لمناسبة مرور عام على انتقال المثلث الرحمة البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم، وبدعوة من البطريركية في كنيسة رقاد والدة الاله في البلمند، ترأس بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي القداس الإلهي والجناز، بمعاونة كل من المطارنة جاورجيوس خضر، الياس الكفوري، جاورجيوس أبو زخم، باسيليوس منصور، أفرام كرياكوس، وكل من الأساقفة رئيس دير سيدة البلمند غطاس هزيم، نقولا بعلبك وكوستا كيال ولفيف من الكهنة والشمامسة.
وبعد الإنجيل المقدس، ألقى يازجي عظة مما فيها: “إنسان هذه المنطقة حبيبنا. نحن من هذه الارض نطلع فنتصاعد إلى السماء. نذهب حتى جذور تاريخها ونمتد إلى غدها على مركبة الرجاء. نحن لسنا طائفة يقف همها عند حدودها. نحن ومضة ونبض ونسغ حتى يتألق الجميع ويطمئن الجميع. ونحن على المصلوبية حتى لا ينوء أحد سوانا تحت الصليب، وأن لنا من الحب والرؤى اللاهوتية ومن ممارسة هذه البلاد ما يجعلنا نشعر بأننا لحمة بين طوائفها جميعاً.
هذا ما قلته يا سيدنا اغناطيوس في الكنيسة المريمية يوم قلدت عصا الرعاية والأبوة أواخر سبعينيات القرن الماضي. وهذا ما تردد صداه قلوب المؤمنين المجتمعين ها هنا، كما جدران هذه الكنيسة الشاهدة على عراقة وأصالة ايمان كنيسة الإنطاكيين.
لسنا هنا لنرثي اغناطيوس الرابع بل لنستذكر من خلال حياته ما له أن يترع قلوبنا رجاء ويلهبها غيرة وحمية. حين يتكلم المرء عن اغناطيوس الرابع يجد أن الكلمات تخونه وتخذله، في ذكرى ذلك الطفل والشاب والطفل والشيخ الوقور الذي التقم منذ صباه محبة الرب من أهل وديرة طيبة، فاعتجن بخير التواضع وتنهنه على صاج محبة الرب فأفاح عرف طيبه للعالم كله.
حين يتكلم المرء عن الأغناطيوس، عن الناري اسما – كما يدل معنى اسمه في اللاتينية – وعن الناري فعلا وموقفاً، فإن نار الغيرة الربانية تلظي قلبه بذكر ذلك الفتى حبيب الذي احتضنته كنيسته محردة مرتلا متتلمذا على يد ابيه. ونار الغيرة هذه ترسمه في مخيلة كل منا مغادراً بلدته سنة 1936، وهو ابن الـ 16 ربيعاً، وقاصداً طرابلس ومنها إلى بيروت، حيث رأى ما سمته كتب ذلك العصر الحداثة، وفي بيروت عرف الفتى كيف يكون كالنحلة الحكيمة التي يتكلم عنها القديس باسيليوس الكبير، والتي ترى كل شيء وتنظر كل المروج لكنها لا تنغمس في كل شيء، بل تنتقي بديع الأزهار فترتشف رحيقها وتبث محيطها عسلا خالصاً مختمراً بحب الرب وعشق كنيسته المقدسة.
درس الشاب في بيروت واحتضنته محبة راعيها آنذاك، فعرفت الجامعة الأميركية ذلك الشاب الذي لم يخجل يوماً بثوبه الكهنوتي في رحابها، ولم يأل جهداً في تلقف كل العلوم الإنسانية. وهنا قد يقول قائل إن علم العلوم ومحجة المعارف هي الصلاة والصلاة وحدها وهذا صحيح. إلا أن الجواب هنا يأتي من الآباء من أمثال الذهبي الفم وغيره الذين توسلوا علوم الدنيا الأرضية بأسرها ليوصلوا اسم الرب إلى الشفاه، ويوطنوه أفئدة الناس وكيانهم. من بيروت آثر الشاب، الذي صار الشماس اغناطيوس، طلب العلم اللاهوتي في فرنسا وفي معهد القديس سارجيوس، فدرس هناك ونال أعلى الشهادات، وعاد إلى مطرانه ليتسلم إدارة مدرسة البشارة.
