنها لن تسير معها في مغامرة الحياة. بدأ التمرّد يتفاقم في سلوكها تعبيراً عن الخواء الذي صارت تعانيه في بيت، الأم غائبة عنه في دنيا الأموات، والوالد حي- ميت، يقوم بواجباته بهمّة ماكنة أوتوماتيكيّة لا تخطئ أبداً. أعود بذاكرتي إلى الوراء أبحث عن الصورة الهزيلة، الباهتة، التي خرجنا بها معاً إلى الدنيا، نسخةً عن سلوك البيت بتقشّفه وصرامته. هذا العصيان الصامت، صرت شاهدة على تطوّره لديها، من دون أن أكون شريكة فيه. التغيير الذي قرّرته، كان لمحارب واحد، محا وجودي من الصورة الجامعة بيننا منذ ولادتنا. فهل كنت على قدر أن أفهم ما قالته لي، وهي مسرعة، للإفلات من ضجيج حزني الصامت على هذا الفراق؟
“اعلمي يا رشا، ولادتنا من رحم واحدة، لا تعني ارتباطاً أبدياً سنّته الطبيعة. إنها فقط حدثٌ بيولوجيّ لا علاقة له بالنفس التائقة إلى الحرية”. بمنطقها هذا تحرّرتْ مني، وبثورتها الصارخة من عمق مراهقتها، فكّت الارتباط الذي عوّلتُ عليه للخروج تحت جناحها من نفقي المظلم.
بوقوفها الطويل أمام المرآة تحاكي توأمها الجديد وتخطط معه لغد أفضل، انغلقتُ على عالمي الجوّاني ألقّم وحدانيتي بتوأم افتراضي صار إلهامي في الكتابة ورفيق صمتي، يُملي عليّ أبجدية العبور خارج إمكاناتي الجسدية والنفسية، أشعر بيده تحمّلني القلم حين أتكاسل عن الكتابة، ساهراً على هذه الاستمرارية من دفتر إلى آخر. في هذه الازدواجية صرنا نتخاطب بصيغة الأنا.
بقيت دفاتري لغزاً لم يشجّع والدي على نبش ما يجول في غربتي. في تلك الفترة القاحلة التي قضت على مواسم كانت تعد بالخير، التمّ والدي على حاله، رفيقه “النبي” لجبران، وما يدور حوله خواء. صار يرمق سلوك سناء، المتحرّرة من جمهوريته، باستخفاف ولامبالاة. الغربة الفاتكة بأهل البيت كانت أكثر ضراوة من الرياح الساخنة الحاملة غبار الصحراء كفناً للكروم وبساتين الزيتون.
خرجت سناء من باب ليلنا وشمس المستقبل في انتظارها، تتعلّم من حروقها أن تقاوم آثار الأثلام التي حفرتها تربية البيت في نفسها الثائرة. لم تكن يوماً على وفاق مع والدي؛ هذا المنفيّ من الفصل الأول لسِفْر التكوين.
كبر والدي مبتوراً من طفولته، محاصراً في ظل جدّته، لا أفق لخياله سوى الأرض المسيّجة بمواسم الكروم والزيتون، والكتب التي كانت تثير خياله حين يستلقي بعد عناء القطاف في ظل السنديانة الهرمة. فكيف كان في وسعه، حين أطللنا على الوجود طرحين من بطن تعثّر لإنجابنا، غير موعودتين بالحياة، أن يستبشر بنا خيراً ويهلّل لمجيئنا، بينما أمّنا تصارع الموت؟
كنّا أشبه بالجفاف الذي قضى على مواسم الزيتون والكرمة، إلى أن ظهرت رياح التمرّد والعصيان في تصرّفات توأمي. نشلها هذا الصحو من عتمة ليلنا، بينما كنت ككفيف يستدل دربه على نور شمسه الجوّانية.
عالم الانطوائيّ عجيب، بين نقيضين هو: السبات الظاهر وقوة جوّانيّة تدفع به إلى الخلق، مستترة، تنفجر في داخله من دون أن تحدث صوتاً.
هذه الحسرة، التي كانت تنهش والدي بصمت صارخ، كان يفضي بها إلى أبونا مخايل، كاهن الرعية، كلما مضى إلى البلدة لتفقد مأساة الأرض وأنا برفقته. فيعزو مصابه إلى عقاب يلاحقه منذ ولادته، ولا سيما حين اكتشف التقرير الطبي مصابي بداء التوحّد؛ حالةٍ مزمنة ينطوي فيها المصاب على عالمه الداخلي غير مبال بما يحيط به. من غشائي الذي كان يعتبره عازلاً سميكاً بيني وبينه، وعاراً على العائلة، كنت أقرأ في تعابير وجهه الملفوح بشمس الكروم، أسفاً وخيبة. أستمع إلى اعترافات رجل منطوٍ تحت وابل من المآسي، ولا يدري كيف يضع حدوداً لكل هذه العذابات. ولم يكن في جعبة أبونا مخايل سوى الصلاة، ومسبحة الوردية، إرشاده الوحيد لخلاص النفوس.
