في تكريم يوسف حبشي الأشقر

بقلم: مايا حبشي الأشقر

maya-habchi-1--2في كلِّ مرّةٍ أُدعى إلى إلقاءِ كلمةٍ فيكَ، بمناسبةِ تكريمِكَ، أقفُ أمامَ أوراقي حائرةً ، لا أعرفُ من أين أبدأ…

أقولُ أوراقي نعم ، لأنني ما زلتُ أنتمي إلى قلّةٍ قليلةٍ لا تكتب مباشرةً على الحاسوب : قلّةٌ ما زال الله ينعمُ عليها بعلاقةٍ فريدةٍ مع الورق !

مثلكَ أنا يا أبي ، أعشق رائحةَ حبرِ القلمِ ، يعشقُ بدورهِ الورقة فيدخل على رتابتها ويعانقُ بياضَها فيخلع عنها عذريتَها ويخصّبُها حروفاً وكلمات !
مثلك أنا، أعشقُ مشهدَ المدّ  والجذر يعيشها حبرُ القلمِ على الورقة، فأتلذّذ برؤيته يروح ويجيء، يركض تارةً وتارةً يتعثّر، ينساب طويلاً ثم يتوقّف لاهثاً، يقفز على السطور رشيقاً أو يجرّ ظلَّه متخماً، يكتب، يمح، يُكرمُ، يُبخلُ، يطاوعني حيناً ويعاندني أحياناً ولكن، أبداً لا يسأم رقصَه الصوفي على مذبحِ الورقةِ الأبيض !

تُراها قدسيّة الكتابة تنتقل بالوراثة؟
تُراني أضَلُّ طريقي وأكرّم نفسي من على هذا المنبر؟
تُراكَ تبتسم من على غيمك لأنك وحدَك تدركُ خفايا ما أقول؟

استحضر وجهَك وزرقةَ عينيك علّني أعرف من أين أبدأ؟ علّني أرقص معك ببضعةِ سطور … علّني أحكي لغةً غير مستترة يفهمها الحضور … علّني أغلبَ رتابة الورقة … علّني أوَفّق !

استحضر وجهَك واستحضر صوتَك. أكاد أسمعه حقاً يردّد :”أريد كلمات! كلمات لها رائحة ولونٌ و صوت … علّها في النجوم ، في الريح ، في بطن التراب”…

أردتَ الكلمات ووجدتَها يا أبي !
تسلّقت صَنوبَرَتك الشامخة لتطال النجوم وتقطفَها وقلبتَ الأرضَ في كل الفصول لتنبشَها وانتظرتَ الريح على الأرصفةَ والطرقات لتلتقطَها … إلى أن سكنت كلماتُك أرجاء البيتِ بلا رحمة، فعششّت في قرميده وافترشت سجّاده وأسدلت نفسَها ستائرَ زاهيةً على شبابيكه وصارت سيّدةَ المكان! فبتنا نعيش جميعنا برِفقتِها، تحتلّ الأمكنة كلّها وكم نحبّها! ترقد في أسرّتنا، تأكل من صحوننا، تجلس في مقاعدنا، تسبح في زِهرّيات أميّ، تسبِقنا إلى حرجِك، تحتلّ الأمكنة لكنها لا تزاحمنا أبداً على حبّك! كلماتك يا أبي لم تأخذ مكانتَنا عندَك، لذلك عشِقناها بدورِنا!

شريكة طفولتنا كانت، فراشات فصولنا الأربعة تطير من حولنا ولا تتعب … فصارت أحبّ ألعابنا الورقة والقلم: نكتب، نخرطش، نرسم ؟ لا يهمّ! مثلك نتحدىّ بياضَ الورقة، مثلك نغلبُ جمودَها ونفكّكُ صمتَها، مثلك نعشقُ وجودَها السّامي في دارنا … ملكوت الكلمات!  yousef habchi el ashkar

قلتَ تريد كلمات يا أبي أم أن الكلمات هي التي أرادتك؟ أأنتَ من وجدها أم هي من وجدَت طريقها إليك؟

كلماتُك زرعت في قلوبنا نزاهةَ فرسان خطيب الضيعة وفي دمِنا صلابةَ راحيل وعنادَها! علّمتنا أن الجذور تنبت في السماء بلى، إذا عرفنا أن نحبّ وأن وجوه الأرض القديمة أيقونةٌ لا يقوى عليها الموت . كلماتُك أضرمت إنتماءَنا إلى كفرملات / بيت – شباب وناشدَتنا بأن نكونَ ظلاً لمن نحبّ من دون أن نكونَ صداه !