سيم كاهناً وارشمندريتاً ومن ثم اسقفاً سنة 1962، وفي السنة عينها انتدبه البطريرك بناء على رغبته هو لرئاسة دير سيدة البلمند. ولم تكن التلة البلمندية حينها تتخيل أنها ستتجلى بحضور اسقف بلميرا وتنفض عن شرارة روحها غبار الزمن وترهل الماضي. وفي البلمند سقى الأسقف الشاب كنيسة المسيح بعرق أتعابه، فأشرف على بناء المدرسة واصطبغ ذكره بمعهد اللاهوت. ومن البلمند انتدبه المجمع مطرانا على اللاذقية وفيها ربانا واحتضننا فتيانا يفعاء مرشداً خطانا إلى ديار الرب.
في تموز عام 1979 اختارته المشيئة الالهية خلفاً للمثلث الرحمة الياس الرابع وسائسا عرش الرسولين. في سنة 1988 وفي ذروة أحداث لبنان المريرة أطلق غبطته مشروع جامعة البلمند. يومها قيل له أتراها ظروفاً وأحوالا مناسبة تلك التي تكتنفنا لنبني معاهد وجامعات؟ فأجاب إذا كان قدرهم أن يدمروا فإن قدرنا أن نبني ونبقى. وهذا بالفعل ما يختصر حالنا الآن في المشرق كله. إن كل مشاهد الموت والدمار لن تقتلعنا نحن المسيحيين من أرضنا، لأن أرض مسيحيي انطاكيا هي كينونتهم، وإن أجراس كنائسنا التي قرعت وتقرع من غابر الأيام ستقرع دوماً بعنفوان وقوة، وستسمع صوت المحبة والتآخي مع الغير إلى أقاصي الأرض. أجراس إنطاكيا أجراس محبة وتآخي لا تسكتها وعورة التاريخ ولا تنيخها صعوبات الحاضر التي لن تزيدنا إلا تشبثاً بالأرض ورجاء وطيداً يمحو رماد التجارب.
من على هذا المنبر، من البلمند الذي سقيته من إكسير محبتك، والذي اعتادك أباً وواعظاً ومدبراً لعروسة المسيح، أطلب منك أن تذكر هذا المشرق والعالم كله في صلاتك. أسألك بكلمات شفيعك القديس اغناطيوس الإنطاكي أن تصلي من أجل الكنيسة التي في سوريا التي المسيح ناظرها ومحبتك. اسال المخلص أن ينزل على سوريا الحبيبة سلامه الإلهي، وسله أيضاً الرأفة بإنسان هذه البلاد والشفقة بالذين أخطأوا. وأعوزهم مجد الله. قل له إننا لا نخشى التجارب لأننا نستمد من محياه مواطن القوة، لكننا بالنهاية بشر تجتاحنا الرهبة أمام تجرع كأس الآلام. قل للمخلص إننا نفتقد أخوينا المطرانين يوحنا وبولس ونسألك حفظهم وردهم وسائر المخطوفين سالمين معافين
أرنا يا سيدي من عليائك وتعهد لبنان الغالي، وسل المخلص أن يغرس سلامه في ربوعه وفي قلوب بنيه، فيعرفوا جميعاً أنهم مؤتمنون على بلد الأرز الغالي ويتعلموا من الأرز الذي يبسط أفنانه أفقياً ويرتقي أعلى الجبال، أن بلوغ المجد والعلى والرقي بالدولة والمجتمع يتم بمد اليد أفقياً وبملاقاة الآخر وقبوله والنهوض معه بأعباء هذا الزمان. لقد ائتمنك المخلص يا سيدي على كنيستنا التي، على عهدك لملمت جراحها واستعادت وحدة كنسية صدعتها أهواؤنا. صل إلى الرب أن يمسحنا جميعنا ببلسم حكمته لنصون هذه الكنيسة واحدة لا غضن فيها ولا شائبة. صلِِّ إليه أن يفقه أبناءك في إنطاكيا ويزرع في قلوبهم أن كنيسة من تسموا أولا مسيحيين، جديرة وتستحق منهم كل الجهود التي تصونها واحدة يتجلى فيها رونق وبهاء الرب يسوع. سله أن يقتنف عالمنا وبلداننا بظل جبروته الإلهي ويمسحها بفيض شفقته الربانية، هو المبارك والممجد اب الدهر آمين”.
بعد القداس افتتح البطريرك يازجي معرض صور تذكارية عن البطريرك هزيم في قاعة الدير . ومن ثم تقبل وعائلة اغناطيوس التعازي في قاعة استقبال الدير.
كلام الصورة
البطريرك يازجي مترئساً القداس الإلهي