تيتّم والدي مرّتين: يومَ تخلّت أمه عنه وكان طفلاً لم يُفطم بعد، فحلّت جدّته سلمى بديلاً منها، ويومَ ماتت ثريا، حبيبته. الحب الذي لم يعرف حتى ذلك اليوم، سبيلاً إلى قلبه، شعر به كشعلة دافئة تخرق مسامه ما إن سمع صوتها الشجيّ يعلو من بين أصوات جوقة أخوية “الحبل بلا دنس”، مرتلاً “يا أم الله يا حنونة”. لمّ هذا الغناء، الذي استولى على تفكيره، في أعماق نفسه ويقينه، أن للأصوات الملائكية مهمةً سماوية، تعيد إلى الأرض الجافة محاصيلها وخيراتها. في ذلك اليوم، عادت المياه إلى مجاريها، تسقي الزرع وتُفرح قلوب المزارعين.
سلمى جدّة والدي التي اختبرت صقيع الحياة وشراستها من دون أن تكسرها أو تهزم إيمانها بالأرض، كانت اليد التي امتدت إليّ لتقتلعني من قضبان عزلتي. فحين لم يعد لمراهقتي المتقدّمة، كرسيّ وطاولة في معهد التوحّد، رحّبت سلمى بابنة حفيدها في بيت العقد والقناطر المثلّثة. قالت لي “الطبيعة بفصولها الأربعة سوف تفرش ألوانها على ورقتك ولن تبخل بوحيها عليك”.
هنا أصبح بيت العقد خلوتي، أحمي فيه عالمي الجوّاني من أي تطفّل على غربتي، وأطمئن الخوف المعشّش في عينين تترقبان باستمرارٍ خطراً قد يداهم توازني الهش. سناء، في عرف والدي، كانت ربما الوحيدة، القادرة على أن تمسك بخيط هذا العصفور وتعلّمه على الطيران. سناء، المتفوّقة ذكاءً وحسناً وطموحاً، لم يكن ينقصها لتبلغ الكمال، سوى قطرة حب تروي بها قلوبنا العطشى إلى الحنان. قلبها المغلق كان شبيهاً بالأبواب التي كان يوصدها والدي عمداً، حتى نظل في أمان تحت جناح الليل. بتمرّدها عليه، أفلتت الخيط الذي كان رباطي بها.
انتقالي إلى القرية بمتاعي الزهيد، كان كهدية العيد من سلمى الجدة إلى حفيدها الضائع في أبوّة لم يكن على قدر استيعابها. كنّا، أنا وأختي، كائنتين من فئتين متناقضتين، “الين” و”اليانغ”، في الفلسفة الطاويّة الصينية.
وقف بعيداً عني ينتظر رحيلي من بيت المدينة، ودمعة كارجة على خده. كنت أود لو تصطلح أموري مع ذاتي لأفرش جناحي عليه. كنت مكبّلة، عاجزة عن الإقدام بخطوة، ربما كان بها شفائي. وبقيت مسمّرة في مكاني، وفي سرّي يقينٌ بأني من ضلعه، وريثة حقوله الجوفية اليابسة. سوى سناء التي استولت، بنجاتها من هذا الإرث القاحل، على كل ما حرمت إياه صغيرة، الشمس والحرية والعبور أبعد من ذاتها.
في ذلك اليوم وأنا في انتظار سيارة الأجرة لتقلّني إلى قرية سلمى، كانت سناء تؤدي واجبات الضيافة لرفيقتها هلا. فجأة، أحسست بذراعها تغمرني مودّعة، وبسخرية ظريفة، تعرّفها عني بالتلميذة المتفوقّة، الحائزة من معهد المتوحدين العالي، جائزة في رسم الأشجار العارية. الأصحّاء لا يُعيرون أهمية لأحاسيس المتوحّد المقشعرّة لأي ملمس ولأي مسمع.
