في أمسيةٍ صيفيّةٍ، على مِنبرِ الشِّعرِ، كانَ اللقاءُ معَ الشّاعرِ ريمون شبلي. ومَا يجمعُهُ الشِّعرُ يباركهُ اللهُ.
قرأتُهُ، عرَفتُهُ، صادقتُهُ. ومن يومِها، أخذَتْ قامتُهُ الأدبيّةُ والإنسانيّةُ تَتبلورُ لي شيئًا فشيئًا. عند كلِّ محادثةٍ تُطالِعُني فيهِ ميزةٌ جديدةٌ لم أكُنْ في واردِها؛ هذا الرَّجلُ المتواضِعُ، الفخورُ بعزّتِهِ، مرَّ عليهِ أحلَى العواطِفِ وأَمَرُّها، ما جعَلَهُ ذا فكْرٍ عميقٍ وإحساسٍ مُرهفٍ، تطايرَتْ إشعاعاتُهُ كلَّما دعَتِ الحاجةُ. ريمون شبلي عانَى ما عاناه ظرفيًّا وفكريًّا وتأمُّليًّا. كوني أُنثَى، أوَّلُ ما لَفَتَ انتباهي، في أشعارِهِ الأخيرةِ، هو تجسيدُهُ المعاناةَ معَ مرضِ زوجتِهِ بموضوعيّةٍ فائقةٍ، تُبرِزُ حقيقةَ النّفْسِ البشريّةِ في هذهِ الحال. كانَ الحِمْلُ ثقيلًا موجِعًا لا يقدِرُ عليهِ إلّا مَنْ كانَ سويَّ الشّخصيّةِ. قَاومَ بصبرٍ وبعِنادٍ، وتحمَّلَ؛ فلم يهرُبْ من المسؤوليّةِ والوجعِ. بادَلَ زوجَتَهُ الإخلاصَ والوفاءَ، ليس حينَ كانَتْ قويّةً وجميلةً فقط، بل وهي على فراشِ الموتِ. تألّمَ مع ألمِها، ناضَلَ مع نِضالِها وقاومَ مع مقاومتِها… وكانَ في الحُبِّ، في اللهِ. وكانَ فعلُهُ فعْلَ تضحيةٍ وبذلٍ وعطاءٍ.
هذهِ المرحلَةُ انعكستْ عليهِ نِتاجًا أدبيًّا ترجمَ فيهِ رؤْيَتَهُ الحياةَ والآخرَةَ، وشكّلتْ لهُ قفزَةً جديدةً نحو عالَمٍ آخرَ، قِوامُهُ ثباتُ إيمانِهِ بالـمُطلقِ، بالخالقِ، بالماورائيّاتِ وبوَحدةِ الوجود. راحَ إلى حدودِ الفلسفَةِ يطرِّزُها بأبياتٍ شعريّةٍ وبِصُوَرٍ حركيَّةٍ، كأنّهُ يقولُ: من رحِمِ الآلامِ تولدُ الحقيقةُ أو تظهرُ لا فرْقَ. لم ينكسِرْ للأحزانِ، ولم ينهزِمْ للأوجاعِ، ولم يتنازلْ عن قلبِهِ وعقلِهِ، فصالَ وجالَ على أوراقِهِ مُبْدِعًا مفكِّرًا ثائرًا في أبلغِ تعبيرٍ وأصدقِ مشاعِرَ وأحسنِ ألفاظٍ. هو صاحبُ موقِفٍ، يواجِهُ برأيٍ سديدٍ. شجاعٌ دِفاعًا عن قناعاتِهِ ومبادئِهِ. يستحضِرُ القديمَ العتيقَ ويصوغُهُ زنّارًا مكرَّمًا بأصولِ الأدب. لا تنافرٌ بين الكلماتِ ولا حشوٌ. يجمعُ ويُؤلِّفُ ويضعُ اسمَهُ بين الأسماءِ المشرِقةِ في الشِّعرِ والأدب. قصّتُهُ مع الكِتابةِ خمسينيَّةٌ، وفصولُها تسعَةَ عشرَ كِتابًا، تتوزّعُ بينَ الشِّعرِ والنَّثرِ والنَّقد. فلكلِّ كتابٍ لونُهُ الخاصُّ الّذي يحدِّدُهُ طبعُهُ وموهبَتُهُ. وهو يُراعي الجماليَّةَ في لُغَتِهِ. أدَبُهُ مُصفًّى كماءِ جدولٍ عذبٍ، يُروي كلَّ سائلٍ. كتَبَ مواضيعَهُ بحرارةِ الحُبِّ وقوّةِ المنطق؛ ففي كلِّ ما قدَّمَ كان واضِحَا غيرَ مُبهَمٍ ، يُعلِنُ آراءَهُ ببلاغةٍ ترفعُهُ ولا تُبْعِدُهُ، تُبْرِزُهُ ولا تُغيِّبُهُ. عباراتُهُ تأخُذُنا إلى رِحابِ التأمُّلِ في كلِّ نوعٍ ممّا كتَبَ، لأنّهُ، في كلِّ مَرَّةٍ خطَّ قلمُهُ فكرةً ما، كان يرمي فيها إلى رسالةٍ معيَّنَةٍ تؤهّلُنا لأن نسرَحَ في آفاقِها، ونُحلِّلَ معها ونفكّرَ فيها. معانيهِ حاضرةٌ في وقتِها، فيها من الخيالِ وألوانِ الجمال. تحلو لك قراءتُه، إذ يتكشّفُ معهُ الواقِعُ الحقيقيُّ شِعرًا ونثرًا. هو يرسُمُ بحروفِهِ ما يراهُ ويُحِسُّهُ ويقدِّمُهُ لنا لوحةً متناسِقةَ العناصِرِ جاهزةً للاستيعابِ بذوقٍ راقٍ ومستوًى فنّيٍّ رفيعٍ لا يُدرِكُهُ إلّا مَن أُعطيَ مجدَ الموهبَةِ.
