(لِمُناسَبَةِ الذِّكرَى الأَربَعِين لِرَحِيلِ الصَّدِيقِ الأَدِيبِ والرِّوائِيّ نَظمِي أَيُّوب – 12/1/2019)
(في غِيابِكَ، صَدِيقِي، يَدمَعُ القَلبُ وَلَو عَصَتِ العَينُ، ويَذرِفُ القَلَمُ مِن لُهاثِ
الرُّوحِ ما شاءَ لَهُ الحُزنُ سَبِيلا…
إِلَيكَ، رَفِيقَ السَّنَواتِ الطِّوالِ، مِن فُؤَادٍ سَتَبقَى فِيهِ ذِكرَى شَجِيَّةً مِن زَمَنٍ جَمِيل!)
جاءَنِي النَّعْيُ، فَخانَتنِي المَفاصِلْ، أَينَ، يا إِلْفَ فُؤَادِي، أَنتَ راحِلْ؟!
ما الَّذي عَجَّلَكَ اليَومَ لِكَي تَدَعِ الخُلَّانَ في حُزنِ الثَّواكِلْ؟!
جِئْتَ أَنطِلياسَ في النَّدْوَةِ(1) إِذ ناقَشَ الأَصحابُ “أَقدارِي” بِنائِلْ
فَشَجانِي مِنكَ ذاكَ الوَجْهُ ما زالَ بِالبَسْمَةِ والإِشراقِ آهِلْ
فِيهِ مِ الصِّدْقِ لِعُمْرٍ عامِرٍ مِن جَلِيِّ الحُبِّ، مِن أَحلَى الفَضائِلْ
ما عَراهُ مَلَلٌ، أَو عابَهُ، في ــــــــــ هُمُومِ الدَّهرِ والأَيَّامِ، باطِلْ
يا صَدِيقِي سَرَّنِي أَن كُنتَ في ذلكَ اللَّيلِ كَنُورٍ مِن مَشاعِلْ
فَلِمَ استَعجَلتَ، عَنَّا، غُرْبَةً، وَلِمَ أَحرَقتَ، يا صاحِ، المَراحِلْ؟!
سَوفَ يَبقَى الرَّبْعُ حَيْرانًا على بُعْدِكَ المُرِّ، وَكُلٌّ فِيهِ ذاهِلْ
عُدْ، وَلَو طَيْفًا، إِلى دارٍ صَبَت يَعُدِ الأُنْسُ، وَتَفتَرُّ الخَمائِلْ
عُدْ، فَقَد نَسلُو غِيابًا داكِنًا، في غِيابِ الأَصْلِ قَد يُرضِي المُماثِلْ!
***
قَد بَلاكَ الدَّهرُ يَومًا فَإِذا الشَّاعِرُ المُبدِعُ في رَكْبِ البَواسِلْ
فارِسٌ في حَوْمَةِ الجُلَّى كَما فارِسٌ في جَوْلَةِ الحَرفِ المُنازِلْ
ساهِرٌ، كُنتَ، على ما تَبتَغِي، تَزحَمُ الأَحرُفُ، قَطْعًا، كُلَّ حائِلْ
كَم تَنَخَّلتَ القَوافِي فَانجَلَت عَذْبَةَ الإِيقاعِ مِن سُمِّ المَناخِلْ
لا تَنِي صَقْلًا بِها، في دُرْبَةٍ، لَيسَ تَثنِيكَ عَنِ البَدْعِ المَعاضِلْ
فَإِذا الرُّقْعَةُ سِحْرٌ خالِصٌ، وَشَذا مَرْجٍ، وتَغْرِيدُ بَلابِلْ
خَرَجَت كَالنَّوْرِ في مَيْعَتِها، كَانسِيابِ الفَجرِ غَضًّا، كَالسُّلاسِلْ
هِيَ آياتٌ فَلا يُرهِقُها عَنَتٌ، فَقْرٌ، وَضَعْفٌ في المَخايِلْ
وَكَذا الآدابُ بَرَّزتَ بِها، ثُرُرٌ، غُرٌّ، بِما تُغنِي، جَلائِلْ
“حَجَرُ الزَّاوِيَةِ” المِفتاحُ، وَ”الشَّامَةُ ــــــــــ البَيضاءُ”(2)، في المَجْنَى الأَوائِلْ
كُنتَ تُعطِي مِن خَيالٍ مُمْرِعٍ، فَاليَراعُ العَفُّ بِالإِبداعِ خاضِلْ
سَوفَ يَبقَى كُلُّ ما دَبَّجتَ، في خاطِرِ الأَيَّامِ، مِن أَجلَى الأَماثِلْ
هُوَ كَالتِّبْرِ، وَقَد جِئْتَ بِهِ، ساطِعًا يَبرُقُ ما بَينَ الأَنامِلْ!
