قراءة في كتاب “في حَنايا القلب” للشّاعر المُغترب خليل يوسف طربيه

 

وْشو حِلو على عتبة السّبعين يطلّ البكر مولودَك  

    نَكْهَة مِن عَرَق الخَوابي المَرْصوفي بأقبية تنورين،

  عن الغربة بيحكي كتابك، عن عُصارة السّنين،

  عن شموخ الأرز الحامِل لَواعِج الحَنين

   وكأنّو عاش بِحَنايا قلوب أَحْبابَك..

   قصايدَك متل النّقطة بآخِر السّطر،

   متل الصّفصاف المِتدلّي على حْفاف النّهر،

   متل الشّربين الشّاقِق قلب الصّخر

   وفِكرو يرتاح بفيّة عتابَك.

” في حَنايا القلب”، وَقفة وِجدان على عتبة السّبعين!  حروف مِن مَقْلَع أَفْكارَك!

هذا أنت.. الشّاعر خليل يوسف طربيه تبدعُ حيثُ يحلو الإبداع.

تفيضُ ” في حَنايا القلب”، ضيعتُك تنورين بعبقِ بخورِ أرزِها، ورائحة ترابها، وخيرات ينابيعها، وإطلالة شلّالاتها الخلّابة، لكنّ القلب كانت أحاديثُه تنطلق من بلاد الاغتراب،( كشمس الصّباح الـ منها المعرفة بِتْصُبّْ، تحاكي ضمير العالم بهالكون، تْوَعّي عقول البَعِدْ غِفياني ص 6).. وَكمعولٍ يحفر في أرضها، هذا القلب الّذي عاشَ ينبشُ في ثلجها، وَما يَكِفُّ يسألُ عن ذكرياته في ربوعها.

حَسَنًا فعلتَ يا زميلَ الحرف أَنِ اخترتَ “في حَنايا القلب” عنوانًا لكتابك، فهذا العنوانُ شعريٌّ بامتياز، ولعلّ شعريّتَهُ تتجلّى في إضافة “على عتبة السّبعين”، فهذه الصّورة تنتمي إلى الواقع المحسوس، إلى كلمةِ القلب المجرّدة. فالتَّجاورُ بينَ هذه الكلماتِ العنوانِ الكبير، يُطلِقُ شرارةَ الشّعرِ التي تُحرِقُ وَتُضيء. كيف لا والشّعرُ ليسَ يَصْدَحُ إلاّ من حَنايا القلب، ولَيْسَ سوى تجريدِ المحسوس، وتجسيدِ المجرّد، على أنّ كلمة “حنايا ” وَمُشتقّاتِها وَرَدَت بين الحروف والسّطور، وَحَسْبُنا أن نذكرَ في هذا السّياق: قصيدة عيد الأب، وسطيحة النّسيان، ومناجاة الأم، حيث تناولتَ الأمّ في كل مفاهيمها إذ شملت قصيدتك هذه؛ الأمّ الروحيّة، والأمّ البشريّة، والأرض الأمّ، لننتقلَ الى قصيدَتَي ” ضيعتي” و ” عذرًا يا تنورين”، مرورًا بقصائدَ غزليّة ووجدانيّة مهداةٍ إلى جميع أفراد عائلتك، إلى سِتّ الحّلا، إلى البنات، والأحفاد، والأصدقاء، فتستوقفنا كلّها، لاسيّما قصيدة الإهداء إلى سيادة المطران أنطوان شربل طربيه السامي الاحترام بمناسبة ارتسامه.

    يحتوي” في حَنايا القلب”، على اثنين وثلاثين قصيدة ممتدّةٍ في حروفٍ وسطورٍ مكشوفةٍ على مدى ستين صفحة كتبَها صاحبُها بدقّة وإتقان في عددٍ مِنَ الأَعْوام، كمَن يعتّقُ خمرةَ أفكاره، أيْ أنّنا أَمامَ شاعرٍ لا يَتَّخِذُ الشعرَ حرفةً له، إِنَّما يُمارِسُهُ على سبيل الهواية المحبّبة. فهذا المحتوى ذو مستوياتٍ نصّيّة متعدّدة من ناحيتَي الشّكلِ والمضمون وتعدّد الأغراض الشّعرية.