كلماتُك مشتاقة إلى خالقِها يا أبي! تنام في قعرِ البركةِ منذ رحيلكَ، تنتظركَ تدمّر جدارَ الصمتِ لتخرجَ من سباتِها، تحنُّ إلى أصابعِك تقولبُها وتجسّدُها وتنفخُ فيها الحياة . انتقت البركةَ تحت صَنوبرتِكَ مقراً لها لأن الصَنوبرة تؤامُكَ، زرعها جديّ يومَ وُلدتَ !

أحياناً، أهزّ وحدَتَها وأغرفُ منها ما يملأ قبضةَ يدي وأقيمُ لها عِرساً خجولاً على مذبحِ الورقِ الأبيض . أزوّجها القلمَ فتنجبُ  وتتكاثرُ بسرعة . يُذهلني انعتاقُها وتَوقُها إلى الحرّيةِ فأدركُ كم أنا مقصّرةٌ تجاهَها، أخونُ عهدي لها بالحياة . تُراكَ تركتَها لي إرثاً ثميناً لا ينضب؟
لكني غالباً ما أتجاهل وجودَها، فأمرُّ بها على رؤؤسِ قلمي علّها لا تراني، علّها لا تناديني فأنجو من مساءلتِها! أعذرني إن صرتُ أتحاشى الكتابة َلأن قارئي الأول والأخير تركَ كلماتَه ومشى ! أتحاشى الكتابةَ لأتحاشى فراغَ غيابِكَ يأكلني … غولٌ لا يشبع! لأتحاشى خيبةَ الجدارِ المسدودِ فأسألُ نفسي: “لمن أكتب و لماذا أكتب؟”

ويحضرني صوتُك وكأنه يؤنبُني، يردّدُ على مسمعي أبياتاً وُلدت قبلي، كتَبتَها لمّا بدأ مشوارُك مع الكلمات، تقول:
” أكتب ؟
أنا لا أريد أن اكتب
كل شيء قيلَ من زمان
أحبُ الشعورَ دونَ نحت
بلا ألوانً و لا حروف
أبغضُ الأوراقَ سوداء
بلهاء
تأخذ نَفسي لا تُرجعها
لكن …
بي إعصار
أكتب رغماً عني
يمشي الحبر، يمرّ في اعماقي
يختلطُ بي، بدمي
الكتابةُ خلقٌ موجعٌ
لا تستمهل، لا تُشفق
تيّارٌ يفرّ عندما يشاء
لماذا؟ كيف؟ متى؟
لست أدري
أكتب مع الإِعصار
على الأوراقِ رقصٌ، مشيٌ، دموعٌ، أوهام !
لكن…
لها حياة
لها لسان
وفمٌ و عينان
تكلّمني
تُشعربي … معي
تُنسيني
أن كل شيء قيلَ من زمان !”

 **********

(*) ألقيت في الندوة التي نطمتها دار نلســـــن للنشــــــــــر في عنوان “تحية الى الروائي الراحل  يوســف حبشي الأشقــر” 21 سنة على الغياب، شارك فيها: د.يمنـــــــــى العيـــــــــــد ، د.لطيــــــــــف زيتــــــــوني، مـــايا حبشــي الأشقــــــر، د.محمـــــــود شريــــــــــــح، أدارها وقدمها الأديب سليمان بختي.

كلام الصور

1- مايا حبشي  الأشقر

2- يوسف حبشي الأشقر

اترك رد