تحية إلى روبير غانم
لا أستطيع كبح الصدمة التي تصيبني كل مرة يغيب فيها مبدع كبير لدى رؤية اللامبالاة التي يتعامل بها الناس مع الحدث. والأفدح، لامبالاة زملاء وزميلات الإبداع، وخصوصاً تجاهُل أهل الصحافة والإعلام، وفوق كل ذلك غفلة دولة مرتاحة في غيبوبتها.
منذ أيام غاب عن هذه الفانية الشاعر والمفكر والمعلم روبير غانم الذي أمضى عمره ينحت كتابة في صخرة الوجود، وترك مؤلفات قيِّمة عدّة أودع فيها رؤاه ومعارفه وأسئلته وأبحاثه، ومنها كُتب الشعر الذي سجل فيها تجليات نابعة من جرح كونيّ كان يقلقه وقلب طفل ينبض حباً وجمالاً. ومع ذلك، كأن شيئاً لم يكن، كأن شاعراً لم يكتب، كأن قيمة لم ترحل. والحيوات، هامةً كانت أو تافهة، استمرت خانعة مخدَّرة تائهة في متاهات الهموم الصغيرة والكبيرة، معظمها لم يقرأ كتاباً خارج مقررات النهج الدراسي.
كان روبير غانم أفضل العارفين لهذا الواقع فهو قد قال “بلدي تابوت الشعراء”. آمَن بالشعر ملاذاً وخلاصاً، وبالفكر معرفةً وارتقاءً، وأحبَّ وطنه حتى البكاء،تَكرَّس له حتى الثورة. أحَبّ هذا الكون حتى الثمالة وخاب من الحال التي آل إليها حتى اليأس. ومن أقواله في هذا: “الشهوات، على اختلافها، تعمل على تدمير العالم…. هذا العالم الذي فقدَ هُويّته وقيَمَه ومضامينه النورانية وبهاءاته تحوّل في السياسة والأدب والاجتماع والفكر الى زرائب لحيوانات كاسرة، تتحايل للانكباب على فرائسها.إنه عالم الموت، ولا أثر فيه لحياة ترتدي ثوب الرقيّ وقيم الحقّ والخير والجمال.فما غليان هذا العالم، سوى غليان ملوّث لأنه تحوّل أسير العهر والزندقة وعبادة الأوثان، وطليعتها: المال والسلطة والجنس”.
وظل يدعو إلى الثورة على البشاعات الوطنية والكونية منذ كتابه “صديقتي الثورة” (1980) وينتظرها حتى آخر لحظة من حياته، حيث كان يستشرفها في كتاباته أو صرخاته على الفايسبوك.
عرفتُه في ثمانينات القرن الماضي حيث جمعَتنا إذاعة وقضية، قضية تحرير لبنان عندما كانت تنهش جسدَه حروبٌ خاضها شياطين الدنيا كلها. في تلك الأيام، كان صوتاً متفرداً يوحي لي دائماً بأنه جالس على غيمةِ نقائه وصدقه وأصالته. وبعد عودتي من الهجرة في الولايات المتحدة، قرأتُ أقوالاً له وجدتُ فيها وصفاً رائعاً للانطباع الذي تركَه لديّ منذ تلك السنين التي عرفتُه فيها: “لستُ هنا إلا نادراً، لأنني مخطوف إلى الهنالكات“.
ما أذكره عن روبير غانم أنه كان ينزف ألماً على واقع لبنان ومعاناة شعبه، وحاملاً همَّ الكلمة والمعرفة والإبداع الذي يبحث عن معنى الوجود ويعطيه المعنى في آن. ومن أقواله المعبِرة: “أبحث عن هُويّة تُجذّر وجودي في هذا الوجود الخادع، لأن الوجود الحقيقي هو أبعد من كل موجود.جئتُ لأعرف. جئت لأصير موجوداً، بالفعل، وليس بالتصوّر. جميعنا موتى مؤجَّلون، والموت شاعرُنا الأعظم“.