هلا، الفتاة الفلسطينية، حلّت مكاني. أصبحتا لا تفترقان. تأثيرها فيها كان، في نظر والدي، انحرافاً عن معاييرنا الحياتية المتواضعة. اختيارها العلوم الإنسانية اختصاصاً، ظهرت علاماته الأولى في تخلّيها الفظ عني واللحاق بهلا إلى المخيّمات الفلسطينية. وحجّتها أمام ذهول والدي، أن العمل الإنساني في بؤرة الفقر والحرمان هو من صميم اختصاصها الجامعي. معايشتها المأساة الفلسطينية عن كثب، خلقت فيها حقداً على المجتمع اللبناني وخصوصاً على ثراء طبقة منه، تنعم بالرفاهية والترف على هامش ما يؤاسيه اللاجئون. الصور المذلّة، المعممّة على صحف العالم وشاشات تلفزيوناته في الشرق والغرب، بعبورها السريع أمام المشاهدين، لم تكن توازي قيراطاً من هول الانغماس، جسداً وفكراً، في روائح البؤس وألوان الفاجعة. من هذا الاحتكاك شبه اليومي في جحيم المخيم، لقّمت سناء حواسها بالفظائع التي ارتكبتها إسرائيل بشعب، مَسْمَرَ مفتاح البيت في عبّه وقطر شجرة الزيتون وراءه. تعلّم الذاكرة المنفي عن أرضه أن يوقد حطبها باستمرار حتى لا تذوي رماداً. هذا ما كانت تجمعه على مسجّلتها، موضوعاً حياً لأطروحتها:
“على عتبة التخشيبة التي ألفَتها العائلة مسكناً موقّتاً إلى أن يحين فرج العودة، كنت ألتقيه، ساهماً في ماضيه، ينفخ من سيجارته دخان ذكرياته. خليل، والد هلا، أصيب بعد النكبة بداء الأرض، يراها في اليقظة والمنام تنزف دماً من شرايينه. أجلس بالقرب منه لأجني من شهاداته ما يغني دراستي، فأسمع عويل فتىً ما زال هناك، مختبئاً وراء سياج العلّيق يرى بأمّ العين مصرع والديه، بينما مأساة الاقتلاع عن الأرض والهوية كان لها بلسان سهام، الوالدة، إيجابياتها:
“في هذا المخيّم المتخم بالذلّ والقهر، خفق قلبي لشاب وحدانيّ، كان يجلس تائهاً، على الحدود المرسومة للاّجئين، كمن يرسم في خياله درباً للحرية. صرت شيئاً فشيئاً أقترب منه إلى أن صرت بمحاذاة صمته، أبوح، بصمتي، حبي له. هذا الصمت بنى عائلة، لولا المخيّم لما كانت. كان المشيّعون يقولون، خليل وسهام كشحا بحبهما الحداد عن وجه فلسطين. لكن، بعدما كبر الأولاد وعلى صفحات دفاترهم يصرخون كلمة ثورة، عاد وجع الحنين إلى خليل، لاجئاً في منفى صمته. أسمعه يرندح مواويل من هاك الزمن ثم يمسحها بكف دموعه”. هكذا حكت والدة هلا.
وتضيف سناء:
“في الطبق الذي غمستُ فيه لقمتي مع أفراد عائلة هلا، ومعهم مضغت طعم العلقم، أحسست بالطّلق الموجع لمسوّدة، سهرت عليها الليالي، وريشتي تدفق على الورقة بكل ما تتأزّز منه الحواس وترفضه العدالة الإنسانية، لألد بعد أربع سنوات مرجعاً أكاديمياً لطلاب العلوم الإنسانية، وشهادةً قيّمة ختمت بها سنواتي الجامعية”.
من بين الأشياء الباقية في البيت المهجور من أهله، وبعد غيابي سنوات عنه، صورة سناء تتصدّر بين الكتب المنحنية بعضها على بعض ضجراً. وقفت وجرح الفراق ينزف من جديد، أتأمل الفرح المشع من عينيها وهي تتسلّم من عميد الجامعة، الميدالية الذهبية على أطروحتها القيّمة، “العلقم في فم أطفال فلسطين”. امتدت يدي تلقائياً إلى المجلّد البنيّ، أنفض عنه الغبار بحثاً عن أخت فقدتها، لأجدها في رسالة موجعة، أهدتها إلى الإنسانية المعذّبة. شعرت فجأة، وأنا أمام الصفحة الأولى، بأن الجدار الذي كان مرتفعاً بيننا، زال بفعل الزمن. عدت توأمها، أناها الأخرى، وحدسي يُنبئني، من الإهداء في بياض الصفحة الأولى “إلى ماهر… كنتَ تسمّي مساحة جسدك وطناً”، بأن أطروحة سناء كانت من غير أن تدري، تعبيراً عن الثورة المتأصّلة فيها، والتي اجتاحتها شيئاً فشيئاً حتى انخراطها في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
أعدت المجلّد البني إلى الرّف إلى جانب صورة سناء، وأنا أتصوّر حياة شقيقتي الغامضة في الكلمات الأخيرة التي ختمت بها خمسمئة صفحة من التنقيب في مأساة المخيّمات الفلسطينية، تفوّق فيها النفس الإنساني الشاعري أحياناً على المادة الأكاديميّة.