***
قُلتَ لِي، بَدْءًا: تَأَنَّ لُغَةً، مَحِّصِ الإعرابَ، دَقِّقْ في المَسائِلْ
ثُمَّ مَرَّت سَنَواتٌ، بَعْدَها قُلتَ لِي: يا فَذُّ ذَلَّلتَ المَجاهِلْ
هكذا كِبْرُكَ، يا فارِسَها، لُغَةِ الضَّادِ، ويا قِرْنَ الأَصائِلْ
لَن أَراكَ، اليَومَ، إِلَا باسِمًا لِحُرُوفِي، شاخِصًا فِيها، وَناهِلْ
قَد غَزَلْتُ الحُبَّ بُرْدًا دافِئًا، هَل تَلَفَّعْتَ، تُؤَاسِي حُزْنَ غازِلْ؟!
لَم تَشَأْ صَدِّي، على العُمرِ، فَهَل، بَعَدَ أَن وَلَّى، تَكُونُ الآنَ باخِلْ؟!
***
ذاكِرٌ أَيَّامَنا والعُمرُ في وَهْجِهِ، والشِّعرُ لا يَثنِيهِ شاغِلْ
سَوفَ تَبقَى جُذْوَةً لِلدِّفْءِ في وَحْشَةِ الأَضلاعِ، ذُخْرًا في المَنازِلْ
مَرْجِعًا سَمْحًا لِطُلَّابِ البَها، وَمَعِينًا دافِقًا بَينَ المَناهِلْ!
***
يا صَدِيقِي، ها يَراعِي عَيَّ في فَوْرَةِ الحُزنِ، وَقَلبِي، اليَومَ، ذابِلْ
طالَ، في الدُّنيا، سُرانا، وبَدا في سَوادِ الجَعْدِ، مِ الشَّيْبِ دَلائِلْ
والغُضُونُ السُّمْرُ ما عادَ بِها رَوْنَقُ الصَّبْوَةِ يَزهُو ويُغازِلْ
ورَبِيعٌ صَوَّحَت أَزهارُهُ، نَجمُهُ في الأُفقِ مُسْوَدٌّ وَآفِلْ
سِرْتَ في الدَّرْبِ شِعارًا لِلوَفا، وَعَبِيرًا فاحَ مِن طِيْبِ الشَّمائِلْ
عاجِلًا كُنتَ، فَبادَرْتَ النَّوَى، وأَنا، في سَعْيِنا المَكْدُودِ، آجِلْ
سَقَطَ المَعبَدُ لكِنْ لَم يَزَلْ أَرَجُ النَّدِّ على الأَطلالِ ماثِلْ!
****
(1): نَدوَةٌ حَولَ رِوايَتِي “أَقدار” في الحَرَكَةِ الثَّقافِيَّةِ أَنطِلياس، في 10/5/2018
(2): “حَجَرُ الزَّاوِيَة” وَ “الشَّامَةُ البَيضاءُ”: مُؤَلَّفانِ لِلأَدِيبِ نَظمِي أَيُّوب