رغم اللامبالاة والتجاهل والإهمال وقِلّة القيمة، وهي أمراض الجهل والسطحية المتفشية في مجتمعنا، أؤكد مع البعض (وهُم قلّة نوعية) أن الشعراء لا يموتون. وروبير غانم لا يموت. فما أن غاب جسده حتى تجدَّدت حياةُ كُتبِه. فها قد بحثتُ عما أمتلكُ منها ورحتُ أتصفَّحها وأغرق في بعضها وأحلِّق في “هيولات” و”يواقيت” و”تشاسعات” و”هنالكات” روبير غانم (وهذه من مفردات قاموسه المبتكرة)، فيحيا إرثُه أمام ناظرَيّ وتسافر أفكارُه منتعشةً إلى فضاءاتي. وهذا ما سيحصل مع قراء آخرين ودارسين وطلاب (من القلة النوعية) سيبحثون عن كتبه وينهلون من إرثه بحثاً عن الكلمة التي تعبّر عن مكنوناتهم وتشبع جوعهم إلى الجمال والفكر وتغوص بهم في بحار النفس البشرية وربما تجيب على أسئلتهم الوجودية أو تساعدهم على طرح الأسئلة.لعله الآن وصل إلى سر الكون هو الذي كان يقول “أحاول باستمرار أن أقبض على نكهات الأسرار الكونيّة، محاولاً تخطّي الأقذار الأرضية الى رحابات الفيض الإلهي“.
وكتحية وفاء وتقدير لمسيرة هذا الشاعر والمفكر الفذ، أضيف إلى هذه الكلمات المتواضعة ولكن المليئة بالإعجاب والمحبة، مقالاً كتبتُه عن أحد كتبه “يا حرب جاء الحب” لدى صدوره في عام 1987، ونُشر آنذاك في مجلة النهار العربي والدولي وفي إحدى المجلات العربية.
يا حرب جاء الحب
مَن يصدِّق أن لبنان، في حالته المأساوية المعروفة، لا يزال يشهد ولادات فنية وأدبية جديدة، في حين يتناهش جسمَ الوطن وحياةَ المواطن انهيارٌ اقتصادي رهيب يتفاقم يوماً بعد يوم، دافعاً الناس إلى عدم الاهتمام إلا بتأمين لقمة العيش، وجاعلاً الشأن الثقافي ترفاً في غير محله.
مَن يصدِّق أن ثمة فئة من اللبنانيين، هي فئة الكتّاب خصوصاً، تعتنق الكتابة والنشر، ليس ترفاً إنما حاجةً وهمّاً وقهراً وألماً يلازم أيامهم ولياليهم. فغالبية حَمَلةِ الأقلام مُصِرّون على الاستمرار في الكتابة والنشر حتى ولو كان ذلك على حسابهم الخاص، مقتطِعين تكاليف النشر من تكاليف لقمة العيش بالذات، باعتبار أن لا شيء يسدُّ جوعهم الحقيقي إلا لقمة الكلمة.
قطفنا مؤخراً زهرة جديدة نبتت في حقل الشعر، زرعها الشاعر روبير غانم واسمها “يا حرب جاء الحب”.
غلاف الديوان بلون الحب، أزرق، يدعونا إلى تقليب صفحاته بنَهَم. وقد صدَّره الشاعر بمقدمة تحت عنوان “الشعر… عقيدة المستقبل”، يقول فيها:
“زمن السقوط آتٍ ولن ينقذه سوى الشعر. والشاعر العظيم هو ابنٌ وفيّ لمجمل التراث الإبداعي الإنساني عبر العصور. وليس هنالك شعر بل شاعر يوسِّع الشعر ويجذِّره في الناس. الشاعر وحده سيِّد الرفض الحقيقي والثورة. والشعر هو ’الفوضى الإبداعية المنظَّمة’ أو ’الهذيان الهادف’… وحده الشعر يعيد تأسيس العالم والكون…”
ثم قسَّم ديوانه إلى دوائر سمّاها: دائرة الماضي، ودائرة الخوف، ودائرة النقاء، ودائرة الرؤيا، ودائرة العشق. إنها دوائر رسم عليها الشاعر كوريوغرافيا الرقصة الصوفية التي يدعونا إليها مطلِقاً إيقاع قصائده من قاموس كلماته الشفافة. فثمة كلمات ومفردات يبدو أنها محظِيّة لدى روبير غانم، تطلّ علينا من صفحة إلى أخرى وتتكرّر كأنها تعاويذ خاصة تكتمل بها طقوس الدخول إلى عالمه الشعري. من هذه الكلمات: جزر، سفر، وجع، خفر، خرافة، ضجر، أسماء، ذهول، مسافات الزمن، الصهيل، الفرادة، وغيرها.
