“رسائل إلى فيرا”.. نابوكوف عاشقاً

 

   

في “رسائل إلى فيرا” الذي صدرت ترجمته الفرنسية عن دار فايار العام الفائت، يكتشف القارئ علاقةَ العشق الاستثنائية التي ربطت الكاتبَ الروسي، فلاديمير نابوكوف، صاحب الروائع الأدبية الشهيرة، لوليتا، نار شاحبة، آدا، بزوجته فيرا، وسوف يكون أكثر ما يدهشه استدامةُ تلك العلاقة، وثباتها أكثر من خمسة عقود انتهت بوفاة الكاتب (1977)، لا بل نجاحها وتماسكها وابتعادها عن كل ما يميّز علاقات الحب الكبيرة التي تنتهي إلى عذابٍ وموتٍ وفراق.

“إني مستعدٌّ لمنحك دمي كلّه إذا اضطررت – يصعب عليّ تفسير ذلك، ويبدو الأمر سخيفا مسطحا، لكن تلك هي الحال. سأقول لك: “بحبي لأمكنني ملء عشرة قرون بالضوء، والأغاني، والشجاعة – عشرة قرون كاملة، عجيبة وهوائية…”.

التقى الزوجان في شهر مايو/ أيار من العام 1923 في برلين، خلال حفل راقص للمهاجرين الروس. كان فلاديمير يومها معروفا شاعرا ومترجما، هو المولود عام 1899 في سانت بطرسبورغ، ضمن عائلة ثرية اضطرت إلى ترك كل شيء وراءها هربا من الثورة البلشفية. وكانت فيرا، المولودة عام 1901، في المدينة نفسها، ابنة تاجر خشب يهودي تحوّل إلى ناشر كتب في ألمانيا.

اتخذ نابوكوف فيرا سكرتيرةً له ومترجمة، ثم بعد عامين، تزوجا. وهما قلّما افترقا، إلا في ظروفٍ معينةٍ وفترات محدودة، فرضتها الظروف المضطربة في أوروبا آنذاك. ومع ذلك، كان فلاديمير يكتب لفيرا، يوميا، في فترات البعاد تلك، وهو ما أنتج كمّا كبيرا من الرسائل التي صنعت سيرة ذاتية غير مباشرة للكاتب، ضمّت تفاصيل عن حياته، الشخصية والعامة.

فلاديمير نابوكوف

هكذا تتناول الرسائل الفترة التي سافرت فيها فيرا للعلاج في مصحّة في الغابة السوداء، أو زيارة فلاديمير عائلته التي لجأت إلى براغ، أو سفره إلى باريس، حيث رفضت فيرا اللحاق به، أو لاحقا رحلاته إلى الولايات المتحدة، حين كان يُدعى إلى إلقاء محاضرات.. وهي كلها تكشف ما يشعر به فلاديمير من ولهٍ كبير حيال زوجته، الانقلابات التي واجهاها معا في حياتهما العملية والمادية، حالة العوز المادي التي عانى منها في باريس، سعيه إلى إيجاد ملجأ لأهله في فرنسا، سويسرا، أو الولايات المتحدة، الشهرة التي بدأت تشقّ طريقها إليه، المواضيع الروائية التي يعمل عليها، طاقته الإبداعية، الخصائص التي تميّز أسلوبه الأدبي الفريد، وخصوصا الأهمية الكبرى التي كان يوليها لحكم فيرا عليه، ولرأيها في أعماله.

لقد كانت فيرا بالنسبة لنابوكوف، وخلال 55 عاما، الزوجة، والعشيقة، ووالدة ابنهما الوحيد ديميتري (1934 -2012)، والسائقة الخاصة، ومصحّحة مخطوطاته، وصلة الوصل بينه وبين ناشريه ومترجميه، ومساعدته مدرّسا في الجامعة، وبديلا له في التعليم حينما يتغيّب، إلخ، إلخ، من دون أن ننسى أنها من أنقذت مخطوطة لوليتا من النار، حين همّ نابوكوف بإحراقها.

إلى جانب العلاقة العاطفية، تكشف لنا الرسائل بعض آراء نابوكوف بمعاصريه، وبما يدور من حوله. “أخبرتني نينا بربروفا أن المثليين جميعا متحمسون لكتابتها بيوغرافيا تشايكوفسكي، صديق مؤخراتهم”. “جويس التقى بروست مرة واحدة، بالصدفة. لقد وجدا في التاكسي نفسه أحدهما يريد فتح الشباك فيما يريد الآخر إقفاله – حتى أنهما كادا يتشاجران”. باريس ، 1937، “كان جويس حاضرا، وقد تحادثنا بمودة. إنه أكبر قامةً مما كنت أظن، مع نظرة فولاذية مخيفة: فإحدى عينيه لا ترى أبدا، وبؤبؤ العين الأخرى (الذي يثبته عليك لأنه لا يستطيع تحريكه) استبدل بثقب، لقد وجب إجراء عملية له ست مرات لثقبه، من دون التسبب بنزيف دم”…

نحو مئة رسالة كتبها نابوكوف، الزوج المحبّ والمخلص الذي لا يخفي السعادة التي منحه إياها وجودُ فيرا في حياته. أما هي، “ملاكُه ذو الخصل الشقراء”، فلن نعرف عنها الشيء الكثير، وقد حرصت على إحراق كلّ ردودها إليه، بقدر حرصها على حفظ رسائله إليها.

****

(*) العربي الجديد 27 نوفمبر 2018.

اترك رد