ما جِئتُ اليومَ لتقويمِ إبداعِ ريمون شبلي بل لأقولَ ما لم أكُنْ أعرِفُهُ عنهُ: شاعرٌ أنيقُ الـمَظْهرِ نَظيفٌ شكلًا ومضمونًا، ومِن شدّةِ دِقَّتِهِ وحساسيتِه والتزامهِ قد يخسَرُ بعضَ الأصدقاءِ، ولكنّهُ يربحُ صورتَهُ الزّاهيَةَ “الـمُعتَكِفَةَ” بأجنِحةِ السُّمُوِّ غيرِ الآبهةِ لرضى الآخرين. إنَّهُ يَعي أنَّ ضميرَهُ حيٌّ، وأنّهُ قادرٌ على استنباطِ الحقيقةِ وسْطَ هذا الكمِّ من الزَّيْفِ والتِّيْهِ والعَتَمَةِ. ريمون شبلي النّاشِطُ اجتماعيًّا وثقافيًّا وأدبيًّا والـمُتصدِّرُ تربويًّا هو ابْنُ لحظةِ الإبداعِ والخلقِ. تراهُ يكتُبُ وينقُدُ ويَعصفُ بالحقِّ، وتراهُ رجلًا محافظًا خلوقًا يبتعدُ عن البشاعةِ مقدارَ ما يُحارِبُها وينهَرُها. يُتقِنُ صديقي لُغَةَ التّقاربِ لفظًا وممارسَةً حياتيّةً يوميّةً، إنْ في خِطابِهِ اليوميِّ أو في تصرّفاتِه أو في كتاباتِه. ريمون شبلي لايستعملُ المفرداتِ البذيئةَ التي لا تُرضي الذَّوقَ العامَّ حتّى في نقدِهِ. لقد تميَّزَ بقوّةِ ملاحظةٍ جعلتْ شِعرَهُ ساطِعًا بالحياة. حِسُّهُ الأدبيُّ دفعَهُ إلى الحداثةِ من بابِ التُّراثِ الشعريِّ. لم يكتبِ القصيدةَ بروحيَّةِ العناصرِ القديمةِ، وإنّما كتَبَها مرآةً لتطلُّعاتِهِ إلى الحريَّةِ، ولأبعادِهِ الرؤيويَّةِ مُتخطّيًا قيودَ النَّظْمِ إلى الحركيَّةِ المتنقّلةِ “من … إلى” حتى يكونَ من حمَلَةِ أصولِ الشِّعرِ وتقديمِهِ بصيغةٍ تلائِمُ الخِطابَ السّائدَ في أيّامِنا، أو باللغة الشعريّةِ المتمثِّلةِ بظواهرَ يقبَلُها البعضُ ويرفُضُها الآخرون. أعطى، في هذا المجال، معنًى للقصيدةِ يُشبِهُ شخصيّتَهُ الملتزِمةَ والحرّةَ في آنٍ. يحضُرُني، هنا، ميخائيل نعيمه، يقول: “…بل كيفَ يكونُ أديبًا مَنْ لا يُحِسُّ جذورَهُ في الأزلِ والأبدِ، ولا يُحِسُّ ما مضى وما سيأتي!”.
نعم، في قصيدةِ صديقِنا الشّاعرِ ريمون شبلي المبنى يُلازِمُ المعنى. هو من ذوي الأصالةِ الذينَ يتفاعلونَ ويُدركونَ ويكتبونَ بصدقٍ! وما الصّدقُ إلا ميزةُ الفنِّ الأولى، وما أدواتُهُ إلا ما نعيشُهُ في ظرفِنا وفي أسلوبِنا. وهنا أقولُ: إنَّ شعراءَ وطنِ الحريَّةِ لبنانَ قد أَعطَوا هذا الفنَّ إبداعًا لن تعيقَهُ ممنوعاتٌ كالتي في غيرِ بُلدان. وبعضُ شعراءَ لبنانيين قد مشَوا طريقَ الحداثةِ وما بعدَها من غيرِ تعثُّرٍ، آخذينَ المعاني من واقِعِهِم وخيالِهِم.
وماذا بعدُ يا صديقي؟ كم من التدفُّقِ الجميلِ في جُعْبَتِكَ! وكم تحمِلُ لنا من قِيَمِ الشِّعرِ والإنسانيّةِ التي تجلَّت في رجائِكَ الـمُشِعِّ نورًا وجمالًا، في كلِّ ما سَكَبَتْ أفكارُكَ ومشاعِرُكَ من حبِّ اللهِ والإنسانِ والأرضِ!سعيدةٌ أنا في وِقْفِتي، اليومَ، وأشهدُ أنّنا لا نزالُ في خيرٍ ما دامَ بينَنا مَنْ يَخُطُّ الكلمةَ فِعلَ رجاءٍ في مسارِهِ ومسيرَتِهِ.
****
(*) أَلقيتُ في حفلة تكريم الشّاعر ريمون شبلي التي نظَّمَها “التجمُّعُ العائليُّ لساقية المسك وبحرصاف”، في “فندق النّعص الكبير” – بكفيّا، مساء السّبت 10-11- 2018.