تيقّن بعد أن حصل على تقاعده، أنه سيتذكر دائماً لحظات خروجه من تلك الدائرة العتيدة، كما نيل شعب استقلاله، أو مثلما تحليق طير بعد انعتاقه من قفص..
محتفلاً بنيله حريته من سجن الوظيفة لمدة ثلاثين عاماً، قرر عبور جسر الشهداء، القريب من دائرة التقاعد، مشياً على الأقدام، كي يستنشق ملء رئتيه النسائم العذبة لدجلة، يتفكر في تنفيذ ما خططه في رأسه، مسترجعاً مفردات البرنامج الحر، متوقفاً عند منتصف الجسر، متأملاً مياهه الزرق، الجارية أبداً، فهي كما يقول الفيلسوف أوغسطين” إنك لا تنزل النهر مرتين” وها مرت سني عمره، عجاف أغلبها، مدافة بحلاوة لحظات تمضي سريعاً، عزاؤه سجل حياته النظيف وإخلاصه في عمله..
عاد للسير الهوينا قائلاً: أسرع لكي تمسك بما تبقى، أديت ما عليك تجاه أسرتك، أولادك وبناتك، بدؤوا يتحملون مسؤولياتهم، ويكونون أسراً جديدة كما بدأت..
حين انتهى الجسر، عبر إلى الرصيف المحاذي لسوق السراي والمتحف البغدادي، مكملاً تداعياته: (نفّذ ما خططت له: برنامج شتوي؛ هنا في بغداد، الاسترخاء ولقاء الأصدقاء ومعاودة الشغف بالقراءة)، فتذكر أن يذهب الآن إلى شارع المتنبي، كي يقتني كتباً جديدة، فعاد إلى الوراء، متجهاً إلى سوق السراي.
(أما البرنامج الصيفي السفر إلى مختلف دول العالم) لم يكمل ما كان يتمتم به حين حدث انفجارٌ مدوٍ، فحلّق بجسده الضامر إلى الأعلى، وهبط متطايراً أشلاءً.. في الجهات الأربع.
****
* من مجموعته القصصية الجديدة “خزانة النسيان” الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر / بيروت.