يقول مثلاً في قصيدة بعنوان “ضجر”:
“أدركتُ أنكِ المطر
وأنَّ من عينيكِ يَرشَح السفر
وأنَّ في عينيكِ غابتَيْن من رموز
وأنَّ فيهما مسافةً من القَدَر
أدركتُ أنَّ الطائرَ القديمَ عادَ
ينام في عينيكِ يا حبيبتي من الضجر”…
العنوان “يا حرب جاء الحب” يوحي بأن الشاعر كتب عن الحرب منبِّهاً إياها إلى وجوب المغادرة لأن الحب قد جاء. ولكننا نكتشف بعد القراءة أن أي ذكرٍ للحرب لم يرد في القصائد، ما عدا بعض التلميحات العابرة. وكأن الشاعر يرشق الوحش بباقة ورد علَّه ينتشي بعطرها فيتراجع، أو لعله أراد أن يتحدث عن الحب ليظهر قبح الحرب بصورة غير مباشرة. يقول مثلاً، في المرة شبه الوحيدة التي يأتي فيها على ذكر الحرب مباشرة، متوجِّهاً إلى الحبيبة:
لا شيء غيركِ بعد الحرب يلوِّن مكاني
فلأجلكِ بعد الحرب صار الهَمُّ جميلاً
لأجلكِ يصير الصباح طرياً كالحب”
نشيد للحب هو ديوان روبير غانم، وحوار مع الحبيبة. لكنه حوار من طرف واحد، حتى نخال أن هذه الحبيبة ليست من لحم ودم ولا وجود لها إلا في أحلام الشاعر “المسافر عبر الأزمنة”. وهي على الأرجح تطلُّ عليه من مدن الخرافة. وهذا ما يجعل قصائده بعيدة عن الأشياء اليومية والحالات الواقعية، وتظل محلِّقة مثل ضبابة مرتحلة فوق “جزر الخيال”:
“يا ليتني خرافة
لكان ظِلّانا على وجوه الماء يكبران
يباركان الريح يا حبيبتي
وينأيان”
ديوان “يا حرب جاء الحب” هو من الكتب الشعرية التي تحاول إيصال رسالة جمال وصدق، وتجعل من القلق والضجر والوجع حالات مثمرة شعرياً، إذا صح التعبير، ذلك أننا نستشف من بين السطور وخلف الكلمات وجع الشاعر بولادة القصيدة بين يديه وبقطف الصور الشعرية. وكتابته هذه ليست دعوة لاستقبال الحب فحسب (يا حرب جاء الحب)، بل هي أيضاً احتفال بالشعر، وانتشاء بكل قصيدة تولد مبشِّرة ًبتواصل عطاء الشاعر ومعلِنةً استمرار تحليقه في ارتعاشات الكلمة:
“على حدود ضيعةٍ قديمة
بنَيْتُ في الرياح لي مدينة
سوَّرتُها بعُقَدِ الأصابع
أقمتُ حولها الأفراس والمعابد
زرعتُ في ساحاتها مَطالع القصائد”
في ديوان “يا حرب جاء الحب” للشاعر روبير غانم، كل قصيدة تشدُّنا إلى الثانية فننجز القراءة في جلسة واحدة وكأن الديوان قصيدة واحدة.
****
من مؤلفات روبير غانم: سنوات الحزن 1968؛ صديقتي الثورة 1980؛ يا حرب جاء الحب 1987؛ العصيان 1996؛ موسوعة “أبعد من الفلسفة” 2007؛ الميتافيزيق؛ والكتب الخمسة التالية في عام 2016: ما وراء الخيال؛زمان وراء زمان؛الفلسفة داء أم دواء؛لماذا لا أعرف؟؛هنالكات.
وصدر عن روبير غانم ثلاث دراسات:
“روبير غانم شاعر المعرفة والزمن”، وفيق غريزي، 2005.
“شعر روبير غانم وفلسفته…بوّابة إلى المطلق اللامتناهي”، جان طنّوس، 2006.
“نظرية المعرفة في فلسفة روبير غانم”، وفيق غريزي، 2007.
في قراءتها الوفية الوافية، الممتعة الشائقة، تدخلنا نهاد الحايك، المفعم قلمها بالصفاء والصدق، عالم روبير غانم المثالي، الساحر، الجميل، فندرك، مثلها، ان امثال روبير غانم لا يموتون.