ففي الشّكل، نَقَعُ على القصيدة المحكيّة ذات القافية الواحدة، وعلى القصيدة المتعدّدة القوافي، وعلى القصيدة الزجليّة، وعلى أبيات العتابا، وأبو الزّلف، والميجانا. والجدير بالذّكر أنَّ الدَّرجة الشّعريّة في هذا الكتاب جدًّا وافية، فالشّاعر طربيه قد كوَّنَ في قلبِ كلّ قصيدة حِرَفيّة شعريّة ممتازة.

أمّا في المضمون، فقد تَعَدّدت المواضيعُ الشّعريّة، وَتَراوحَت بين العائليّة، والوطنيّات، والغزل. وهنا، نُشيرُ إلى أنَّ درجة العاطفة فيها عالية، وممّا لا شَكَّ فيه أَنّ ذلكَ يعودُ إلى قربِ الشّاعر إلى ذاتِهِ أقرب ما يكون، كون الشّعر ينبعُ أوّلاً وأخيرًا من الذّات، سواء في اختلاجاتها الداخليّة، أو في تفاعلِها مع العالمِ الخارجيّ باختلاف أنواعه.

   ولَعلَّ الورق لا يتّسعُ للكلامِ على كلٍّ مِن هذه الأغراضِ على حِدَة، إِنَّما لا بُدَّ لَنا من الإضاءةِ على البُعدِ الوجدانيّ في هذا الانتاج، والإشارة إلى استخدامِ الشّاعر طربيه تقنيّةَ الالتزام بأسلوبه الخاصّ، فأدخلَ المفردات في دلالاتٍ جديدة وعَلاقاتٍ تركيبيّة إبداعيّة، وهنا تَكْمُنُ اللّعبةُ الشّعريّة في نصوصِه، لاسيّما وأنّه قد تَجَنَّبَ الغموض والتّعقيد.. فَبِالانتقالِ إلى شرح بعض الرّوحانيّات، نُشيرُ إلى مقتطفات من قول الشاعر في قصيدة “عتبة السبعين ص 4”:

كمشة عقود مكلّلي بالنّور/ حكاية تأمُّل عَيْشنا حَلّوا

الله عَطانا زهور موزونين / وكل زهرة تاج فوق الخد

مش بالسّنين منحسب الأعمار / العمر حب وناس ومحبّين

وهو لم يبتعدْ بكلمة النّور عن المعنى الحقيقيّ لها، كونه يقصد النّور الرّبّاني الممتدّ من كَفَّيّ يسوع، ليعودَ فيطلقَ في قصيدة ” المحبّة ص 9″، نصيحةً إنسانيّة وحكمة عليّة بقوله:

نصيحة حقّ هالحكمة العليّة / المحبة طاهرة لا تهملوها

لأنها مقدّسي حرّة وفيّة / حَرام ان كان ما بتقدّروها

كما يتمَوْضَعُ بمِجدافٍ يمرُّ على الوريد في سَفينَةٍ تعبرُ العُمر حين يضيف إلى تلك الأبيات قولَه في قصيدة ” ذِكرى ص 5″:

مع رفيقة طريقي اللّي بجلّا / سِرنا الدّرب وِالمَبدا ضَماني

شكرنا الرّب عنّا ما تخلّا / بخمس زهرات زَيّنْلي زَماني

    وَأخيرًا نعودُ لنؤكّدَ أنّ هذا المؤلَّف نافذةٌ إذا فتَحْتَ مداها، رَأَيْتَ مجموعةً في أَنفاسٍ شعريّة، مُتَعَدِّدَةَ المُسْتَوَياتِ والأشكالِ والأغراض، وكلّ سطرٍ مقطوفٍ من سامقاتِ القُطوفِ، لِذا فَمنَ الطّبيعيِّ أن تلقى التّقدير تِبْعًا لِقُدْرَةِ الآذان على الإصغاء، وقدرة القلوب على التّفاعل، وقدرة الأرواح على التّواصل مع كاتبها. فهنيئًا لك ولنا ” في حَنايا القلب “.

                 ( لبنــان – في 3 / 10 / 2018 ) 

اترك رد